فجّر المستوطنون صراعا داخليا شديدا في إسرائيل، باختيارهم أسلوبا هجوميا في مقارعة خطة الفصل. وتزامن اختيار هذا الأسلوب مع إقرار مؤتمر الليكود للشراكة مع حزب العمل، وهو القرار الذي عنى لقادة المستوطنين شق الطريق أمام تنفيذ خطة الفصل. فدخول حزب العمل الى الحكومة يعني، بشكل واضح، أن المؤسسة الإسرائيلية باتت قادرة من دون عراقيل جدية على تنفيذ الخطة. لذلك قرر قادة المستوطنون وجوب اللعب وفق قواعد جديدة ونقل المعركة الى خارج المؤسسة الرسمية.
ورغم أن المستوطنين، منذ البداية، حاولوا الجمع بين أسلوبي العمل الشعبي والرسمي، إلا أنهم كانوا يدركون أن قوتهم الأكبر تكمن في الحلبة السياسية. فالأغلبية الساحقة من الجمهور الإسرائيلي لم تتجاوب مع المشروع الاستيطاني بقوة إلا عندما كان هذا المشروع موضع إجماع. وفي اللحظات التي دب فيها خلاف حول المستوطنات كان من الصعب أن يجد المستوطنون في الجمهور الإسرائيلي داعما أكبر له.
ولذلك كان المستوطنون ينظرون بنوع من الاحتقار لاستطلاعات الرأي التي كانت تظهر أغلبية كبيرة مؤيدة لخطة الفصل ولسياسة شارون عموما. وحاول المستوطنون وفق ذلك تركيز جهدهم على الكتل والأحزاب اليمينية داخل الائتلاف الحكومي وخارجه، على أمل أن يعرقل أنصارهم هناك تنفيذ خطة الفصل. وقد رأى الجميع كيف أن مؤتمر الليكود عارض في البداية خريطة الطريق وتصور الرئيس بوش وبعد ذلك خطة الفصل. وشاهد الجميع الصراعات التي دبت في الائتلاف الحكومي ثم في الليكود بسبب هذه الخلافات. ولكن وبقدر ما كان موعد التنفيذ يقترب كانت الهوة تتسع بين المستوطنين وبين كل من أرييل شارون والجمهور العريض من خلفه. وليس صدفة أن المستوطنين وكثيرين داخل المعسكر اليميني اعتقدوا جازمين أن انسحاب الاتحاد القومي بزعامة أفيغدور ليبرمان وبيني آلون من الحكومة سيقود الى سقوطها. وبعد ذلك أبدى كثيرون إيمانا بأن انسحاب المفدال من حكومة شارون يعني نقل الصراع من داخل الحكومة الى داخل الليكود ذاته، وبالتالي خسارة شارون لمعركة الفصل. غير أن الظروف ساعدت شارون وبشكل استثنائي بعد أن تراجع معارضو شارون في الليكود، وخصوصا بنيامين نتنياهو، بشكل مهين. وقاد الموقف الأميركي الداعم لشارون، ونجاح رئيس الحكومة الإسرائيلية في عرض إنجازات على شكل ازدياد إحساس الإسرائيليين بالأمن وتراجع المواقف العربية، في زيادة التفاف الشارع الإسرائيلي حول شارون. وقد أضيف الى ذلك واقع أنه لا توجد في إسرائيل معارضة حقيقية بعد أن جرى تفتيتها وبعد أن عجزت هذه المعارضة عن عرض أي موقف يلقى إقبالاً جماهيرياً.
وبقدرة قادر صار أريئيل شارون بطل الوسط الإسرائيلي وزعيم اليسار الفعلي بحيث لم تعد في مواجهته سوى أقلية من اليمين المتطرف. وبقدر ما كانت هذه الصورة المشوهة للواقع تتبدى للأنظار بقدر ما كان المستوطنون يجن جنونهم. فقد نجح شارون، الضعيف في نظرهم، في لي ذراع الليكود واليمين واليسار على حد سواء. ولذلك لم يجدوا أمامهم من سبيل لمواجهة هذا الوضع سوى استخدام "الكي" كعلاج. ولم يكن هذا "الكي" سوى التهديد بشق المجتمع الإسرائيلي وبتكوين نوع من إيديولوجيا "التكفير" للسياسة الإسرائيلية.
ولم يكن السبيل الى ذلك صعباً: فالمستوطنون الذين صاروا منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية عام 1967 طليعة الصهيونية الجديدة يعرفون قيم المجتمع الإسرائيلي وأوتاره الحساسة. وإسرائيل التي حاولت تثبيت مكانتها في العالم على قاعدة تأنيب ضميره جراء ما فعلته النازية باليهود يمكن تهديدها بالبرهان على أنها استمرار للنازية وملاحقة اليهود. وهذا ما تجلى من خلال اعتبار المستوطنين لأنفسهم قوماً يتعرضون للاضطهاد من جانب الدولة العبرية لأنهم يهود وأن "المحرقة" الجديدة تتمثل في إبعادهم عن أرضهم. وربما أنه خطر لبعض غلاة المستوطنين تذكير الإسرائيليين داخل الخط الأخضر بأنهم هناك أيضا يعيشون على أطلال الشعب الفلسطيني.
والجانب الثاني في منظومة القيم المستهدفة من جانب المستوطنين هو وحدة الجيش. فالجيش الإسرائيلي يعيش على أسطورة أنه "جيش الشعب" وأنه معد فقط من أجل الدفاع عن حدود الدولة وليس للمشاركة في أفعال ذات طبيعة سياسية. ومن خلال إعلان الاستعداد لـ"مقاومة" تدابير الجيش لتنفيذ خطة الفصل، كما من خلال جمع التواقيع على عرائض الجنود التي يتعهدون فيها برفض تنفيذ أوامر الإخلاء، يريد المستوطنون القول إن الجيش لم يعد "بوتقة الانصهار". وهنا يمكن القول إن في سلوك المستوطنين نوعًا من الاقتراب من أطروحات اليمين الأقصى، من جماعة كهانا الذين ينظرون الى الحكومة الإسرائيلية بوصفها حكومة معادية. وكانت بعض قيادات هذه الجماعة قد أعلنت منذ سنوات استعدادها لتأسيس دولة "يهودا" في المناطق التي ينسحب منها الجيش الإسرائيلي. والواقع أن الجيش الإسرائيلي شكل الدرع الواقي للمستوطنين طوال سني الاحتلال، وثمة من يحاول الآن لأن يظهره وكأنه "جيش النظام والقانون". وبذلك يقدم المستوطنون الخدمة الجلى للجيش الذي اقترف عبر عقود، وباسم طهارة السلاح، واحدة من أكبر عمليات البطش والتنكيل واستلاب الأرض والحقوق.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, الخط الأخضر, جيش الشعب, الليكود, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, أفيغدور ليبرمان