ليس ثمة مفاجأة كاملة في إعلان سورية استعدادها للشروع في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، لتحقيق التسوية على المسار الإسرائيلي ـ السوري.
أما الحديث عن تحول ما في الموقف السوري، قوامه التخلي عن اعتماد "وديعة رابين"، أو عن مبدأ الانطلاق من النقطة التي وصلت إليها المفاوضات السابقة (في عهد رابين وبيريس وباراك)، من عدم ذلك، فهو مجرد "اكتشاف" إعلامي، فقط، فلطالما أعلنت سورية استعدادها للمفاوضات من دون شروط مسبقة، اللهم عدا اعتبار أن هذه المفاوضات ترتكز على مرجعية مؤتمر مدريد القائمة على أساس قراري مجلس الأمن الدولي 242 ـ 338، ومبدأ "الأرض مقابل السلام".
هكذا، مثلا، تحدث الرئيس الراحل حافظ الأسد، بعيد لقائه الرئيس الأمريكي (السابق) بيل كلينتون في جنيف (يناير 1994) عن أن "سوريا تسعى إلى السلام العادل والشامل الذي يكفل الحقوق العربية وينهي الاحتلال الإسرائيلي ويمكّن جميع شعوب المنطقة من العيش بسلام وأمان وكرامة"، كما تحدث أمام مجلس الشعب السوري (11/9/95)، عن أن "السلام هو خيار استراتيجي لسورية(..) وأن سورية ستفي بمتطلبات السلام الموضوعية التي سيتم الاتفاق عليها".
ولعل الضجيج الإعلامي الذي صاحب هجوم السلام السوري ما هو إلا بمثابة نوع من القبول بالرواية الإسرائيلية التي تضع مسؤولية انهيار المسارات التفاوضية على عاتق الآخرين، وكأن إسرائيل مجرد ضحية مسكينة وبريئة، في حين أن العرب هم مجرد معاندين وعدوانيين! وهذا يذكرنا بالرواية الرائجة عن انبلاج فجر جديد للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، وكأنه هو الذي كان يحول دون ذلك!
عموما، وبمعزل عن التكهنات أو التحليلات الإعلامية، فإن الجديد في الموقف السوري إنما يتعلق تحديدا بالتحركات الدبلوماسية السورية النشطة، على أكثر من صعيد، لتحريك عجلة المفاوضات.
وتتوخّى سورية من هذا الهجوم السلامي، تحقيق عدة استهدافات، أهمها: أولا، كشف حقيقة الموقف الإسرائيلي المعادي للسلام، والرافض للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة؛ ثانيا، وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته إزاء التعنّتات والروح العدوانية الإسرائيلية؛ ثالثاً، نزع الذرائع من يد الولايات المتحدة، التي تحاول من خلالها عزل سورية واستهدافها، من خلال محاولات إظهارها وكأنها دولة معادية للسلام؛ رابعاً، إبراز حقيقة الانحياز الأمريكي الأعمى لإسرائيل، باعتباره من أهم عوامل فشل مسارات التسوية في المنطقة.
الجديد أيضا أن هذا الهجوم السلامي يأتي في ظل ظروف خارجية صعبة ومعقدة جدا بالنسبة لسورية، من عدة أوجه. ففي إسرائيل، مثلا، ثمة حكومة ليكودية متطرفة، تحظى بآذان صاغية في البيت الأبيض الأمريكي، أكثر من أية حكومة سبقتها. وهكذا فإن حكومة شارون ستتذرع في هذه المرحلة، وفي مواجهتها للخطوة السورية، بأنها مشغولة بخطة الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة، وأنها غير مستعدة للانشغال بمسار آخر؛ كما أنها ستتذرع بالعديد من المآخذ على سورية، من احتضان سورية للفصائل الفلسطينية المعارضة، إلى اتهامها بدعم الإرهاب، إلى وجودها في لبنان!
الوضع الإقليمي أيضا ليس في صالح سورية، لاسيما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، والضغوطات المبذولة عليها لإخراج قواتها من لبنان، وانكفاء البعد العربي في الصراع مع إسرائيل، والتراجع الحاصل في فعاليات الانتفاضة والمقاومة، بعد أربعة أعوام من المواجهات الحامية والدامية، وكل ذلك يضعف من زخم الحركة السياسية السورية.
أما على الصعيد الدولي فإن سورية تواجه وضعا في غاية الصعوبة والدقة، لاسيما بعد "قانون محاسبة سورية" في الولايات المتحدة، وبعد استصدار القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، والخاص بانسحابها من لبنان، خصوصا أن سورية خسرت في هذا المجال حليفا دوليا كبيرا بحجم فرنسا، علما أن الولايات المتحدة باتت تعتبر سورية عائقا من عوائق الاستقرار في المنطقة، ما يضعها في إطار الاستهدافات الأمريكية.
وكانت سورية في مراحل سابقة تمتلك العديد من الأوراق التفاوضية، التي تعطيها قوة مضافة، من ضمنها: الأمن الإقليمي ولبنان وفلسطين والتطبيع الإقليمي، ولكن التطورات الحاصلة في السنوات القليلة الماضية، والتي من ضمنها: 1) الانسحاب الإسرائيلي من جنوبي لبنان وبقاعه الغربي؛ 2) التواجد الأمريكي المباشر في المنطقة (في العراق)؛ 3) تراجع وتيرة المواجهات الفلسطينية ـ الإسرائيلية؛ 4) انشغال البلدان العربية بصدّ الضغوط الأمريكية المتعلقة بإدخال إصلاحات أو تغييرات سياسية وديمقراطية في النظم السياسية؛ كل هذه العوامل، وإن بتفاوت، جرّدت سورية بمعنى ما من بعض قوتها.
ومشكلة المسار التفاوضي السوري ـ الإسرائيلي، أيضا، أن موضوعاته لا تتعلق فقط بالأرض (الجغرافيا)، لجهة الانسحاب من عدمه، أو حجم الانسحاب ومداه الزمني، فهذه المفاوضات تشمل، أيضا، قضايا استراتيجية للطرفين، تتعلق بالأمن الحدودي والإقليمي والسيادة على مصادر المياه وعلاقات التطبيع الثنائية والإقليمية؛ ما يؤكد أن عملية التسوية السورية- الإسرائيلية، صعبة ومتطلّبة.
جدير بالذكر أن أوري سافير، الرئيس الأسبق للوفد الإسرائيلي المفاوض مع سورية، أكد بأنه في نهاية المفاوضات مع السوريين في واي بلانتيشن، تم التوصل إلى اتفاق مفهومي مبدئي بشأن أكثر من خمسين نقطة بين سوريا وإسرائيل، تتناول الاقتصاد والمياه والتطبيع (يديعوت أحرونوت 3/2/97). وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت (مايو/1999) ذكرت أن المفاوضات السابقة، التي جرت بين الجانبين السوري والإسرائيلي، تم التوافق فيها على حل 80% من المواضيع.
وتتميز العملية التفاوضية بين الجانبين السوري والإسرائيلي منذ بدايتها، بأنها تنطلق من نقطة النهاية، أي أنها تحدد، مسبقا، الهدف وتترك التفاصيل للمفاوضات، وتكمن الميزة الثانية في أن المفاوضات تتم على رزمة قضايا فإما اتفاق كامل أو لا اتفاق، أما الميزة الثالثة فهي أن النزاع هنا لا يتم على الأراضي (كما حدث مع الفلسطينيين)، وإنما يتم على ترتيبات العلاقات الثنائية والتعاون الإقليمي وضمانات الأمن والجدول الزمني، الميزة الأخيرة، هي أن الطرفين المعنيين يعرفان مسبقا ما يتوجب عليهما عمله من أجل إنهاء حالة الحرب والشروع بالتالي لتأسيس علاقات عادية بينهما، بمعنى أن كلا منهما يعرف مسبقا الثمن الذي يتوجب دفعه من أجل ذلك.
لقد حزمت سورية أمرها (انسحاب كامل مقابل سلام كامل) ولكن من المشكوك أن تستجيب إسرائيل لهذه الخطوة، بسبب أن موازين القوى مختلة لصالحها، هذا أولا؛ وثانيا، لأن الأوضاع الإقليمية والدولية ليست مهيأة للضغط عليها لدفعها نحو تسوية عادلة وشاملة، لا على المسار السوري ولا على غيره!