المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بقلم: حلمي موسى
منذ اللحظة الاولى التي أعلن فيها أريئيل شارون، في أواخر العام الفائت، نيته عرض خطة سياسية تقوم على مبدأ إخلاء مستوطنات في قطاع غزة، بدا واضحا انه يخوض مقامرة حياته. فالرجل الذي بنى سيرة حياته وسمعته على اساس التقدم و"الاختراق" وإنشاء المستوطنات يجد في أواخر حياته ان لا حل سوى ب"الفصل" وإخلاء مستوطنات. وحينها اعلن المراقبون ان مهمة شارون، ان كان صادقا فيما يعلنه، لن تكون سهلة وان احتمالات الفشل فيها اكثر من احتمالات النجاح.


والواقع ان شارون تصرف طوال الوقت وكأنه "ملك اسرائيل" فعلا، وان المستوطنين بين يديه، كما ان الجميع، داخل الليكود وفي الحلبة السياسية رهن اشارته. ولكن هذا التصرف لم ينطلق البتة من واقع راسخ، ولم يستند الى اساس متين. فشارون، في كل الاحوال، كان رجلا تنفيذيا وكان مسموحا له ان يفعل ما يشاء طالما ان من حوله، ومن فوقه، يرتاحون الى ذلك. ولم يكن شارون طوال تاريخه الرجل الاول الا عندما تدهورت الاوضاع بعد خسارة بنيامين نتنياهو الانتخابات لايهود باراك عام 1999.

ففي الجيش كان شارون تحت إمرة آخرين. ونفذ المجازر والعمليات والاقتحامات والانتصارات والهزائم على امل ان يكون رئيساً للأركان. ولكنه، وهو ابن الحركة العمالية ومستوطناتها، عندما أدرك ان أمله هذا لن يتحقق انقلب نحو اليمين السياسي مساهما في تشكيل الليكود. ورغم انه في بداية حياته السياسية حاول تصنيف نفسه في الوسط الليبرالي الا انه سرعان ما انتقل في آرائه الى اليمين الايديولوجي ممثلا بحركة حيروت، التي ظلت القلب النابض لليكود بعد الاندماج.
وهناك، ورغم كل المساعي أخفق شارون في ان يكون الرجل الاول، وطرد من الوزارة جراء دوره في مجازر صبرا وشاتيلا، وأخفق في منافساته لكل من اسحق شامير وبنيامين نتنياهو لزعامة الليكود. وكما سلف فقد كانت هزيمة نتنياهو هي التي دفعته الى مقدمة الصفوف في الليكود. وحينها رأى الجميع فيه انه مجرد "حارس الوديعة" الى حين عودة نتنياهو. ولم يكن احد يتخيل ان ايهود باراك سوف يخسر السلطة بهذه السرعة ولمصلحة اريئيل شارون.
ومنذ ذلك الحين وحتى الآن تغيرت امور كثيرة، بينها نظرة الجمهور والاحزاب وربما دول العالم لأريئيل شارون. ولكن شيئا لم يتغير على صعيد الليكود: ظل شارون "حارس الوديعة". وهذا ايضا هو موقف اليمين الاسرائيلي من شارون. فشارون اقل تدينا مما يحتمله الحريديم، وأقل قومية مما يريده المستوطنون، وأشد ابتعاداً عن المزاج العام لليمين الاسرائيلي. وبكلمات اخرى لم يكن شارون في يوم من الايام المثال الذي يتطلع اليه اليمينيون لقيادتهم. لم يكن من ذلك النسغ اليميني بل ظل مجرد وافد الى صفوفهم.
وهذه هي مشكلة شارون اليوم مع الليكود خصوصا ومع اليمين عموما. ولأنه بدأ يستشعر ذلك بشكل جدي صار يبحث عن حلول جذرية. وفي نظر رجاله لا يكمن الحل في معالجة الوضع داخل الليكود. فالليكود هو اساس مشكلة شارون. صحيح ان الليكود نجح في سنوات حكمه من الايحاء بأنه حزب السلطة وبالتالي حزب الوسط، لكنه أغفل حقيقة انه أزاح الحلبة السياسية الاسرائيلية برمّتها الى اليمين. وعندما صار الخطر الذي يواجه الليكود، في الواقع، ليس من "اليسار" وإنما من اليمين صار لزاما عليه ان يكون أشد يمينية.

ويمينية الليكود تتجلّى حاليا ليس فقط في علاقته بالمستوطنين او القوى الدينية، وإنما في انتقال النخبة القائدة في المجتمع والجيش الاسرائيلي، بشكل تدريجي، من الكيبوتسات الى المستوطنات. ومثلما كان للكيبوتسات في الماضي احزابها اليسارية الا ان الكثيرين من ابنائها كانوا يندفعون الى مركز القرار في "مباي" وحزب العمل لاحقا. واليوم تحدث الظاهرة ذاتها حيث يندفع الكثير من افراد "النخبة القائدة الجديدة" من المستوطنين والمتدينين القوميين الى قلب الحزب صانع القرار الأقرب اليهم، الى الليكود.
وفي الوقت الذي كان المستوطنون فيه يمثلون ظاهرة مرغوبة في الليكود انضم اليهم وبشكل قويّ تيار ما يعرف ب"القيادة اليهودية"، وهو بزعامة موشيه فايغلين. ولعب هذا التيار دوراً بارزاً في معارضة خطة الفصل وفي محاولة تكريس نتنياهو كزعيم ايديولوجي لليكود وليس شارون.
واليوم، بعدما ادرك شارون ان المستوطنين لم يعودوا يتطلعون اليه بشكل محايد، وانهم باتوا على عداء معه صار يحاول وضعهم في مقابل المصلحة الاسرائيلية العامة. وهو في ذلك يستعير من اليسار الاسرائيلي مفرداته، سواء عندما تحدث عن الاحتلال او الاستيطان او الامن في الضفة والقطاع. غير ان هذه الاستعارة بالذات زادت عزلته في صفوف اليمين. ومن الصعب العثور اليوم في صفوف اليمين على جهة تبدي استعدادها للوقوف الى جانب شارون. فهؤلاء ينتظرون فقط اللحظة التي يسقط فيها، وكل ما يتخوفون منه هو الاثر البالغ لذلك على مستقبل اليمين في الحكم.
ويمكن القول ان اليمين الاسرائيلي المتطرف لا يبدي اي عقلانية الا في حالة واحدة، وهي المتعلقة بخسارته السلطة. فقد خسرها في الماضي ولا يريد ان يخسرها الآن. وهذا ما يجعل الصراع الدائر الآن في حكومة شارون صراعا محدود الآفاق بالنسبة لقواه الفاعلة الرئيسية. وقد يذهب شارون الى أبعد مدى ضد خصومه في هذا الصراع، كما انهم سوف يفعلون الشيء ذاته. ولكن الشيء الوحيد الذي يقيد حركتهم هو في الواقع الحيلولة دون فقدان السلطة. والاستثناء الوحيد في هذا الصراع هو اللحظة التي يدرك فيها شارون ان المعركة بالنسبة اليه باتت معركة حياة او موت. حينها تنتهي كل القواعد والضوابط ويُستخدم "سلاح يوم القيامة"، وهو تفكيك الليكود والدعوة لتشكيل حزب وسط جديد. حينها يعلن شارون الطلاق النهائي مع الليكود واليمين الأقصى.

المصطلحات المستخدمة:

الليكود, بنيامين نتنياهو, باراك, اريئيل, دورا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات