"تدل تجارب الأقليات في العالم على أن الحفاظ على حقوقها الجماعية كان مرهونا بالاعتراف الرسمي والفعلي بلغاتها. وبطبيعة الحال لا يتم هذا الأمر إلا إذا قامت الأقلية باستعمال لغتها وفرضها على الدولة ومؤسساتها. في كندا مثلا، لم يتم الاعتراف الرسمي والفعلي بلغة الأقلية الفرنسية، التي تشكل نحو 24 %، إلا بعد أن تمسكت هذه الأقلية وقياداتها ومؤسساتها بلغتها واستعملتها في تعاملها مع الدولة"- هذا ما جاء في مستهل مبادرة مشتركة تدعو إلى تعميق المعركة من أجل الاعتراف باللغة العربية في إسرائيل كتعزيز لحقوق الناطقين بها، عممها د. مروان دويري، رئيس إدارة عدالة- المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل والمحامي حسن جبارين، مدير عام عدالة، ووصلت نسخة عنها إلى "المشهد الإسرائيلي".
هنا النص الكامل لهذه المبادرة:
يعني الاعتراف الرسمي والعملي في اللغة، أن تستعمل الدولة ومؤسساتها هذه اللغة، وأن يكون استعمالها في متناول يد الجميع الأمر الذي يؤدي إلى تعزيز حقوق الأقلية في التعليم ودمج الناطقين بهذه اللغة في جميع الدوائر الرسمية مثل الوزارات والمحاكم والمكاتب الرسمية والمؤسسات الثقافية والاقتصادية والإعلام. هكذا يحصل تطور جدي في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للأقلية، لذلك فإن الأقليات التي حصلت على الاعتراف بلغتها لم تعد بحاجة للأوتونوميا الثقافية كما هي الحال في كندا وبلجيكا وسويسرا، لأن اللغة ليست مجرد وسيلة اتصال بل هي مكون رئيسي في كيان الدولة.
لقد دأب القائد توفيق زياد على التأكيد على أن قضية المواطنين العرب في إسرائيل هي قضية "كرامة وخدمات". لقد قرن هذا القائد الكرامة بالخدمات لينبّه إلى أنه لا يمكن تحقيق المساواة في هذه الدولة إلا إذا حافظنا على هويتنا وتراثنا وثقافتنا. بطبيعة الحال تشكل اللغة العربية مركبا أساسيا في الثقافة والهوية العربيتين وعليه، فلا يمكن المحافظة على الهوية والثقافة العربية إذا ما ضاعت اللغة العربية فالمرء يفكر ويشعر بلغته، لذا فعند فقدان لغته يتغير حتما فكره ووجدانه.
رغم سياسة التمييز والتهويد والصهينة، بقيت اللغة العربية من الناحية القانونية لغة رسمية في الدولة أسوة باللغة العبرية، وذلك استمرارا لمرسوم المندوب السامي رقم 82 الذي تبنته الدولة منذ قيامها بعد أن ألغت الصفة الرسمية للغة الإنجليزية التي كانت رسمية في فترة الانتداب. ومع هذا لم تحترم الدولة القانون الذي وضعته بل وعملت على تغييب العربية. المحكمة العليا لم تكن حازمة في فرض مكانة اللغة العربية إلا أنها لم تقرر أبدا منع العرب من استعمال لغتهم وأحيانا فرضت على السلطات استعمالها.
رغم أن اللغة العربية تعتبر رسمية في الدولة، إلا أنها من الناحية العملية تكاد تكون غائبة في الساحة الرسمية والجماهيرية وفي علاقة المواطنين العرب بالدولة ومؤسساتها وذلك نتيجة سياسة الدولة الرسمية. جميع المراسلات والجلسات بين قيادة الجماهير العربية ومؤسساتها وبين مؤسسات الدولة تجري باللغة العبرية. قسم كبير من التواصل بين هذه القيادات والمؤسسات العربية، وبينها وبين الجمهور يجري أيضا باللغة العبرية. معظم اللافتات داخل المدن والقرى العربية مكتوبة باللغة العبرية. اللغة المتداولة بين المهنيين العرب هي خليط من العربية والعبرية.
وهكذا فمن خلال عدم استخدام المواطنين العرب وقيادتهم للغة العربية، إنما يخففون على الدولة عبء التعاطي باللغة العربية وعبء المصاريف المترتبة على ذلك. لقد مكن هذا الوضع الدولة من أن تكسب مرتين: مكنها من تجسيد يهودية الدولة من جهة، وفي نفس الوقت أعطاها إمكانية الاستمرار في التبجح أمام العالم بأنها دولة ديمقراطية تعطي لغة الأقلية العربية فيها مكانة رسمية من جهة أخرى
حين نسأل اليوم المسؤولين في السلطات المحلية العربية عن سبب عدم مراسلة الوزارات باللغة العربية نلقى استغرابا وكأن السائل إما ساذج أو محلق في فضاء التنظير بعيدا عن الواقع الإسرائيلي. الغريب، أن هذا السؤال أصبح نشازا فقط في العقود الأخيرة. ففي سنوات الحضيض، سنوات الحكم العسكري كان طبيعيا أن تتلقى المكاتب الرسمية في الدولة وتعالج رسائل المواطنين العرب باللغة العربية. أما اليوم بعد سنوات "الصحوة" بعد يوم الأرض وبعد تأسيس لجنة المتابعة العليا وتأسيس الأحزاب العربية الوطنية حيث أصبح بإمكاننا خوض نضال جاد من أجل فرض اللغة العربية، فقد حصل تراجع في استعمال اللغة العربية وأصبحت ممارسته أمرا مستغربا ونشازا. كيف ولماذا؟
"سياسة الإنهاك" والاضطهاد أفقدت التوازن بين الخدمات والكرامة
لم تكن مسيرة المواطنين العرب في الدولة مسيرة مفروشة بالورود بل كانت مسيرة طويلة ومريرة ضد سياسة التمييز والاضطهاد القومي. كل حق انتزعه المواطنون العرب في هذه المسيرة مر من خلال عملية نضالية شاقة ومقارعة طويلة تخللت التصدي للتمييز وملاحقة المماطلات والتسويف إلى أن تم تحقيق ما يمكن تحقيقه. إنها سياسة إنهاك تعتبر جزءا لا يتجزأ من سياسة التمييز، تهدف إلى استنزاف طاقات الأقلية في معركة البقاء والحؤول دون التقدم نحو المعركة على الهوية. خلال هذا النوع من العلاقة مع السلطات يصعب المحافظة على التوازن المطلوب بين مطلبي الخدمات والكرامة وتجري عملية مساومة براغماتية، ربما غير واعية، وربما مبرره أحيانا، فضل خلالها المواطنون العرب الحصول على القليل الذي يضمن بقاءهم.
خلال هذا النوع من العلاقة أصبحت اللغة العربية في أذهاننا مجرد آلية تواصل غير ملائمة لا تشكل مركبا مركزيا في "سلة" الحقوق القومية بل ربما بدت عائقا في سيرورة المراسلات والمقارعة مع المؤسسات الرسمية.
بعد نكسة 1967 وبعد زوال إمكانية الحل الآتي من الخارج، انتقلت معركة المواطنين العرب في الدولة إلى ساحة المواطنة الإسرائيلية. في تلك الفترة بدأ المواطنون العرب يشحذون طاقاتهم وأسسوا تنظيمات تمثيلية مختلفة أهمها لجنة الدفاع عن الأرض التي قادت الجماهير نحو تصعيد المعركة للدفاع عن الأرض. جنبا إلى جنب مع هذا المد الوطني وتأسيس لجنة المتابعة العليا جرت عملية انخراط أعمق للمواطنين العرب في المجتمع الإسرائيلي. فقدان الأرض جعل المواطنين العرب مرتبطين بسوق العمل الإسرائيلي مما حول إتقان اللغة العبرية إلى كفاءة ضرورية للبقاء. ومع تخرج عدد من المثقفين العرب من الجامعات الإسرائيلية أصبحت اللغة العبرية لغة المتعلمين والمهنيين والمثقفين وأصبحت مؤشرا للمكانة الاجتماعية والثقافية. ومن جهة أخرى ومع استمرار الاضطهاد والتمييز كان من الطبيعي أن يلجأ البعض في فترات المحن إلى إخفاء هويتهم ولغتهم العربية أمام الآخر لعله يحمي جلده من هذا الاضطهاد. مؤخرا ومع استفحال البطالة انتشرت ظاهرة تقديم طلبات لوظائف بأسماء عبرية مستعارة. هكذا ومن خلال عملية الخوف من القاهر والتماهي معه، كما يحصل دائما في علاقة المقهور بالقاهر، تسربت اللغة العبرية إلى عقولنا وقلوبنا ليس كلغة فحسب بل كفكر وكموقف.
إن تجسيد المساواة بين اللغة العربية والعبرية في الدولة لا يعتبر ترفا وليس تمسكا باللغة فحسب، بل إنه أمر جوهري يجعل الدولة ثنائية اللغة ويرفع من مكانة المواطنين العرب في أذهان السلطات الإسرائيلية والجمهور. إن ممارسة اللغة العربية بين المواطنين العرب ومؤسسات الدولة يغير في إدراك ووعي هذه المؤسسات وفي وعي الجمهور اليهودي الذي بدأ منذ مدة بإخراج الوجود العربي من وعيه.
لا بدّ من وضع خطة للدفاع عن اللغة العربية
بعد مرور بضعة عقود على تراجع اللغة العربية بدأ في السنة الأخيرة تحرك خطير لإلغاء الصفة الرسمية للغة العربية أيضا عن الورق. المركز الإسرائيلي للديمقراطية وبالتنسيق مع لجنة القانون والدستور في الكنيست وضع مسودة دستور للدولة تجري مناقشته حاليا يعطي للغة العربية "مكانة خاصة" فحسب وليست "رسمية" كما هي الآن. إنه تحرك يقصد به تشريع ومأسسة التراجع الحاصل في مكانة اللغة العربية وإسقاط هذا الحق في القانون. إنه مؤشر خطير يستلزم وضع خطة مبرمجة للتحرك السريع ولإعادة التوازن بين الخدمات والكرامة.
إن المعركة من أجل تحويل اللغة العربية من لغة رسمية على الورق إلى لغة التواصل بين المواطنين العرب ومؤسسات الدولة لن تكون معركة سهلة، بل هي معركة متواصلة وشاقة لكنها تستحق بذل كل الجهود لأجلها الآن مستخدمين القوة السياسية التي في أيدينا. الخيارات المتوفرة أمام المواطنين العرب قيادة وشعبا لا تنحصر بين التواصل في كل الحالات باللغة العربية وبين التواصل باللغة العبرية في جميع الحالات كما هو الأمر الآن. هنالك ثلاثة اعتبارات يجب أخذها في الحسبان أثناء العمل على إعادة التوازن بين الكرامة والخدمات:
الأول: أن الحفاظ على الكرامة يجب ألا يمس مجال الخدمات، إذ أن بينهما علاقة وثيقة، فلا يمكن تحقيق المساواة دون الاعتراف بالخاصية الثقافية والاجتماعية للآخر وفق مبدأ المساواة بين المختلفين وعليه فالاعتراف باللغة العربية هو تجسيد لمبدأ المساواة.
الثاني: هنالك ضرورة لاستمرار محاولاتنا لإيصال مواقفنا الحقيقية إلى الرأي العام اليهودي في الدولة الذي هو مصلحة من مصالحنا الإستراتيجية. وعليه فليس المطلوب اتخاذ موقف يحول دون استمرار هذا الحوار. ومع هذا فلا نعتقد بأن الوصول للرأي العام اليهودي يعني التخلي حتما عن استعمالنا للغة العربية.
الثالث: استعمالنا للغتنا العربية يجب ألا يحول دون استمرار استعمالنا للغة العبرية وتعاطينا معها في الحياة العامة.
التحرك المطلوب يتطلب مرحلتين:
الأولى: التحرك من أجل توعية جماهيرنا العربية وتجنيدها في هذه المعركة. الثانية البدء فعليا بممارسة اللغة العربية في تعاملنا مع مؤسسات الدولة والرأي العام. ربما أن المرحلة الأولى هي الأصعب لكن إذا تخطيناها بنجاح سنكون جاهزين للمرحلة الثانية.
في المرحلة الأولى علينا أن نتدارس فيما بيننا أين نبدأ وأين نستطيع فرض اللغة العربية. هنالك أسئلة عينية يجب تدارسها: هل من المفيد أن يلقي أعضاء الكنيست العرب خطاباتهم ويكتبوا رسائلهم باللغة العربية؟ هل من المفيد أن تخاطب السلطات المحلية العربية وتراسل المسؤولين في الوزارات المختلفة وتقدم الميزانيات بالعربية؟ هل تتوجه التنظيمات غير الحكومية إلى السلطات باللغة العربية. هل يرافع المحامون العاملون في المجال الجماهيري، كمحامي عدالة، باللغة العربية؟ هل تستطيع لجان الطلاب الجامعيين مراسلة مكاتب الجامعات وتوجيه الطلاب إلى مراسلة الجامعات بالعربية؟ هل يستطيع المواطن العادي مراسلة مؤسسات الدولة كأقسام ضريبة الدخل والتأمين الوطني بالعربية؟
نظرا لأهمية المعركة على اللغة، من المحتمل ألا تتورع السلطات الرسمية عن الرد بأشكال مختلفة بضمنها محاولة إلغاء الصفة الرسمية للغة العربية بحجة أن الأمر يهدد يهودية الدولة، الأمر الذي يضع حدا لتبجحها أمام العالم بأنها دولة ديمقراطية. أما من جهتنا فعلينا مواصلة هذه المعركة بحكمة، مستخدمين جميع طاقاتنا أسوة ببقية الأقليات في العالم التي نجحت بفرض لغتها على الدولة.
لكي يكون دفاعنا عن اللغة العربية مدروسا هنالك ضرورة لبحث الموضوع في لجنة المتابعة العليا وفي الأطر المكونة لها بهدف وضع خطة وانتخاب "لجنة الدفاع عن اللغة العربية" أسوة بلجنة الدفاع عن الأرض.