عقد، في أواخر شهر تموز الماضي 2007، يوم دراسي في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب في ذكرى مرور عام على حرب لبنان في الصيف الماضي (2006) وذلك بمناسبة صدور كتاب "حرب لبنان الثانية- جوانب إستراتيجية" عن منشورات المعهد و"يديعوت أحرونوت".
ويشتمل الكتاب على عدة مقالات بأقلام باحثين إسرائيليين من المعهد وخارجه. هنا تقرير خاص عن وقائع هذا اليوم الدراسيّ.
الوضع اللبناني الداخلي
قال البروفيسور إيال زيسر، رئيس قسم تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب، إن لبنان يجد نفسه بعد مرور عام على الحرب في خضم وضع صعب جدًا لم يشهد مثيلاً له منذ انتهاء الحرب الأهلية السابقة ونتيجة لهذا الوضع "فإنه على شفا حرب أهلية جديدة"، على حد تعبيره. وأضاف أن العام الذي انقضى "لم يحسّن صورة حزب الله، الذي أصبح حزبًا آخر يغرق في المستنقع اللبناني، وينظر إليه باعتباره أداة في يد سورية وإيران. وقد نجح حزب الله حتى اندلاع الحرب في خداع كل اللبنانيين طوال الوقت وذلك في إطار رسالتين رئيستين عمل على بثهما: الرسالة الأولى- أن في وسع حزب الله أن يخوض صراعًا ضد إسرائيل وأن يردعها وفي موازاة ذلك أن يساعد في بناء دولة لبنانية يشار إليها بالبنان. وقد أثبتت الحرب أنه أخطأ وأن الدولة لم تتجاوز الضرر الذي أحاق بها. الرسالة الثانية- أن حزب الله هو حزب لبناني. لكن في أعقاب الحرب لم يعد هناك أي مصدر لبناني يؤمن بأن الحرب خدمت المصالح اللبنانية وإنما المصالح السورية والإيرانية. كما أن حزب الله فشل في الساحة اللبنانية الداخلية وباءت محاولاته للتأدية إلى تغييرات داخلية بالفشل الذريع".
وتابع زيسر: "بدل كل ذلك فرض حزب الله على الدولة اللبنانية شللاً سياسيًا مستمرًا يفضل لبنان التعايش معه، لأن البديل الآخر هو الحرب الأهلية. ويبدو أن الأطراف المتنازعة ستصل في نهاية المطاف إلى حل وسط، لكن حتى ذلك الحين ستخوض حكومة فؤاد السنيورة كفاحًا عنيدًا ضد حزب الله عبر اللجوء إلى اللعبة النقية في مقابل اللعبة القذرة التي يلجأ إليها خصومها".
من ناحية أخرى لم تؤد الحرب إلى هزيمة حزب الله، على ما يؤكد زيسر، ولم تمس بتأييد الشيعيين له رغم أوضاعهم الصعبة (لا يزال حزب الله يحظى بدعم وتأييد 70% من الشيعيين). وفي خضم هذا الوضع الحسّاس في لبنان فإن لحزب الله مصلحة في استتباب الهدوء على طول الحدود (مع إسرائيل) وقرار خرق الهدوء مرهون به لا بالقوة المتعددة الجنسيات. وفي الحالات جميعًا فقد كانت الحرب الأخيرة جولة أخرى في المعركة على استقلال لبنان وسيادته.
تطورات الساحة الإقليمية
من ناحيته رأى البروفيسور آشر ساسار، المحاضر في جامعة تل أبيب، أن هناك عدة تطورات بارزة في الساحة الإقليمية، منها تراجع القومية العلمانية كظاهرة رائجة في العالم العربي وضعف فكرة الدولة الإقليمية القومية. في مقابل ذلك ثمة عودة إلى الهويات الأساس للمجتمع العربي، وهي الدين والطائفة والأسرة والتطرّف الإسلامي. وفي موازاة كل ذلك ثمة تعاظم في قوة الدول غير العربية في المنطقة مثل إيران في مقابل ضعف محور الدول السنية المعتدلة.
وأضاف أن العالم السنيّ يجد نفسه في حالة دفاع عن الذات وهو يخشى من القوى المتطرفة (الشيعة، تنظيم "القاعدة") التي تشعر بأن فرصتها قد سنحت.
وفي رأي ساسار فإن العرب "توقعوا أن تفلح إسرائيل في كبح جماح التغلغل الإيرانيّ في حوض البحر المتوسط، لكن توقعاتهم خابت. والتغييرات الحاصلة هي شديدة الأهمية، فقد تحطم العراق على خلفية شروخه الطائفية ولبنان على شفا حرب أهلية وفكرة الوحدة الفلسطينية انحلت ومصر تعاني ضعفًا في مناطق الضواحي الخاضعة لسيادتها، بينما حافظ الأردن على تماسكه بسبب كونه أكثر تجانسًا من ناحية تركيبته الطائفية".
وقال ساسار إن حرب لبنان الثانية "كانت الحرب الأولى بين إسرائيل وإيران بواسطة مبعوث الأخيرة الموجود في لبنان. وبالتالي يطرح السؤال فيما إذا كان لبنان سيبقى عضوًا في أسرة الشعوب العربية السنية المنضوية تحت لواء الجامعة العربية أم سينضم إلى الهلال الشيعيّ غير العربي؟. وفي هذا الواقع يتعين على إسرائيل أن تفكر في كيفية الإسهام في تعزيز النظام الدولاني في المنطقة (وأساسًا في لبنان وفي الساحة الفلسطينية) وعدم الدفع قدمًا بعملية من شأنها المسّ بهذا النظام".
المجتمع الإسرائيلي في أعقاب حرب لبنان
رأى د. يهودا بن مئير، الباحث في "معهد دراسات الأمن القومي" ونائب وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق، أنه ترتبت على حرب لبنان الثانية تأثيرات كبيرة بالنسبة للرأي العام والمؤسسة السياسية في إسرائيل. فقد أدت إلى تآكل ثقة الجمهور في المنظومة السلطوية برمتها، وهذا الشعور سبق الحرب رغم أن أكثر من 80% من الجمهور الإسرائيلي يعتقدون أنه بالإمكان الاعتماد على الجيش الإسرائيلي. وفي أعقاب الحرب تلقت خطة التجميع (الانطواء) طعنة نجلاء وانحسر التأييد للخطوات الأحادية الجانب. علاوة على ذلك ثمة تآكل في ثقة الجمهور بشأن إمكان التوصل إلى حل دائم في الساحة الفلسطينية. ومع ذلك يجدر التذكير بأن هذه النزعات ليست ثابتة ويمكن أن تتغيّر، وفقما يؤكد بن مئير.
دروس الجيش الإسرائيلي
قال الجنرال في الاحتياط إيال بن رؤوبين إنَّ الجيش الإسرائيلي لم يهزم عسكريًا في حرب لبنان الثانية، إنما "فشل في استنفاد قوته بسبب وجود قيادة عسكرية وسياسية فاشلة لم تنجح في خلق الرابط بين أهداف الحرب وبين كيفية ترجمتها"، موضحًا أن هذه الحرب كانت بمثابة "رسالة إلى الجيش الإسرائيلي بأنه لا يسير في الطريق الصحيح ويتعيّن عليه في أعقابها أن يستعد لحرب شاملةٍ".
والفرضية التي عرضها بن رؤوبين هي أنه "في حال استعدت إسرائيل جيدًا لحرب شاملة، فهذا يعني أنه ستتعاطى بشكل جيد مع الإرهاب الفلسطيني وليس العكس".
وأشار بن رؤوبين إلى أنّ الإستراتيجية المتبعة من جهة الخصم (حزب الله وسورية والفلسطينيون) هي إستراتيجية "عدم الخسارة"، بما معناه أن هدف الخصم ليس أن يهزم الجيش الإسرائيلي إنما "ضرب البطن الرخوة لإسرائيل. والبطن الرخوة هي الجبهة الداخلية والوعي على حدٍ سواء". ورأى أيضا أن إستراتيجية الخصم تأتي أيضا من "الامتناع عن الخسارة العسكرية أثناء صدام القوتين". وأوضح بن رؤوبين أن على الجيش الإسرائيلي أن يحسم المعركة بسرعة من جانبيها: وقف إطلاق النار الموجه نحو الجبهة الداخلية والوصول بسرعة إلى الحيزات الإستراتيجية التي تهدد إسرائيل.
ولذا ثمة حاجة، في رأي بن رؤوفين، للقيام بعملية برية واسعة النطاق وخاطفة، لو تم القيام بها في الحرب الأخيرة على لبنان لكانت الصورة تغيرت بصورة جذرية. ومن هنا فإن الدروس الرئيسة التي يطبقها الجيش الإسرائيلي الآن هي: بناء قدرة المناورة البرية لدى الجيش الإسرائيلي من جديد، تطوير قدرات المناورة المحصنة والتزود بتحصينات فاعلة. كما يعمل الجيش في تطوير قدرة إطلاق النار المساعدة الدقيقة والفاعلة وتطوير الاستقلالية في مسألة القوة النارية التي في حوزة القوات البرية عبر تقليص الاعتماد على سلاح الجو، كما أنه يجدد الاعتناء بجيش الاحتياط ويحسن تأهيل ضباط الصف الأولّ.
دروس الاعتناء بالجبهة الداخلية
قال رافي بيلد، القائد العام الأسبق للشرطة الإسرائيلية، إنه رغم معرفة إسرائيل بتهديدات الصواريخ القصيرة المدى في لبنان لم تكن هناك استعدادات خاصة لهذا التهديد في العمق الإسرائيلي، وليس فقط على خط الحدود. ولا تزال هناك إلى الآن فجوات كبيرة في تحصين الجبهة الداخلية الإسرائيلية ولم يحصل أي تغيير في تحصين المناطق الشمالية.
وأضاف بيلد أن التحصين لوحده لن يعطي الردّ الكافي على التهديدات المتربصة بالجبهة الداخلية وليست هناك إمكانية لإخلاء بلدات على نطاق مئات آلاف السكان، ولذا ينبغي بلورة سياسة عامة تدمج ما بين الردع والإحباط وإسقاط الصواريخ والتحصين.
اتجاهات مواجهة التحدي اللبنانيّ
قال الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، الجنرال في الاحتياط أهارون زئيفي فركش، إنّ التطورات المركزية في المنطقة الآن هي "ضعف مكانة الولايات المتحدة التي لم تثمر سياستها في المنطقة، جهود الصين وروسيا لتقوية مكانتهما في المنطقة، ازدياد وزن الاتحاد الأوروبي خصوصًا فرنسا وألمانيا وبريطانيا، تصميم إيران على الاستمرار في البرنامج النووي على حساب مصالحها في لبنان وتعاظم الخوف في العالم العربي السني من إمكان تحوّل إيران إلى دولة نووية".
وأضاف أن هناك آراءً أخرى تسمع في "معسكر المقاومة"، منها أنّ إيران تحتاج إلى تهدئة الوضع في الجبهة اللبنانية، وفي مقابل ذلك فإنّ سورية معنية باستمرار عدم الاستقرار في لبنان من أجل "تهيئة الأرضية للعودة إلى لبنان"، وحزب الله يقف في الوسط، فهو يسير في المسار السياسيّ وفي الوقت نفسه يستعد للحرب القادمة.
ويرى فركش أن أمام إسرائيل احتمالات وفرصًا فيما يتعلق بلبنان، وهي تستطيع اليوم الانخراط ضمن الجهود لتهيئة جهاز دولانيّ مسؤول في لبنان للتحاور معه، مع الأخذ بعين الاعتبار المعطيات التالية: العمل على إيجاد علاقات تجارية مع لبنان، تنفيذ القرار 1701، خلق منظومات تنسيق أمنية وعسكرية، تفحص قضية مزارع شبعا وتحليق الطائرات الحربية الإسرائيلية في سماء لبنان وقضية السيطرة على المليشيات العاملة في لبنان.
ماذا جرى للردع الإسرائيلي بعد الحرب؟
أكد البروفيسور عوزي أراد، رئيس "معهد السياسة والإستراتيجية" في "مركز هرتسليا المتعدد المجالات"، أنَّ حرب لبنان الثانية أدت إلى تآكل قوة الردع الإسرائيلية. وأضاف: اعتقدت المؤسسة الإسرائيلية حتى من قبل الحرب على لبنان بأنَّ هناك تراجعًا أصاب قوة الردع الإسرائيلية، لذا وضعت إسرائيل نصب عينيها هدف ترميم قوة الردع في حرب لبنان الثانية. لم يكن هذا معلنًا، لكنَّ إذا راجعنا تاريخ إسرائيل والحروب نلاحظ بأنّ استعادة أو تقوية قوة الردع كانت دائمًا هدفًا ليس معلنًا. وبما أنَّ قوة الردع تأتي حسبما يراها الخصم، فهناك تراجع في قوة الردع الإسرائيلية. ونوّه إلى أنَّ قوة الردع الإسرائيلية لم تنهار تمامًا، لكنَّ في الموازين العامة طرأ عليها نقص ولم تسجل إضافات. ورأى أراد أيضًا أنَّ على إسرائيل أن "تمضي قدمًا نحو الوضعية التي كانت عليها عشية الحرب على لبنان".
وتبعًا لذلك ثمة استعداد في إسرائيل لتقديم تنازلاتٍ سياسية للسوريين، نابع من دافع الخشية بأن قوة الجيش الإسرائيلي غير كافية، من ناحية. ومن ناحية أخرى ازدادت الاستعدادات العسكرية في الجانب السوري ضد إسرائيل. وأشار إلى أنَّ الجيش الإسرائيلي يبذل جهودًا اليوم من أجل تعويض التراجع في قوة الردع.
في مقابل ذلك رأى الباحث في "معهد دراسات الأمن القومي" والعميد في الاحتياط، شلومو بروم، أنّ معايير ميزان الردع مركبة. وفي رأيه فإنّ قوة الردع الإسرائيلية تصاعدت، منذ نهاية الحرب، مستندًا إلى فرضية أن "حزب الله يستنكف عن تنفيذ عملياتٍ ضد إسرائيل، ولا نوايا عنده لأن يفعل"، معتقدًا بأن حزب الله لا يريد مرة أخرى تكبّد العقاب الذي أنزلته إسرائيل في أعقاب قصفها للبنان. لكن من ناحية أخرى تآكلت قوة الردع الإسرائيلية في كلّ ما يتعلق بقدرة الجيش الإسرائيلي على أن يوفر ردًا للحرب، وهو ما يؤثر أيضًا على طرق تفكير السوريين والفلسطينيين.
ونوَّه بروم إلى أنّ الفرق بين سورية وحزب الله يكمن في أن سورية قابلة للعقاب، لأنها تملك مسؤولية دولة. وقال إن استعداد السوريين للمبادرة إلى حرب مع إسرائيل مرهون بـ "فهمهم للعقاب" الذي من الممكن أن يلحق بهم وكذلك فهم التصميم الإسرائيلي للتصعيد. وقال إنَّ السوريين باتوا يفهمون اليوم أن إسرائيل "تملك القدرة على الاعتناء بالجيش السوري التقليدي بصورة فاعلة".