إن هذا الكتاب(*)، المسمى بالتقرير، هو كتاب مهم لانه يتفقد احوال اليهود في العالم، محللاً الوضع الذاتي للتجمعات اليهودية في العالم وفي اسرائيل، ويضع هذه التجمعات في اطارها الاقليمي والدولي، ومن ثم يحلل طبيعة العلاقة بين يهود اسرائيل ويهود الشتات. فهو تارة ينتقد، وتارة يقدم النصيحة، وفي كل الحالات يضع عينه على رفعة اليهود وتقدمهم وتمكينهم وزيادة قوتهم. وقد ترجمت هذا التقرير لأهميته، ونشرته مؤسسة "مدار" (المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية) المتخصصة بالشؤون الاسرائيلية قبل أيام. وكان من المفروض ان يكون هذا المقال مقدمة للترجمة العربية إلا إنني لم استطع إنجاز ذلك.
إن هذا الكتاب(*)، المسمى بالتقرير، هو كتاب مهم لانه يتفقد احوال اليهود في العالم، محللاً الوضع الذاتي للتجمعات اليهودية في العالم وفي اسرائيل، ويضع هذه التجمعات في اطارها الاقليمي والدولي، ومن ثم يحلل طبيعة العلاقة بين يهود اسرائيل ويهود الشتات. فهو تارة ينتقد، وتارة يقدم النصيحة، وفي كل الحالات يضع عينه على رفعة اليهود وتقدمهم وتمكينهم وزيادة قوتهم. وقد ترجمت هذا التقرير لأهميته، ونشرته مؤسسة "مدار" (المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية) المتخصصة بالشؤون الاسرائيلية قبل أيام. وكان من المفروض ان يكون هذا المقال مقدمة للترجمة العربية إلا إنني لم استطع إنجاز ذلك. وأود ان أشكر دار "مدار" ورئيسها أكرم هنية على الجهد الذي يبذلونه بنشر الوعي عن اسرائيل واليهودية والصهيونية من خلال نشر الكتب والدراسات والمقالات المفيدة لهذا الغرض. وبسبب ان هذا المقال كان من المفروض ان يظهر كمقدمة للكتاب، لم يجر تلخيص المادة للقارئ. وعلى أي حال، يمكن استنتاج أهم المقولات الواردة في التقرير من التقديم الذي كتبه دينيس روس للتقرير، ومن مقدمة رئيس المشروع البروفيسور في الجامعة العبرية في القدس، سيرجيو ديلا بيرغولا. ولكنني أود ان اشير إلى ما لفت انتباهي في هذا التقرير.
ملاحظات عامة، لكن ضرورية، حول التقرير:
1- عنوان التقرير هذا هو "الشعب اليهودي 2004: بين الازدهار والانحدار". وهو نفسه، ملخص لمجلد اضخم في هذا الموضوع، صدر عن المعهد. وهذا التقرير هو ما يسمى "بالملخص التنفيذي"، الذي يقدم لاصحاب القرار للاطلاع عليه، بسرعة. فإن ارادوا الاستزادة، يمكنهم دائماً العودة للدراسة الاكبر في الموضوع.
2- صدر التقرير والمجلد عن "معهد تخطيط السياسة للشعب اليهودي"، احدى مؤسسات "الوكالة اليهودية لاسرائيل المحدودة." وهذا بحد ذاته يدل اولاً على اهتمام الوكالة اليهودية نفسها بدراسة اوضاع اليهود في العالم. وما كانت الوكالة اليهودية امرت بعمل هذه الدراسة لولا انها استشعرت أهمية المستجدات الكثيرة التي طرأت على حالة "الشعب اليهودي" في العالم، مما استدعى دراسة تلك المتغيرات. وأهم تلك المتغيرات، هي علاقة اليهود مع محيطهم، وعلاقة اليهود باسرائيل، او بالعكس علاقة اسرائيل باليهود، والنزاع الفلسطيني (والعربي) مع اسرائيل وتأثيره على اليهود في العالم، ودخول التكنولوجيا الجديدة كعامل من عوامل القوة في السيطرة والتقدم، بالاضافة إلى العديد من التفاصيل الصغيرة والكثيرة الاخرى في وضع اليهود.
3- ولان الوكالة اليهودية تستشعر أهمية هذه المتغيرات قامت، كما هو واضح، بتكليف عدد من تابعيها الثقاة، بعمل هذه الدراسة من خلال "معهد تخطيط السياسة للشعب اليهودي"، وعلى رأسه السيد دينيس روس، المبعوث الخاص السابق لرئيس الولايات المتحدة الاميركية لعملية السلام في الشرق الاوسط. ان تسمية دينيس روس، رئيساً لهذا المعهد، يلقي الشكوك ليس على دينيس روس، وإنما على مدى كون الادارة الاميركية تلعب دوراً وسيطاً نزيهاً في الصراع الاسرائيلي الفلسطيني والاسرائيلي العربي. فالسفير دينيس روس، رئيس المعهد هذا، له الحق ان يختار الجانب السياسي الذي يريد في النزاع الاسرائيلي العربي والنزاع الاسرائيلي الفلسطيني كما يشاء. وقد انحاز هو لاسرائيل واليهودية. وهذا امر عادي ومتوقع من رجل مارس يهوديته عن قناعة، كرجل سياسة اميركي ويهودي على حد سواء، وكرجل دين مدني حيث هو نفسه حاخام مدني. ولكن كان على الادارة الاميركية، وعلى رئيسها، ان يكونا اكثر حذراً في اختيار من يمثلهما في عملية السلام الوليدة بين الشعبين الاسرائيلي والفلسطيني وبين حكومة اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، على الاقل، حتى لا نتحدث عن الدول العربية وحكوماتها، بسبب احتمال وجود تضارب في المصالح الشخصية أو الفئوية من جهة والعامة من جهة اخرى. فكيف يمكن ان نتوقع ان يكون المرء في نزاع مثل النزاع الدائر عندنا نزيها ومحايداً. وهذا ايضاً ما يفسر سيل التهم الموجهة إلى السلطة الوطنية ورئيسها من قبل السفير المبعوث الخاص دينيس روس، رئيس مجلس ادارة المعهد، بعد، ما سمي، فشل محادثات كامب ديفيد، في نهاية عهد الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون.
4- وهذا التقرير ايضاً مهم. فقد شارك في اعداده ستة عشر باحثاً يهودياً واسرائيلياً يهودياً، برئاسة شخصيتين بارزتين، الاول مدني والثاني عسكري، وهما البروفيسور سيرجيو ديلا بيرغولا، والبريغادير جنرال عاموس جلبوع. يضاف إلى ذلك ان ترحيب اقطاب السياسة والمجتمع في اسرائيل، معارضة، وحكومة، ومتدينين، بالاضافة إلى قادة يهود في الخارج، بهذا التقرير، يعطيه ابعاداً اضافية، تجعل منه قراءة ملزمة لجميع المهتمين، يهوداً وعرباً، وفلسطينيين واسرائيليين واجانب. فالكتاب يحمل على صفحة غلافه الاخيرة شهادات ترحيبية بقلم شمعون بيريس، وبنيامين نتنياهو، رئيسي الحكومة الاسرائيلية الاسبقين، والحاخام اسرائيل مائير لاو، كبير حاخامات اسرائيل من 1993 – 2003، والسفير ستيوارت ايزنستات، وكيل مساعد وزير الخارجية ووكيل وزير الخزانة الاميركية السابق، وفرانسوا زيميري، عضو البرلمان الاوروبي ورئيس مركز "ميد بريدج" الاستراتيجي، والبروفيسور يهودا راينرتس، رئيس جامعة برانديس الاميركية.
مقارنة مع الوضع الفلسطيني:
اعتقد، ان علينا، نحن الفلسطينيون، أهمية مضاعفة، ان نقرأ ونفهم محتوى هذا التقرير، ليس فقط من باب ضرب المقاربات والمقارنات والتشبيهات، وإنما ايضاً لنتعلم ان مراكز البحث لها دور في الحياة السياسية يجب اعطاؤه لها بحكم القانون. لقد نص النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية بتشكيل مركز الابحاث الفلسطيني، ومركز التخطيط الفلسطيني. وتم الحاقهما برئيس اللجنة التنفيذية ل م.ت.ف. إنني لا أريد ان اتساءل عن دورهما الان، وقد لعبا ادواراً هامة في صياغة وصنع القرار السياسي الفلسطيني، وإنما أود ان اذكر باهمية الدور الاكاديمي والبحثي في حياة المجتمع والدولة، لان ذلك يقع في صلب العملية التنموية وفي صلب تدعيم المؤسسات الاكاديمية ورفع مستواها وتشجيعها على الاستثمار بالبحث العلمي في مختلف نواحي الحياة الوطنية.
في العلاقة بين اليهود واسرائيل:
يقدم هذا التقرير كذلك وجهة نظر مشتركة، داخل المؤسسة اليهودية الصهيونية الواحدة، في وضع اليهود في العالم، بما فيها اسرائيل. وربما يجب التوقف هنا عند هذه المهمة التي يدعيها التقرير. فهو يؤكد على الفروقات في وجهات النظر، بين يهود العالم واسرائيل، ويبين في اكثر من موقع ان اسرائيل تتبنى سياسات لا تأخذ بعين الاعتبار في غالب الاوقات، باستثناء وقت الازمات، حساسيات واحتياجات وآراء يهود العالم. ان التمايز والتباين على درجة التوكيد فيما يتعلق بمن يمثل المصلحة العليا "للشعب اليهودي" في العالم بمن فيهم يهود اسرائيل، هو مدار خلاف قوي. فيهود العالم، وهو التعبير الذي يسمى باللغة الانجليزية World Jewry، أي "وورلد جوري"، ينظرون إلى انفسهم على انهم الاطار الاوسع الذي يمثل اليهود واليهودية، بما في ذلك اسرائيل. وبصفتهم تلك، "وورلد جوري"، يعتقدون ان لهم الحق في التأثير على انصياع اسرائيل لمطالبهم. اما اسرائيل، واليهود فيها، فيعتبرون انفسهم على انهم دولة اليهود الوحيدة في هذا العالم، وبالتالي لها دالة عليهم ان ينصاعوا هم لاحتياجات ووضع اسرائيل. وهذا يطرح اسئلة مثل ما هو دور اليهود في العالم في عملية صناعة القرار وفي عملية اتخاذ القرار وفي عملية تطبيق القرار في اسرائيل، وما هي تداعيات التطبيق على يهود العالم وعلى يهود اسرائيل؟.
مقارنة بالوضع الفلسطيني مرة أخرى:
هذه النقطة بالنسبة لنا نحن الفلسطينيون هامة لاننا نعيش وضعاً مشابهاً بين الفلسطينيين في الخارج وبين الفلسطينيين في الداخل. وكذلك نعيش الفروقات الاخذة بالتوسع بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية. إن منظمة التحرير الفلسطينية تمثل كل الشعب الفلسطيني في كل اماكن تواجده، بينما السلطة الفلسطينية تمثل جزءاً من الشعب الفلسطيني، هو الموجود في المحافظات الشمالية (أي الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية) والمحافظات الجنوبية (أي قطاع غزة). وهذا الجزء من الشعب الفلسطيني يسعى للتخلص من الاحتلال الاسرائيلي ولاقامة كيانه السياسي المستقل أي دولته. وحاولت قيادة الشعب الفلسطيني ايجاد حل لهذا التمايز والتباين باجراءات عدة مثل ابقاء الوحدة بين رأس منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة في شخص الرئيس ياسر عرفات، من خلال ابقاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية هي مرجعية السلطة، ولكن الاحداث والتطورات فرضت تطوراً متوازياً، لا بل مستقلاً، لوزارة الخارجية عن الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية، والمجلس التشريعي عن المجلس الوطني الفلسطيني.
دلالات اجتماعية اقتصادية:
الطرح في هذا التقرير يتأرجح بين طرح يميني محافظ وطرح يميني رجعي متخلف من ناحية اجتماعية اقتصادية وسياسية ودينية. وهذا يدل على تغلغل الفكر الديني المحافظ بين اليهود. وهو الامر الذي يؤكده التقرير ويعترف به من ان الأرثوذكسية هي المدرسة الدينية المسيطرة على يهود العالم بتشعباتها المتعددة مثل الحريديم او المحافظين الآخرين الكثيرين الذين يلتزمون بقوانين الهلاخاة. كذلك يرى كاتبو التقرير ان التراث اليهودي آخذ بالانتشار بين التجمعات اليهودية في العالم وفي اسرائيل لما يمثله من انماط سلوكية مجتمعية محافظة والتزام بالشعائر الدينية في ادق تفاصيلها. ويمكن استشعار توجه رجعي محافظ من اسلوب الحديث عن نمو حركة "مثليي الجنس" والحركة الانثوية لدى اليهود في العالم. ويبدو ان كاتبي التقرير يتحدثون عن هاتين الظاهرتين وكأنهما شر لا بد من التعامل معه لانه ينمو في مجتمعات غير يهودية يعيش بينها اليهود، وان قدرة السيطرة على هذه الحركات ضعيفة. والغريب ان كاتبي التقرير يربطون باستمرار، في الجملة نفسها، بين حركة الشواذ جنسياً، أو مثليي الجنس، وبين الحركة الانثوية التي تدافع عن حقوق النساء في المجتمع، بكل ابعادها.
في تقنية المعلومات:
وبالرغم عن ان الطرح في التقرير هو طرح يميني محافظ، إلا اننا نستشعر فيه استخدام لغة منفتحة (وليس تقدمية)، أي لغة forward looking، تنظر إلى المستقبل، تجعلها مقبولة من جيل الشباب. وهذا يظهر في التحليل والتوصيات التي يتوصل إليها كاتبو التقرير بخصوص الافاق والمجالات الرحبة التي تفتحها تكنولوجيا "السايبرسبيس"، او فضاء المعلومات، الحديثة امام الجيل الصاعد، وتقريب المسافات عبر وسائل الاتصال الحديثة، والاقمار الصناعية والانترنت والهواتف الخلوية. كما يظهر هذا الاهتمام بالتوصية التي يقدمها التقرير بانشاء "اكاديمية القيادة للشعب اليهودي" وبالتوصية بالاسراع في عملية تبديل وتعاقب الاجيال في القيادة اليهودية بهدف ادخال قيادة شابة، بمعنى اصغر عمراً من القيادة الحالية، وبدم جديد، لتتمكن من "المس"، كما يقول التقرير، بالجيل الشاب وضمان الاستمرارية وفرص التكيف مع عالم متغير.
والخطورة في هذا الطرح المحافظ والديني انه امتداد للتوجهات السياسية اليمينية وللطروحات الدينية التي تتغلغل وتغلف المجتمع اليهودي في اسرائيل. وهذا التوجه نحو التدين يشابه المد الديني الذي نراه يعم المجتمعات العربية والاسلامية، وإلى حد كبير يعكس ايضاً الموجة الدينية التي تعم المجتمعات الغربية، خاصة في الولايات المتحدة الاميركية، ونمو الحركات الدينية الوضعية في الدول الاسيوية، والتي يسمونها في التقرير الديانات "الغرائبية" .
انتشار انماط السلوكيات الدينية والطرق والشعائر الدينية يترتب عليه ايضاً الترويج للصناعات الدينية، تماماً مثل أي صناعة أخرى، وبالتالي الاستثمار فيها، حيث ان المنتجات الصناعية المرتبطة بالرموز الدينية، تصبح مدرة للربح. واكثر هذه المنتجات وضوحاً هي الدعوة إلى تكثيف افتتاح "مدارس الاحد"، أي المدارس الدينية، كنمط من انماط انتشار الوعي الديني، بالاضافة إلى حث المتدينين على العيش حياة يهودية، على كل المستويات، مما يتطلب وجود هذه المتطلبات. فالدعوة للتبرع ولتسديد المصاريف والانضمام إلى، ودفع رسوم العضوية، في مراكز الحياة اليهودية او غيرها من المراكز الدينية، هي جزء من هذا الاستثمار.
في مجال التعددية:
يرى كاتبو التقرير ان التعددية الثقافية والانفتاح على الاخر، في دول العالم، أي لدى الاغيار، وفقاً للتسمية التي يستخدمها كاتبو التقرير في احد البنود (ص 8، عمود 2)، هي امر مهم ويجب دعمه من قبل اليهود لان ذلك في مصلحتهم، حيث يمكنهم النمو والازدهار في اجواء التعددية الثقافية. وهذا واضح بالنسبة لكتبة التقرير، حيث يثنون على تماثل الدول الغربية بشكل متزايد مع الرموز اليهودية، مثل احياء ذكرى المحرقة. فهناك عدد متزايد من الدول الغربية، خاصة دول الاتحاد الاوروبي، يحيون مثل هذه الذكرى بتحديد يوم خاص بها (ص 19، عمود 1). وهذا التطور يراه كتبة التقرير امراً هاماً يجب تشجيعه (ص 10، عمود 2).
لكن الامر ليس كذلك عندما يأتي دور اسرائيل لتطبيق التعددية الثقافية. تصبح هذه التعددية امراً خطيراً على وجود دولة اسرائيل وعلى الكينونة اليهودية وفرادة تلك الكينونة لدى اسرائيل ولدى يهود العالم. ولذلك تكون توصية كتبة التقرير في الاجندة الاستراتيجية أمرين وبالخط العريض:
1) تقوية أمن اسرائيل وتقوية فرادة يهوديتها؛
2) ومحاربة التراجع الديمغرافي اليهودي، ليس في اسرائيل فحسب، وهذا امر يوصون به بقوة، وإنما ايضاً لدى كل التجمعات اليهودية في العالم. فالتقرير يقول:
"ومما يقلق بالقدر نفسه ايضاً، هو التهديد الهام للطبيعة اليهودية لاسرائيل بسبب الاتجاهات الديمغرافية، وبسبب بعض التطورات الاجتماعية والأيديولوجية التي ترافقها خلافات مرة" (ص 6، عمود 1).
ان التقرير يصف وصفاً وثيقاً خطورة ظاهرتين اجتماعيتين، وهما ظاهرة "الزواج المختلط بين الاديان" أي interfaith marriages والظاهرة الثانية هي ما ترجمت تسميته بـ "تغريب الزواج" أي out-marriages. وهما ليسا الظاهرة نفسها. الاولى هي الزواج بين الاديان أي اليهود من المسيحيين أو المسلمين، والثانية هي عرقية، اليهود وغير اليهود. ويحذر التقرير من هاتين الظاهرتين لانهما تمثلان مدى اندماج assimilation اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها. وهما تمثلان ايضاً النتائج "المرعبة" لهذا الاندماج. يقول التقرير عن نجاح اتجاهات الاندماج والزواج المختلط بين الاديان: "لكن النتائج مرعبة، لان نصف جميع الزيجات تقريباً، تحدث خارج الدين" (ص 24، عمود 2).
لذلك، لا نلحظ غرابة في استخدام كاتبي التقرير لتعبير "الاغيار" أي غير اليهود، بالرغم عن النغمة العنصرية التي يحملها. فمن وجهة النظر اليهودية فإن العالم ينقسم إلى عالمين: عالم اليهود وعالم الاغيار. عالم يعيش فيه حوالي ستة عشر مليوناً يهودياً، وعالم يعيش فيه ستة مليارات من البشر غير "الكوشر". يأتي هذا التعبير ايضاً في سياق شرح النتائج المترتبة على الولادة والزواج المختلط. فقد جاء في التقرير "ان نسب الزواج والولادة اليهودية خارج اسرائيل هي نسب متدنية، إن لم تكن ادنى، من نسب الزواج والولادة لدى الاغيار في معظم المجتمعات الغربية" (ص 8، عمود 2).
والخلاص، من هذه الازمة، واضح. يجب محاربة او العمل ضد counter acting هذا الاتجاه. فالتقرير يدعو التجمعات اليهودية إلى ذلك. يقول التقرير: "وبالقيام بعمل مركز، فانه يمكن جلب العديد من اليهود (من خارج الاصل) إلى احضان اليهودية" (ص 25، عمود 1).
في المجال الفلسطيني:
لا يرقى التقرير إلى مستوى التحليل او اعطاء النصح او تقديم البدائل إلا في حالة واحدة. فكاتبو التقرير يذكرون الظاهرة، وجود خلاف اسرائيلي فلسطيني، ولكنهم يتهربون بامتياز عن اعطاء اسباب هذا الخلاف، وكأنه خلاف على شيء بسيط، ولكن امتد لاكثر من خمسة عقود، وهذا بالطبع لا يمثل عدم معرفة من قبل واضعي التقرير وإنما يمثل قدرة على التضليل للقارئ اليهودي العادي في تجمعات اليهود والقارئ العادي في المجتمعات الغربية وخاصة في الولايات المتحدة الاميركية. اسباب الخلاف تصبح غير مفهومة، وإذا ربطت بالدعوة إلى اليقظة من العداء للسامية، فإن المسؤولية الكاملة تلصق بالفلسطينيين، خاصة أن من أوجه التعبير عن العداء للسامية، على حد تعبير واضعي التقرير، هو انتشار الاصولية الاسلامية و"الارهاب" الفلسطيني. وكلاهما يقلق راحة البال لدى اليهود في العالم وفي اسرائيل (ص 23، عمود 1). وهكذا يصبح الفلسطينيون، والعرب والمسلمون، غير راغبين بالحل. وبالتالي يحذر القارئ من استمرار هذا الخلاف.
ان كاتبي التقرير لا يعطون موقفاً صريحاً من السلام، والحوار، وإيجاد حلول للمشاكل أو للخلاف مع الفلسطينيين أو لمسائل السلم والحرب او الانتفاضة بينهم وبين الاسرائيليين اليهود. وينحو كاتبو التقرير باللائمة على العرب وعلى المسلمين لاستمرار معاداة اسرائيل، ولاستغلال معاداة السامية وركوب موجتها، وتهديد الامن الشخصي لليهود في العالم. ويتهمون العالم، والمنظمات الدولية والامم المتحدة في الجملة نفسها، بالانحياز ضد اسرائيل. يقولون في التقرير إن "المنظمات الدولية، مثل الامم المتحدة، متأثرين بغالبية البلدان الاعضاء بها، تظهر انحيازاً واضحاً ضد اسرائيل" (ص 21، عمود 2).
ان واضعي التقرير يعلمون بالضبط ما يريدون في هذا المجال. فالتوصية الطويلة التي يضعونها في الفصل الرابع، البند ب، بعنوان الخيارات الحرجة تشرح ذلك بالتفصيل حيث جاء:
"ان الخيار الوحيد الاكثر حدة وحرجاً الذي يواجه اسرائيل والشعب اليهودي يتعلق بالسياسة التي تبنيها بخصوص النزاع مع الفلسطينيين (التشديد بالاصل). لهذا الموضوع وارتباطاته تأثيرات بعيدة المدى، مباشرة وغير مباشرة، على حد سواء، على القيم المتعلقة بالارض الموعودة، والشخصية اليهودية لدولة اسرائيل، ولأمنها وأمن الشعب اليهودي ككل. وله ايضاً تأثير على الوضع الاخلاقي والسياسة الواقعية.
"تقود القضية الفلسطينية غالباً إلى معضلات صعبة، يمكن ان تنتج عنها اثار مأساوية تضع موضع التساؤل أسس نظامنا القيمي. إنها ورطة فيها شكوك عميقة. ان عدم الاستقرار الدفين في المنطقة يحول، عملياً، دون الوصول إلى "حلول" سهلة، وواضحة ومستقرة. وعلى خلفية مجموعة متضاربة من الاراء الدوغماتية المتعددة في اسرائيل التي تخرج عن "اليسار" و"اليمين"، وفي مواجهة الحقائق الفلسطينية، هناك حاجة إلى التفكير الخلاق الواضح والتصميم الديمقراطي من اجل صياغة وتطبيق خيارات سياسية واعدة.
"تقع اسرائيل على خط المواجهة، وجوهر مستقبلها واراضيها مهدد. إن النزاع الاسرائيلي العربي، يحمل مضامين هامة لكل اليهود، أينما سكنوا. وبالتالي هناك حاجة إلى اجراءات خلاقة من اجل جعل الشعب اليهودي ككل ينخرط في هذا الخيار الحرج، دون المساس، في الوقت نفسه، بحق اسرائيل في صنع خياراتها".
كل هذا الكلام المنمق والتحليل والتوصيات يفتقر إلى مقولة اساسية، لها فعل السحر في إيجاد حل عادل ودائم وشامل للنزاع الاسرائيلي الفلسطيني وبالتالي للنزاع الاسرائيلي العربي. وهذه المقولة تتعلق بانهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، بما فيها القدس الشريف. المشكلة لدى اليهود في العالم انهم غير مقتنعين، بشكل عام، ان اسرائيل دولة احتلال. وما دامت اسرائيل لا تعترف بانها دولة احتلال، وما دام اليهود في العالم، بمن في ذلك قادتهم، يتهربون من الاعتراف بان اسرائيل هي دولة احتلال، فانه سيكون من الصعب عليهم تقديم اقتراحات واجراءات "خلاقة" لايجاد حل للنزاع. فنابلس ليست شكيم أو السامرة وجنوب الضفة الغربية ووسطها ليست يهودا. وما لم يعترف اليهود، بمن فيهم يهود اسرائيل، وقادة التجمعات اليهودية، بذلك فانهم سيعجزون عن تقديم الحلول الخلاقة او ايجاد حل عادل ودائم وشامل للنزاع. هذا بالطبع بالاضافة إلى الالتزام بالقانون والشرعية الدولية وقراراتها وتطبيق وتنفيذ الاتفاقات الموقعة.
في المجال العربي والاسلامي:
يقع كاتبو التقرير للاسف في مصيدة الصور المقولبة والنمطية عن العرب والمسلمين. فهم يرون في الاصولية الاسلامية بديلاً للقومية العربية المناهضة لاسرائيل واليهود. ووجدوا في ذلك عنواناً باهراً لدق طبول المعاداة للسامية. فهم يرون في الاصولية الاسلامية اسماً مرادفاً لكلمتي العرب والمسلمين ولما يمثلونه من تيار حضاري. وبالتالي كان سهلاً عليهم في التقرير التنقل بين الدالتين: مرة يخوفون اليهود من الاصولية الاسلامية كسبب من الاسباب الحقيقية المزعومة لتصاعد المعاداة للسامية ولكره اسرائيل ومرة اخرى يخوفون الآخرين من العرب والمسلمين للاسباب نفسها. لا بل انهم يرتاحون للاحتلال الاميركي للعراق، ويسمون ذلك بـ "العمل" الاميركي في العراق، ناسين ان الادارة الاميركية اعلنت انها قوة احتلال في العراق. كما انهم يحرضون الولايات المتحدة على السيطرة على النفط العربي، قائلين "ان السيطرة العربية على مصادر النفط تعيق التأثير العالمي للولايات المتحدة مما قد يؤثر سلباً على العلاقات الاميركية الاسرائيلية" (ص 17، عمود 2).
في التمايز اليهودي، ام العنصرية:
التقرير مليء بالفقرات والتعابير التي تدعو إلى التمايز. ومما لا شك فيه، انها تخفي لغة عنصرية او ايحاءات دونية تجاه الآخرين. فاستعمال تعبير مثل Shoah، يهدف، من بين اشياء اخرى، إلى التمايز عن الآخرين. فهذا التعبير يدل على المحرقة. ويعني باللغة العبرية الكارثة او الفاجعة، أو calamity باللغة الانجليزية. ولكنه يبعد اليهود، ويميزهم عن غيرهم، لان الآخرين يستعملون تعبير "الهولوكوست". وقد اصبح تعبير "الهولوكوست" تعبيراً عاماً يدل على دمار شامل مثل الدمار النووي. يضاف إلى ذلك، ان تعبير الهولوكوست يعني بالاصل اليوناني "تقديم القرابين،" ويرى اليهود وصف المحرقة بهم على ايدي النازيين بهذا الوصف هو أمر غير مقبول ومن هنا التمايز في التسمية. (أنظر: en.wikipedia.org/wiki/shoah).
لقد سبق ان ذكرنا ايضاً تعبير الاغيار واستخدامه في هذا التقرير، إلى جانب الموقف من الزواج المختلط بين الاديان وتغريب الزواج، والتي تنم عن معانٍ ضمنية من التمايز العرقي والديني.
ولكن الاهم تلك الفقرة الطويلة عن حالة اليهود في العالم والتي يؤكد فيها كاتبو التقرير قوة اليهود وتأثيرهم ونفوذهم وما وصلوا إليه من هذه القوة، حيث جاء أن:
"معظم اليهود يجدون انفسهم، ويعيشون حالياً في اكثر البلدان والمدن قوة في العالم النامي، جامعين الثراء والقوة العسكرية والمعرفة الرفيعة التكنولوجية والحرية السياسية. كما ان اليهود في جاليات الشتات، الدياسبورا، في موقع ملائم، فيما يتعلق بالتربية والدخل والموقع في الصناعات العالمية الاساسية، للدفاع عن المصالح اليهودية، ويوجد تحت تصرف اليهود عدد كبير من المصادر يمكن تعبئتها لدعم الهوية والثقافة اليهودية والدفاع عن الجاليات اليهودية أمام التهديدات الخارجية....
"إن لليهود تمثيلاً جيدًا في مراكز صنع القرار السياسي والاقتصادي. وهم ايضاً في وضع يمكنهم من ممارسة التأثير، مع ان ذلك يتأثر بالاتجاهات العالمية" (ص 22، عمود 1).
ومن أهم النقاط في موضوع التمايز التي يدعو إليها كاتبو التقرير هي عدم تشبيه الدين اليهودي بالديانات الاخرى، يقولون: "التأكيد على فرادة اليهودية، وتجنب المبالغة باجراء التشبيهات مع الاديان الاخرى" (ص 53، عمود 2).
هل تعني هذه الدعوة ابقاء الدين اليهودي "طاهراً" من كل اتصال مع الاديان الاخرى او الحوار معها، وعدم البحث عن قواسم مشتركة بين الاديان السماوية الثلاثة. إن هذه الدعوة تفتقر إلى محبة الاخر والانفتاح عليه، ولا تشجع على الشراكة والتعاون.
في الترجمة الدينية:
يبدأ الفصل الاول من التقرير باقتباس العدد 29 من الاصحاح الخامس عشر من سفر صموئيل الاول من العهد القديم في الكتاب المقدس، باللغتين العبرية والانجليزية، حيث جاء "أن مجد اسرائيل الابدي لن يخيب". وبالطبع لا أتوخى من عرض المشكلة اعطاء درس في الدين او الانحياز إلى هذا التفسير الديني أو ذاك. وإنما تقتضي الامانة العلمية والبحثية ان اقول ان الترجمة العربية للكتاب المقدس التي بين ايدينا هي ترجمة غير دقيقة في احسن الاحوال. ولذلك لن نستشهد بها.
إن ورود هذا النص، باللغة الانجليزية، في بداية الفصل الاول يعطي الانطباع بان النبي صموئيل يتحدث في هذه الآية عن اسرائيل الحالية، وإن مجدها الابدي لن يخيب. وبالتالي يولد الانطباع لدى القارئ العادي بان الله معها على الدوام. ولكن هذه ليست الآية كلها. فالآية تقول في ترجمتها الكاملة "هو الذي اسمه مجد اسرائيل لا يكذب، ولا يغير رأيه، فهو ليس انساناً حتى يغير رأيه". وبالتالي من ناحية دينية، فإن "مجد اسرائيل" هو صفة للذات الالهية، أي انه اسم من اسماء الله، سبحانه وتعالى، كما ورد في العهد القديم. فكلمة "مجد" ليست صفة لكلمة "اسرائيل"، وإنما الكلمتان هما صفة من صفات الله واسم الدلالة له. فالآية تقول انه ليس انسانًا، وهو لا يكذب ولا يغير رأيه. وهما صفتان انسانيتان: الكذب وتغيير الرأي. ولا شك ان استخدام هذه الآية في بداية التقرير هو امر مضلل للقراء. فهو يعطي الانطباع ان الله مع اسرائيل. وفي اجواء المد الديني واليميني المحافظ، فإن مثل هذا الوصف سيثبت صوراً مقولبة ونمطية عن اسرائيل، الدولة، في ذهن القارئ. وبالطبع، فإنه لا يوجد لدى القارئ العادي الوقت لكي يستكشف كل هذه المعاني حتى يصل إلى نتيجة. فهو سيكتفي بالرأي المقدم له من اصحاب الرأي، وهم في هذه الحالة معدو التقرير.
الخاتمة:
يمثل التقرير معالجة شاملة لاوضاع اليهود في العالم، لا بل انه يصف حالة اليهود في العالم. فهو دراسة شاملة ومعمقة. يفسر الواقع ويحلله ويقدم الاستراتيجيات. وهو ليس وصفة سرية، وإنما نشر علناً على الملأ ليراجعوه وينتقدوه. قد لا يعجب التقرير الكثيرين. لكنهم لن يستطيعوا اغفاله أو تجنب الخوض في موضوعاته ومناقشتها، خاصة نحن الفلسطينيون، بحاجة إلى محاججة المقولات والطروحات والاستنتاجات. يوجد الكثير مما يهمنا في هذا التقرير.
ونأمل ان يلقى المعالجة المطلوبة برصانة وعلمية وموضوعية بعيداً عن الصور المقولبة والنمطية التي وقع فيها غيرنا في هذا التقرير. إن التعددية مطلوبة والانفتاح على الاخر امر ضروري، حتى وإن لم يعن ذلك بالضرورة القبول بمقولاته وطروحاته. فالشجاعة تقتضي منا ان نسمع وان نناقش وأن نغير وأن نقنع الآخرين بما لنا.
________________________________
(*) الشعب اليهودي، 2004، بين الازدهار والانحدار، التقرير السنوي، التقييم السنوي رقم 1، القدس: معهد تخطيط السياسة للشعب اليهودي، الوكالة اليهودية لاسرائيل المحدودة، 2004.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, الوكالة اليهودية, دورا, دولة اسرائيل, دولة اليهود