أخيرا تمكن أريئيل شارون من حسم اتجاه دفة السياسة الاسرائيلية، للمرحلة المقبلة، بالتوجه مجدّدا نحو حكومة جديدة تضم حزب العمل، بدلا من اعتماد خيار الانتخابات المبكرة؛ وذلك لإخراج حكومته من مأزقها بعد انفراط عقدها بانسحاب العديد من الأحزاب منها على خلفية سياسية أو أيديولوجية واقتصادية.
وكان شارون منذ نجاحه الباهر في الانتخابات الاسرائيلية التي جرت في مطلع العام 2003، شكل حكومته الثانية بالاتكاء على دعم الأحزاب اليمينية والدينية الصغيرة، التي ضمت، بالإضافة إلى حزبه الليكود وحزب شينوي (العلماني)، أحزاب: الاتحاد الوطني، والمفدال، ويهدوت هتوراه .
في ذاك التشكيل استبعد شارون شريكيه الأساسيين (العمل وشاس) في حكومته الأولى 2001 ـ 2002. وجاء استبعاد حزب العمل، بعد أن لم يعد شارون بحاجة إليه، لا سيما إثر التراجع الحاصل في نفوذه في الكنيست، بالقياس للصعود الهائل لحزب الليكود؛ إذ تراجعت قوة هذا الحزب في الكنيست الحالي إلى 19 مقعدا، في حين بات حزب الليكود يحوز على 38 مقعدا.
أما حزب شاس (لليهود المتدينين الشرقيين)، وله 11 مقعدا في الكنيست، فجاء استبعاده بهدف استيعاب حزب شينوي العلماني (لليهود الغربيين)، والذي يعتبر من أهم مناهضي شاس، خصوصا أن هذا الحزب بات يعتبر ثالث حزب في اسرائيل بعد الليكود والعمل مع 15 مقعدا في الكنيست.
على أية حال فإن حكومة الوحدة الوطنية الثانية، في عهد شارون، هي غير الأولى، من ناحية التوازنات في الكنيست والاستهدافات السياسية، برغم من أنها ستتشكل من ذات القوى، ولا سيما من تحالف حزبي العمل والليكود والمتدينين.
ففي الحكومة الأولى، مثلا، كان حزب الليكود هو ثاني اكبر حزب في اسرائيل، في حين أنه في الحكومة الثانية هو أكبر حزب فيها؛ مع فارق بينه وبين الحزب الذي يليه (العمل) يبلغ عشرون مقعدا!
وحينما شكل شارون حكومته الأولى كان مضطرا للائتلاف مع حزب العمل، والتنازل له، بحيث كان بيريس وزيرا للخارجية في الحكومة الأولى، وبنيامين بن اليعازر وزيرا للدفاع فيها، في حين أن وزن حزب العمل في الحكومة الثانية سيكون ضعيفا، وبالتالي فإن هذا الحزب لن يستطيع المطالبة بوزارات رئيسية.
أما من حيث الاستهدافات، فإن أجندة شارون في الحكومة الأولى كانت تتركز على الحفاظ على أمن اسرائيل ووأد الانتفاضة وتقويض عملية التسوية مع الفلسطينيين، في حين أن أجندته في الحكومة الثانية باتت تتمثل بالحفاظ على أمن اسرائيل، أيضا، بالإضافة إلى تحقيق جملة أهداف أهمها:
أولا، تخليص اسرائيل من ما يسمى «الخطر الديمغرافي»، الذي بات برأي غالبية الاسرائيليين يهدد هويتها اليهودية، ويفتح احتمال تحولها إلى دولة ثنائية القومية أو دولة «أبارتهايد»، ما يعزلها على الصعيد العالمي، ويضعفها داخليا؛ ثانيا، النهوض بالقطاعات الاقتصادية بعد أن شهدت، خلال السنوات الماضية، ركودا وتراجعا كبيرين، على خلفية ضعف الاستقرار الأمني، وبعض العوامل الدولية؛ ثالثا، المضي بتطبيق خطة الفصل عن الفلسطينيين من طرف واحد، والقاضية بالانسحاب من قطاع غزة، مع تفكيك بعض المستوطنات في شمالي الضفة.
جدير بالذكر أن شارون مرّ بهذه التحولات المهمة، من نفي وجود الفلسطينيين وإنكار أي حق سياسي لهم، إلى الاعتراف بوجودهم وحقهم في دولة (بغض النظر عن مداها السياسي والجغرافي)، بدفع من عوامل عديدة، لعل أهمها:
ـ وصوله إلى قناعة مفادها أن اسرائيل وصلت إلى حائط مسدود في صراعها الدامي مع الفلسطينيين. فهي تستطيع أن تقتل وأن تحاصر وأن تدمر ولكنها، مع كل ذلك، لا تنجح في إخضاع الفلسطينيين أو في كسر إرادتهم.
- تصاعد المخاوف بين الاسرائيليين من مخاطر الوضع الراهن، القائم على تعزيز الاستيطان وتقويض السلطة الفلسطينية، على أساس أن هذه المسارات تشكل قطعا مع عملية التسوية القائمة على دولتين لشعبين، وتضع اسرائيل أمام أحد خيارين إما التخلي عن كونها دولة ديمقراطية والتحول إلى دولة عنصرية، بكل معنى الكلمة، للحفاظ على كونها دولة لليهود. أو الحفاظ على كونها دولة ديمقراطية لسكانها بالتحول إلى دولة ثنائية القومية، الأمر الذي يقوض طابعها كدولة يهودية؛ وكلا هذين الخيارين لا يتوافقان مع فرضية اسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، التي تشكل نقطة إجماع لدى الاسرائيليين.
- على الصعيد الخارجي باتت اسرائيل تواجه تحديات كبيرة من نوعها، إذ باتت بمثابة دولة مكروهة وخارجة عن القانون الدولي، أكثر من أي وقت مضى، بسبب معاملتها الوحشية للفلسطينيين ورفضها الاستجابة لقرارات مجلس الأمن الدولي، القاضية بالانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 ووقف الاستيطان ووقف بناء الجدار الفاصل. هكذا بات الرأي العام الأوروبي يعتبر اسرائيل أكثر دولة تهدد السلام العالمي، وباتت الحكومات الأوروبية أكثر تعاطفا مع قضية الفلسطينيين.
أما الولايات المتحدة، فبرغم كل الدعم الذي تغدقه على اسرائيل، فهي تبدو محرجة من الاستمرار بتغطيتها، بحيث باتت اسرائيل تشكل عبئا يثقل على سياستها الإقليمية والدولية، وموضع طعن بصدقية الشعارات الإصلاحية التي تطرحها إزاء تغيير الأوضاع في المنطقة العربية.
وخلاصة الأمر فإن اسرائيل في وضعها الراهن باتت، لدى الرأي العام العالمي، بمثابة دولة استعمارية وعنصرية تسعى إلى فرض سيطرتها على شعب آخر بالقوة العسكرية الغاشمة وبوسائل مثل جدار الفصل العنصري، الذي يذكر العالم بجدار برلين وبنظام «الأبارتهايد» (السابق) في جنوب أفريقيا.
وفي كل ذلك لم تعد اسرائيل تحتكر صورة الضحية، الأثيرة لديها، والتي كانت تبتز بها العالم، لا سيما أنها باتت تظهر على صورة دولة متجبرة تستخدم الطائرات والدبابات والجنود المدججين بالسلاح لقهر الفلسطينيين، والتنكيل اليومي بهم.
على خلفية هذه التطورات حصلت التحولات السياسية (ولو المحدودة) لشارون، والتي بلغت ذروتها باعترافه أنه لا يمكن لاسرائيل أن تتحمّل الاحتلال، لأنه مضر لها ولاقتصادها ولأمنها، وأنه لا يمكن الاستمرار في السيطرة على 3.5 ملايين فلسطيني؛ وهي التي فتحت الباب لديه لاتخاذ خطوات أحادية في عملية التسوية مع الفلسطينيين، تصل إلى حد الاعتراف بحقهم في العيش بدولة مستقلة.
الآن وعلى ضوء المناخات التي يجري الترويج لها بشأن حلول وضع جديد في الشرق الأوسط، بعد إعادة انتخاب بوش لولاية جديدة، ووفاة الرئيس ياسر عرفات، والرياح الإقليمية للتسوية التي تهب من أكثر من جهة في المنطقة، فإن اسرائيل تبدو بحاجة ماسة لتشكيل نوع من الإجماع الاسرائيلي حول أية خطوة مصيرية مقبلة على جبهة عملية التسوية، وفي هذا الإطار تأتي حكومة الوحدة الوطنية الثانية في اسرائيل.
وفي الواقع فإن شارون، بخطوته هذه، يحاول استباق أو استدراك أية تحولات دراماتيكية في المناخات الدولية والإقليمية، الناشئة عن تغير في القيادة الفلسطينية، ولا سيما تلك الناجمة عن تبلور موقف أميركي وأوروبي بشأن عقد مؤتمر دولي لإطلاق بداية جديدة لعملية التسوية.
ويتوخّى شارون من هذه الحركة إبقاء الزخم متركزا حول خطته المتعلقة بالانسحاب الأحادي وتجنيب اسرائيل الدخول مجددا في استحقاقات كبيرة في عملية التسوية، لا تريدها أو ليست مهيأة لها.
ويرى شارون أن خطة الفصل ربما تتيح إمكان قيام دولة فلسطينية مؤقتة في قطاع غزة، مع إدارة فلسطينية ذاتية في الضفة الغربية، لعشرة أعوام، ما يظهر اسرائيل بمظهر الراغب بالسلام، ويخلصها من العبء الأمني والسياسي والاقتصادي والأخلاقي، الذي أنتجه الاحتلال، والذي فاقم منه صمود الفلسطينيين ومقاومتهم للسيطرة الاسرائيلية.
المهم أن شارون صار يشعر بأن الظروف، الداخلية والخارجية، باتت مواتية له لطرح مخططه بكل وضوح، بحيث يفرضه على الفلسطينيين وعلى العالم، أما فكرة الدولة الفلسطينية فهي لم تعد تشكل مشكلة له، فإذا كان لا يستطيع منع قيام هذه الدولة فهو يستطيع، على الأقل، خلق الوقائع التي تتيح خلق مجالات التي تمكن اسرائيل من خنق هذه الدولة أو تحديد حدودها أو السيطرة عليها.