المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

إذا اعترفت حماس بإسرائيل بشكل صريح، فهل ترضى إسرائيل وتطمئن؟ أم أنها ستسوق ذلك للعالم بأن هذا الاعتراف هو اعتراف المهزوم!؟

إذن ما الذي بقي للشعب الفلسطيني أن يفعل حتى ترضى إسرائيل عنه وتخلص النية للسلام معه، الذي يعني إنهاء الاحتلال؟

لم يكن السائق "أبو حسام" في رام الله يعلم باهتماماتي بمؤتمر هرتسليا، لكن كلماته شكلت لي زبدة الحديث أو خلاصته حين قال: إسرائيل دولة قلقة غير مستقرة، غير مستريحة، لا تثق بأحد، لا بأميركا ولا غيرها ولا حتى بنفسها، كأنها تنام على مسامير أو أشواك، فمهما صار لن تستقر...

لماذا كلما انتصرت إسرائيل أو هزمت، حاربت أم سالمت، تظل متمسكة ببكائيتها المعهودة والكلاسيكية حول الخطر المحدق بها من الجيران؟ فهل تعتبر نفسها جزيرة في بحر كبير؟ إذن لم كل الخوف، مع أن أهالي جزر الكناري في المحيط الأطلسي ظلوا فيها لا يخشون موجا ولا إعصارا، بل إن جزرهم تستقطب ملايين السياح كل عام؟

أن تعيش في جزيرة لا يعني كل هذا الخوف!

لم تكد تفوز حركة حماس في الانتخابات حتى أعادت إسرائيل مسألة الاعتراف بها إلى سطح التداول السياسي والإعلامي، والناظر بتجرد يرى أن هناك تكلفا في الإعادة واجترار تكرار المكرر، الذي أصلا حدث وانتهي منه.

إنه الاعتراف إذن!

فلماذا تصرّ "دولة إسرائيل" القائمة والمعترف بها من قبل الأسرة الدولية ومعظم دول العالم على الإلحاح بمزيد من الاعتراف؟ بل لماذا تصرّ هذه الدولة القوية على طلب الاعتراف من شعب أسير مضطهد؟

رغم ما يحمله خطاب تكليف الرئيس الفلسطيني محمود عباس للسيد إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة من دلالات على احترام الاتفاقيات والقرارات الدولية ذات الصلة، والذي جاء بعد اتفاق مكة المكرمة الذي تضمن القبول الضمني بالمبادرة العربية للسلام وقرارات القمم العربية والتي تعني في جوهرها الاعتراف بإسرائيل، فإن إسرائيل ما زالت تلح وتطلب المزيد من الاعترافات غير المشروطة والمتكررة والمتابعة والتي لا تنتهي.

في مؤتمر هرتسليا السابع (*) حول ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي (21- 24/1/2007)، لم يكن هناك كبير مسافة بين الأكاديميين والعسكريين والسياسيين وصناع القرار في إسرائيل تجاه القضايا الإستراتيجية، بل وحتى من ضيوف المؤتمر من الولايات المتحدة من السياسيين الرسميين والمتقاعدين.

لقد رصد "مركز مدار" 23 موضوعا تشكل اهتمامات الإسرائيليين، والملاحظ أن هاجس وجود دولة إسرائيل ما زال يشكل قلقا للمجتمع الإسرائيلي ونخبه الحاكمة، سياسيا وعسكريا وأكاديميا وإعلاميا.

ورغم أن المحور الأساس لمؤتمر هرتسليا السابع كان بعنوان "ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي"، الذي يدل على الأمن والتواجد العسكري، إلا أن معظم المواضيع إنما جاءت لتصب في مسألة الوجود والاطمئنان له؛ فقد كانت هناك 5 مواضيع لها علاقة مباشرة بمسألة الوجود، وهي التي حملت الأرقام التالية حسب ترتيب مركز مدار: 15،16،17،18،23، وهي:

- الهوية اليهودية كمناعة قومية.

- إستراتيجيات لمواجهة مظاهر اللاسامية.

- إسرائيل والشتات: مشاركة الشعب اليهودي الكونية مع دولة إسرائيل.

- محاربة إلغاء شرعية الدولة اليهودية والمعركة على الرأي العام.

- الوطنية والمناعة القومية في إسرائيل بعد حرب لبنان..

أما بقية المواضيع فقد انقسمت بين ما له علاقة بالحماية الدولية (الأميركية- الأوروبية) لدولة إسرائيل كما في البنود التي حملت الأرقام التالية في الترتيب المذكور 1، 3،7،9،10، وهي:

- بدائل جيو إستراتيجية في الساحة العالمية.

- إنعاش الحوار الاستراتيجي الأميركي- الإسرائيلي.

- تحديث العلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي.

- سياسة الولايات المتحدة بعد الانتخابات النصفية.

- تحديات السياسة الخارجية، نظرة من إسرائيل وأوروبا.

أو ما له علاقة بالخوف على وجود الدولة من دول الجوار كما في البنود 4،5،6، وهي:

- مواجهة إيران المتحولة إلى دولة نووية.

- اعرف عدوك، اتخاذ القرارات لدى الخصم.

- إيران، حرب لبنان الثانية، وتغيير بنية النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي.

أو ما له علاقة بمقومات وجود الدولة في جوانب التعليم والجيل الجديد والاقتصاد والطاقة والقانون كما في البنود 8،11،12،13،14،19،20،22، وهي:

- السياسة الوطنية لدفع التفوق في التعليم.

- الإسقاطات السياسية لبعض النزعات الاقتصادية في المنطقة.

- مناعة إسرائيل المالية.

- أمن تزويد الطاقة.

- الجيل القادم: تحديات أمام القيادة الشابة.

- مستقبل اقتصاد إسرائيل- النمو وتقليص الفقر.

- الأرض البنية الخضراء كمناعة قومية.

- القانون ونظام الحكم والمناعة القومية.

أو ما له علاقة بخطر فلسطينيي عام 1948، وهو البند 21 الذي يتحدث عن: "الشراكة في الجليل: التطوير اليهودي- العربي للجليل بعد حرب لبنان".

عن الوجود!

في تقرير "مدار" ورد ذكر لحديث مارتن كريمر، من معهد واشنطن ومركز شاليم.

شكك كريمر في مبدأ "مقايضة الأرض بالسلام"، فمن وجهة نظره يعتقد الفلسطينيون أن أي اتفاق حل وسط مع إسرائيل هو "خطوة أخرى على طريق النصر التام المنشود".

حديث كريمر يحوي مغالطات، وهو أصلا أسير نظرة تقليدية المفروض أنها تغيرت.

بالنسبة للتيارات الفلسطينية، فإن موقفها تجاه إسرائيل لا ينبع من الأيديولوجيا بشكل أساس، كما يفكر كريمر والصهاينة الآخرون، بل من إيمانها بالحقوق الوطنية في فلسطين، وهي مهيأة لتسوية تضمن حدا مقبولا من تلك الحقوق.

ولقد كان هنري سيغمان موضوعيا حين كتب في صحيفة "الفايننشال تايمز" في تموز 2006 مقالة، أكد فيها أن حديث إسرائيل عن الاعتراف أمر غير حقيقي، وخلص إلى نتيجة أن الاعتراف من قبل حماس لا يحل القضية الفلسطينية من منظور إسرائيل، إنها تريد أكثر من ذلك، تريد أن يوافق الفلسطينيون في المفاوضات على ما تريده إسرائيل. وما تريده هو "حق إسرائيل في ضم أجزاء من الأراضي الفلسطينية إلى الشرق من حدود ما قبل عام 1967...فأي حكومة فلسطينية ترغب بمجرد وضع التغييرات التي أجرتها إسرائيل في مناطق الضفة الغربية من جانب واحد أو موضوع اللاجئين الفلسطينيين على أجندة المفاوضات لا يمكن أن تكون شريكا في السلام".

لسان حال إسرائيل إذن أن اعتراف الفلسطيني بإسرائيل غير كاف بسبب أنه اعتراف المهزوم!

والحماية!

البروفيسور عوزي أراد، رئيس مؤتمر هرتسليا السابع، تحدث بمضمون له علاقة بضمان وجود دولة إسرائيل وحمايتها؛ فقد تفاقمت في الولايات المتحدة بعض المظاهر المتحفظة من العلاقات الخاصة التي تم بناؤها طوال سنوات عديدة بين واشنطن وإسرائيل.

وقد اعتمد بالطبع على نتائج تقرير لجنة بيكر- هاملتون التي قررت أنه "لا يمكن حل مشكلات الولايات المتحدة في العراق ومشكلات العالم الغربي في إيران دون أن تتحقق أولا كل التطلعات الوطنية الفلسطينية"، فأكد على أنه لا بد من رفض ذلك حتى لا "تعد إسرائيل هي مصدر المشاكل في المنطقة". وهو يركز ويعمق هذا المفهوم حتى لا يبني أحد رفضه وجود إسرائيل في العالم العربي وكراهيته لها بسبب قضية فلسطين.

من جهة أخرى يربط موشيه يعلون، رئيس الأركان السابق، بين حماية إسرائيل وحماية مصالح الغرب، فينقل الخشية على إسرائيل إلى الخشية على الغرب!!

يقول يعلون في مؤتمر هرتسليا: "إن قرارات إسرائيلية بتنفيذ انسحاب أحادي الجانب من شأنها أن تعزز فقط الإسلام الجهادي، فضلا عن ذلك فإن حل النزاع لن ينهي صراع الحضارات مع الغرب، لا مناص من خوض مواجهة مع عناصر الإسلام الجهادي ولا سيما النظام الإيراني".

فلأن أمن الوجود هو المشكلة الكبرى التي تسوقها إسرائيل القوية عسكرياً بما يمكنها من التفوق على جميع جيوش المنطقة، والقوية بسلاح الردع النووي، فإنهم يلحون على الاعتراف المتواصل!

فكيف لو كانت تصريحات فرانسيس فوكوياما في جريدة "الجارديان" في منتصف شباط 2007 حاضرة في المؤتمر أو على هامشه "إن دعم أميركا لإسرائيل في لبنان أكّد حالة الهوس بالقوة الهائلة في عالم ليست القوة العسكرية فيه بالأداة الجيدة التي ينبغي للدولة استخدامها ضد أطراف حرب أهلية تتحدث بالسياسة".

ولسان حال يعلون وغيره يقول إذا كان فوكوياما هذا وهو من المحافظين الجدد بل من منظريهم الموالين لإسرائيل، فما بالك بغيره، ألا يدفع ذلك إسرائيل إلى الخوف من المستقبل؟

اقتراحات لتعقيد الحال

كشفت غالبية أعمال مؤتمر هرتسليا السابع عن اتجاهات منها "الميل نحو التخلي عن صيغ قديمة اقترحت في الماضي لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، وهذا الأمر يرتكز إلى فرضية أساس مغايرة، فيما يتعلق بالطموحات والتطلعات الحقيقية للفلسطينيين أو العرب عموما والتي لا تقتصر على تحقيق حلمهم الوطني في حدود مقلصة".

وظهر من يرفض الفهم القائل أن إنهاء النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني من شأنه أن يحل مشاكل المنطقة..

فهذا بنيامين نتنياهو الذي اقترح قلب هذه الصيغة رأسا على عقب: حل مشاكل أخرى في المنطقة سيؤدي إلى حل المشكلة الفلسطينية.

فهو يرى أن كبح جماح إيران وعزل حماس وحزب الله وإضعافهما "قد ينعش أملا جديدا بحل من نوع مختلف للمشكلة الفلسطينية".

فحين يلغي نتنياهو البعدين العربي والإسلامي بعد تدمير بنيتهما العسكرية، فهل سيفعل شيئا للشعب الفلسطيني غير التكشير عن الأنياب الحادة المحمية؟

لا يعني ذلك غير تصفية القضية وتفريغها من مضمونها الذي ينسجم مع التفريغ القائم الآن للسكان عبر دفعهم لهجرات اضطرارية تأخذ شكلا طوعيا.

الروح الإسرائيلية المقاتلة والتعبئة المستدامة

معروف كم هو مهم تعبئة المستوطنين اليهود قبل إقامة الدولة وبعدها، فكريا وعسكريا، حيث يتجاوز ذلك الأمر الكبار إلى الصغار، فقد غدت سياسة التجنيد تقليدا راسخا، فأصبح السكان ممن هم في عمر الجندية جنودا في الخدمة أو جنود احتياط. ومبرر الخوف من العرب، جعل سكان الدولة جنودا!

كان على الدولة أن تعمق لدى السكان اتخاذ إجراء الحياة أو الموت في القضية المصيرية للوجود، وعلى ذلك قامت السياسة السكانية الإسرائيلية، والتي ركزت على أمرين: تهجير اليهود إلى إسرائيل خصوصا من هم في سن الشباب، والتعبئة العسكرية الشاملة للجنسين لضمان الولاء الأكيد للدولة، حيث تجعل مشروع الدولة مشروعا شخصيا لكل مستوطن يهودي.

لذلك يقتبس عوزي أراد في مداخلاته في هرتسليا من دافيد بن غوريون "إن قدرة الدولة على الصمود ستتعرض للاختبار...منذ ذلك الحين اتضحت بصورة جلية السمة الأكثر أساسية التي تمنح إسرائيل قدرا من المناعة وهي قوة روح الشعب. ورغم الضربات الصعبة فقد صمد الشعب أمام الرياح العاتية".

في الوقت الذي يخلص غابي بن دور، رئيس مركز دراسات الأمن القومي في جامعة حيفا، بعد إجراء استطلاعات على الشعب الإسرائيلي إلى القول "الحرب لم تؤثر على نتائج المؤشرات المتعلقة بالعصب الرئيس- الروح القتالية والوطنية والتفاؤل والبنية التحتية للمجتمع لم تتآكل في أعقاب الإرهاب أو الحرب وبتأثير منهما، والجمهور اليهودي لا ينفك يعلن عن الثقة الكبيرة بعدالة الطريق وعن ارتفاع في منسوب مناعة المجتمع". من جهة أخرى عرض البروفيسور إفرايم ياعر لاستطلاع الوطنية الإسرائيلية للسنة الثانية على التوالي، والذي يظهر أن ثقة المجتمع الإسرائيلي بالسلطة قد هبطت، فيما ظهر أن 80% من الجمهور اليهودي ما زالوا فخورين بكونهم إسرائيليين.

وهذا ما تخشى إسرائيل أن يزداد في ظل الخوف من الحرب كما حدث في حرب لبنان الأخيرة، لأن دولة مثل إسرائيل لا تحتمل أن يخاف شعبها، فهو إن خاف سيتعرض مشروع الدولة للخطر حين لا يصبح مشروعا فرديا لمواطن يلوذ بالخلاص الفردي.

ولا يعني ذلك غير الخوف على الوجود!

فهذا البروفيسور يسرائيل أومان يقول "اندفاعنا الجنوني إلى السلام انقلب إلى لعنة علينا". وقد اقتبس من تشرشل قوله "إذا كنت ترغب بالسلام فعليك أن تستعد للحرب"، هذا الاستعداد يشمل إعدادا ماديا وجيشا متفوقا وأسلحة فعالة، ولكن الأمر يتعلق بالدرجة الأولى بالتهيئة النفسية والجاهزية النفسية لخوض الحرب، ولا يعني ذلك غير ما أكدت عليه اتجاهات المتحدثين في هرتسليا.

عزف مستمر من الاعتراف: سخرية لا تنتهي!

هل يمكن لفرقة أوركسترا أن تظل تعزف طوال الليل في دار للأوبرا؟

تريد إسرائيل عزفاً مستمراً لا يتوقف من الاعتراف، بل تريد أيضاً أن ينكر الفلسطينيون حقوقهم مقابل اعترافهم بوجود إسرائيل الموجودة على الأرض، بكل هذا الوجود العسكري والسياسي والاستيطاني والعمراني والسكان.

يريدون أن ننكر حقوقنا بالدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس، ويريدون أن ننكر حقنا في العودة، وحقنا في أرض 1967 خالية من المستوطنات، ويريدون أن ننكر حقنا بالحدود والسيادة، وحقنا في المياه، أي أن نفرغ قضايا الحل الدائم - التي أجلناها اعتمادا على حسن نوايا الطرف الآخر- من مضمونها.

إننا نعترف بإسرائيل في حدود معينة، مؤكدين على حق العودة بشكل أساسي، فإذا عاد الفلسطينيون كلهم أو بعضهم فلا يعني ذلك خطراً على اليهود هنا، الخطر عليهم لا يأتي من عودة الفلسطينيين، بل من عنصرية الصهيونية، لأنه بدون أن يعود الفلسطينيون إلى إسرائيل، فإن نسبة العرب داخل إسرائيل 1948 ستكون أكثر من 50% خلال عقدين من الزمن، فماذا ستصنع إسرائيل وقتها؟

من منظورنا الأخلاقي والإنساني سنعيش معهم، وإسرائيل لا تصدق ذلك، ولا تتوقع ذلك لسببين: لسوء فعلها على الأرض، ولأنها لا تنطلق من الأخلاق ولا من الإنسانية في تفكيرها، لم تجرب ذلك، وهذه مشكلتها الفكرية التي ندفع نحن ثمنها الآن، وستدفع هي ثمنها في المستقبل إن ظلت كذلك.

(رام الله)

______________________________

(*) "اتجاهات جديدة في الخطاب السياسي الإسرائيلي الراهن: عن مؤتمر هرتسليا السابع حول ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي"، تقرير خاص صادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، شباط 2007.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات