حقّقت العملية الفدائية، التي جرت مؤخّرا قرب قطاع غزه المحاصر (وليس المحرّر)، نجاحاً كبيراً بالمقاييس العسكرية، إذ استطاعت مجموعة مقاومين، بأسلحتهم البسيطة، مهاجمة موقع عسكري إسرائيلي مدجج بالسلاح والآليات، ومحمي بالدشم والأبراج والوسائل الالكترونية والألغام، موقعة فيه العديد من القتلى والجرحى، كما استطاعت أسر أحد المجندين الإسرائيليين، والعودة إلى نقطة انطلاقها في القطاع.
وقد أثارت هذه العملية، البطولية والناجحة والشرعية، غضبا شديدا في إسرائيل، سيما في الوسط العسكري، لعدة أسباب أهمها:، أولاً، أن هذه العملية كانت ناجحة بكل المقاييس، في الإعداد والاستطلاع والهدف، وهي مرّغت كرامة قدس أقداس إسرائيل، أي الجيش، بالوحل، إذ تبيّن أن هذا الجيش هش وسريع العطب في المواجهات المباشرة والاشتباكات المتكافئة، وأنه يعتمد في قوته العسكرية على التفوق التكنولوجي، وعلى إدارة الحرب بالطائرات والدبابات والصواريخ وقوة النيران العمياء. ثانيا، إن سابقة تحدي هذا الموقع العسكري، الذي يعتبر بمثابة قلعة، تدل على الجرأة والمراس والخبرة لدى المقاومين الفلسطينيين، كما أن النيل من هذا الموقع يمكن أن يفتح شهية هؤلاء على مزيد من هذه الأهداف. ثالثا، إن الضربة القاسية التي تعرض لها هذا الموقع العسكري يمكن أن تنعكس سلبا على معنويات جيش الاحتلال كما على معنويات الإسرائيليين، فإذا استطاع المقاومون اقتحام هكذا موقع، فما بالك بالمستوطنات والتجمعات المدينية الأخرى. رابعاً، لا يمكن الحديث عن هذه العملية بالمعايير السابقة، فهنا لا ينفع، مثلا، اللطم ولا العويل، ولا تنفع مصطلحات مثل عمليات إرهابية، أو عمليات جبانة تستهدف المدنيين أو الأبرياء، ولا ينفع الظهور بمظهر الضحية، أمام العالم، فهذا موقع عسكري بمعنى الكلمة والمستهدفون عسكريون مدججون بالسلاح، ويقومون بمهمات عسكرية، وهذا ما شكل إرباكا كبيرا في إسرائيل. خامساً، جاءت هذه العملية بمثابة رد على المجازر التي باتت ترتكبها إسرائيل ضد الأطفال والآمنين من الفلسطينيين، على شواطئ البحر أو في بيوتهم.
عموما لم تكن تلك هي العملية الأولى من نوعها، فقد سبق أن حقق الفلسطينيون عمليات فدائية جد ناجحة، مثل العملية في عين عريك (غرب رام الله) في 27/2/2002، حيث هاجمت مجموعة من ثلاثة مقاتلين من كتائب شهداء الأقصى موقعا عسكريا محصنا، في هذه المنطقة، يقوم بمهمات الحاجز، وتم قتل خمسة جنود وضابط، والاستيلاء على أسلحتهم، ولكن المجموعة لم تستطع الاستيلاء على الدبابة لقلة الخبرة. أما العملية التي لفتت الانتباه فكانت قيام مقاوم فلسطيني، (قناص) منفردا، يوم 3/3/2002، بقتل سبعة من العسكريين وثلاثة من المستوطنين، في حاجز عسكري قرب مستوطنة عوفرا (قرب رام الله)، بواسطة بندقية بدائية. وبحسب رواية "معاريف" (4/3/2002): "أطلق المخرب النار على جندي تقدم لفحص سيارة ثم على جنديين آخرين هرعا لمعرفة المصابين. وسمع جنود الاحتياط الموجودون في المبنى صوت الرصاص..الجندي الأول الذي خرج من المبنى تعرض إلى إطلاق نار وأصيب بجروح. وبعد ذلك خرج قائد المجموعة وقتل برصاص القناص، والممرض الذي خرج مسرعا قتل أيضا. في نفس الوقت وصلت إلى الحاجز سيارة تجارية. قنص المخرب أحد المسافرين كان يجلس قرب السائق. وخرج السائق محاولا الاختفاء لكنه قتل. بعد وقت قصير وصلت سيارة جيب عسكرية وحاول قائد الجيب مداهمة المخرب لكنه قتل.. وعند سماع النداءات عبر جهاز الاتصال وصل إلى المنطقة النقيب اريئيل حوفيت وسارع في الخروج من سيارته وكان القتيل التاسع. والقتيل العاشر كان من سكان مستوطنة عيلي". وقد سميت العملية وقتها باسم "صيد الأوز". وكتب يوسي سريد عن هذه العملية قائلا: "الاحتلال الذي يطول.. المستوطنات التي تقام داخل روحهم.. الأطواق والإغلاقات والجوع والفقر والإذلال تقدم لهم الحافزية، البنادق بدون حافزية لا تطلق النار، ولكن إذا كانت هناك حافزية، حتى المكنسة تطلق النار. وها هي المكنسة أطلقت النار: بندقية كاربين.. سلاح غير أوتوماتيكي.. بندقية قديمة، خردة.. ومخرب واحد قتلا عشرة رجال.. الردع الذي حققه مخرب وحيد مع بندقية الخردة، تفوق ألف مرة الردع الذي حققه فؤاد وموفاز معا في عملية استعراضية في مخيم بلاطة وجنين مع كل دباباتها ومروحياتها" (معاريف، 4/3/2002). وكتب زئيف شيف: "قتل قناص فلسطيني منفرد وشجاع، ببندقية قديمة، سبعة جنود منهم ضابطان، وثلاثة مدنيين.. ولاذ بالفرار.. هذه الحالة إخفاق وإهانة للجيش" (هآرتس، 4/3/2002).
وفي بداية الانتفاضة قام سائق شاحنة فلسطيني (14/2/2001)، بدهس مجموعة من الجنود الإسرائيليين قرب تل أبيب بشاحنته، ما أدى إلى مقتل سبعة منهم. وفي 5/8/2001 قام فدائي بعملية في غاية الجرأة تمثلت بمهاجمة الجنود الذين يقومون بحراسة مجمع وزارة الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب، بسلاحه الرشاش حيث تمكن من إصابة عشرة جنود بجراح مختلفة. وفي عملية أخرى تمكن فدائيان من الجبهة الديمقراطية، يوم 25/8/2001، من اقتحام موقع مرغنيت العسكري في قطاع غزة وأطلقا الرصاص على الجنود المتواجدين فيه، وكان نتيجة ذلك استشهاد الفدائيين ومقتل ثلاثة جنود إسرائيليين وجرح آخرين. وفي 26/9/2001، قامت مجموعة فدائية بتفجير موقع "ترميت" العسكري في رفح، بحفر نفق يصل إلى تحت الموقع ووضع المتفجرات فيه. وفي أكتوبر (2001) قامت مجموعة من الجبهة الشعبية باغتيال الجنرال رحبعام زئيفي، داعية الترانسفير، ووزير السياحة، في القدس.
لكن العملية الفدائية، التي كان لها دلالات كبيرة، كانت تلك التي نفذتها مجموعة من سرايا القدس (التابعة لحركة الجهاد الإسلامي)، نصبت كمينا لقافلة من العسكريين، تحرس مجموعة من المتدينين، قرب مدينة الخليل (16/11/2002)، حيث تمكنت من قتل العسكريين، من دون أن تمس بالمتدينين. وحينها وصف عوفر شيلح هذه العملية باعتبارها هجوم غوار أو حرب عصابات (يديعوت أحرونوت، 19/11/2002). أما حيمي شاليف فكتب قائلا: الكمين ضد جنود الجيش، مهما كان ناجحا ومؤلما، لا يستحق وصف "مجزرة" وربما أيضا ليس "إرهابا" (معاريف، 17/11/2002). وتعقيبا على هذه العملية كتب ب. ميخائيل: "اثنا عشر شخصا ماتوا بسبب اليأس والاحتلال والكراهية والعناد الغبي بمواصلة احتجاز المناطق.. هي ليست حربا على البيت ولا على الدولة وحتى لا على الأرض. إنها حرب على سلامة المستوطنين. وطالما هم هناك. ونحن معهم فسيتواصل سفك الدماء" (يديعوت أحرونوت، 17/11/2002).
هكذا فإن العمليات الفدائية هذه، أدت إلى تكبيد الإسرائيليين 60 بالمائة من خسائرهم البشرية، خلال سنوات المواجهة الخمس (الانتفاضة الثانية)، وهي أدت أيضا إلى تعميق الشرخ في المجتمع الإسرائيلي، بشأن جدوى الاحتلال والاستيطان في الضفة والقطاع. وفي مقابل ذلك فإن هذه العمليات كانت تفند ادعاءات إسرائيل بوصم المقاومة بالإرهاب، وتضفي على الكفاح للتخلص من الاحتلال الشرعية والمصداقية، وتجنبه الدخول في مواجهات كبيرة، فوق قدرته على الاحتمال، وإلى هذا الصنف من العمليات تنتمي العملية الأخيرة ضد الموقع العسكري في كرم أبو سالم.
ومع أهمية التركيز على هكذا عمليات ضد المحتلين من مستوطنين وعسكريين في الضفة والقطاع المحتلين، وضد جيش الاحتلال، فإنه ثمة أهمية لإخضاع هذه العمليات أيضا لإستراتيجية سياسية وعسكرية، حتى تؤتي ثمارها، كما ينبغي أن تأتي في ظل توقيت سياسي مناسب.
الآن السؤال الملح بالنسبة لعملية كرم أبو سالم، على شرعيتها والبطولة المتمثلة فيها، يتعلق بتوقيتها، في ظل حديث كان يدور عن اعتزام جيش الاحتلال اقتحام غزة، كما يتعلق بالتبعات غير المدروسة لأخذ جندي أسير، في واقع يرزح فيه الشعب الفلسطيني تحت أسر الاحتلال.