كما في كل سنة فإن الفترة الحالية تشكّل محطة ضخّ لا تكلّ للمادة الإحصائية المرتبطة، على وجه الدقّة، بتشخيص واقع الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية في إسرائيل، أحيانًا ليس في منأى عن العوامل الخلفية التي تؤثر فيها، إلى ناحية الدهورة تحديدًا.
وبكيفية ما فإن ما يفرض ذلك بالأساس هو التوقيت، المحاذي لتواتر الأعياد اليهودية التي تعقب رأس السنة العبرية، والذي يشكل بذاته مناسبة دورية لـ"تحرير" كمّ هائل من التقارير الاسرائيلية الرسمية في هذا الشأن، حسبما يشار في مختلف السياقات.
بيد أنه في كل الأحوال لا تعتبر هذه الاحصاءات مجرّد ترسيمات جافة للأوضاع السالفة، بل تحمل في ثناياها أيضًا دلالات ذات قدر من البلاغة، يؤشر بدوره الى واقع إسرائيل الراهن والى احتمالاته المنظورة وغير المنظورة على حدّ سواء.
وفضلا عن الجهات الرسمية المعنية فإن الإسهام في نشر "المعطيات الدقيقة" ينسحب كذلك على وسائل الإعلام الإسرائيلية. في هذا الصدد يجدر التنويه، مثلا، بالملحق الخاص الذي أصدرته صحيفة "معاريف" حول أثرياء إسرائيل ولائحة تدريجهم من حيث حجم الثروة التي يملكها كل منهم. وهو الملحق الذي تزامن صدوره مع تقارير أخرى تطرقت، من ناحية مضادة، إلى نطاق الفقر والجوع في إسرائيل.
ونستحضر موضوع الثراء لكي نشير، من باب التداعي، إلى أنه في موازاة هذا الملحق نشرت مجلة "ذي ماركر" الشهرية المتخصصة بشؤون سوق المال والأعمال في إسرائيل، في عددها رقم 44 (أيلول 2004)، قائمة سنوية للعام الحالي بأسماء "المئة شخص الأكثر تأثيرًا على إقتصاد إسرائيل" وعلى سوق المال والأعمال فيها. ويتصدر القائمة، بطبيعة الحال، وزير المالية بنيامين نتنياهو. لكن الأمر الأهم، في صيرورة هذا المشروع، أن هناك غيابًا مطلقًا في اللائحة لأربعة نماذج من الشخصيات، وهو ما يحيل في العمق إلى الجانب المسكوت عنه في العوامل والخلفيات الواقفة في صلب دوافع تأثيث اللائحة بأسمائها الناجزة، على ما يؤكد "غاي رولنيك"، أحد المحررين الكبار لتلك المجلة.
وهذه النماذج الأربعة هي للشخصيات (الاسرائيلية) المجرّدة التالية:
1. عضو كنيست، وزير أو سياسي يحمل كل منهم لواء محاربة الفساد المستشري في القطاع الجماهيري، كما في السياسة وعالم الأعمال. إن مثل هذه الشخصية لا بد أن تتحلى بما يسميه "رولنيك" بـ" المفعولية الأخلاقية" في توجيه النقد إلى الآخرين، ولا بد أن يكون يضطرم في داخلها لهيب الرفض للفساد وإنعدام الحياء "اللذين أصبحا في السنوات الأخيرة ضربًا من الصرعة في الاقتصاد الاسرائيلي"، على حد تعبيره.
2. رجل أعمال راكم في السنوات الأخيرة ثراء فاحشًا فقط من بيوع شركة "هايتك" كبيرة وحصل على تمويل لمشروعاته وبلغ مكانته المؤثرة المرموقة دون أدنى إستعانة بالسلطة المركزية، ومن غير أن يسرق ويمارس "هواية" تدوير الزوايا الحادة. كما أنه غير راغب في المزيد من "الجاه" وإنما فقط في تطوير مصالحه الاقتصادية.
مثل رجل الأعمال هذا بمقدوره، في رأي الكاتب، أن يقول بملء الفم ودون أدنى اعتبار لأحد، كائنًا من كان، إن الفساد أكثر من أي شيء آخر هو بمثابة السرطان الذي ينهش في جسد الاقتصاد و"يحول دون تحقيق ما ينطوي عليه من إحتمالات تحليق".
3. مدير كبير في هيئة رسمية يتولى شؤون إدارة وتصريف مليارات الشواقل "من أموال أشخاص آخرين" ويحارب، يومًا يومًا، الأنماط السلوكية المختلة والمعتلة للمديرين وأصحاب الشأن في شركات البورصة المختلفة. مثل هذا المدير يلجأ إلى جميع الأدوات القضائية والجماهيرية التي في حوزته في سبيل الحؤول دون سرقة أموال الغير وسعيًا لتكريس أنماط أداء أكثر صحة ومعقولية.
4. موظف مسؤول في الجهاز القضائي حولته حربه التي لا هوادة فيها ضد الفساد وضد العلاقات المختلة بين الثروة والسلطة ليس فقط إلى مصدر يبعث الرعب في القطاع الجماهيري وإنما أيضًا إلى رمز وأمل في منظور مئات آلاف المواطنين الذين أخذ منهم اليأس كل مأخذ خلال السنوات الأخيرة، من جراء الانغلاق واللامبالاة العامة حيال الفساد المستشري.
مثل هذا المسؤول يمكن أن يصبح حقيقة واقعة، في المناخ الاسرائيلي، إذا ما تحرر مرة واحدة وأخيرة من عباءة التعابير البراقة ومغسلة الكلمات القضائية وأصبح في قدرته أن يهز أركان المنظومة السائدة لدى إنكشاف أية فضيحة فساد، بما يفضي إلى دفع رئيس حكومة أو وزير أو عضو كنيست أو عضو مركز حزب حاكم أو موظف مسؤول أو رجل أعمال نحو تقديم إستقالته على الفور.
في الاجمال العام يؤكد "رولنيك"، تعليقًا على اللائحة المذكورة، أن ليس كل من اغتنى هو شخص ناجح بالضرورة، لأن هناك أهمية للسؤال حول كيفية بلوغة هذه المكانة، كما أن ليس كل من يؤثر ينبغي أن يكون شخصية مثيرة للاعجاب والاحتذاء، لأنه يتعين بداية السؤال عن المجالات التي يؤثر فيها وعن ماهية هذا التأثير من الناحية الأخلاقية.
بعد هذا الإجمال لا يبدو من الأهمية بمكان أن يعرف القارىء الكثير من التفاصيل عن لائحة "المئة شخص الأكثر تأثيرًا" وهو يدرك تمام الإدراك "الوصفة المضمونة" للاندساس في اللائحة والاستئثار بموقع فيها وكل ما حوله يؤشر إلى أن شيئًا ما عفنًا في مملكة... إسرائيل.
وعلى صلة بما تقدّم نعيد إلى الأذهان أنه صدر قبل فترة وجيزة في إسرائيل كتاب للخبير القانوني موشيه نغبي عنوانه "مثلنا مثل سدوم: في المنزلق من دولة قانون إلى جمهورية موز" (الناشر: "كيتر"، تل أبيب، 2004) يعرض فيه ما يعتبر أنه "فشل ذريع لمنظومة أجهزة سيادة القانون (الإسرائيلية) في حماية الديمقراطية من الذين يحاولون تدميرها وتقويضها من الداخل"، في إشارة صافية وصريحة إلى من يقف خلف ظواهر الفساد والإجرام.
والنتيجة التي يخلص إليها مؤداها أنه "لا نهضة ترجّى لدولة تخاف سلطاتها من أعداء القانون والديمقراطية، بدل أن يكون سلوكها نقيض ذلك جملة وتفصيلا".
ولعل من المناسب، عند هذا الحد، أن نستعيد ما جاء في تظهير هذا الكتاب، الذي يمكن اعتباره غير مسبوق في "المكتبة الإسرائيلية":
"عصابات الإجرام المنظّم تزرع العنف في شوارع إسرائيل. وأذرعها تتغلغل في سلطات النظام الحاكم وتهدّد بالمسّ بالديمقراطية من الداخل. قتلة، مغتصبون، أزواج عنيفون وتجار نساء يتجولون بيننا طلقاء بسبب حدب المحاكم. أماكن لوائح المرشحين للكنيست تباع في وضح النهار عدّاً ونقداً أو بما يوازي النقود، والساسة الذين يشترونها هم الذين يشّرعون قوانيننا ... مواطنون عاديون يذوقون مرّ العذاب في غياهب السجون والمعتقلات دونما ذنب إقترفوه، بينما يواصل مسؤولون كبار، استغلوا مناصبهم لتحسين وضعيتهم ووضعية المقربين منهم، لهاثهم نحو القمة دون حسيب أو رقيب. القضاء العسكري يمنح حصانة للقادة الذين أهدروا بإهمالهم الإجرامي حياة جنودهم أو استغلوا جنسياً جندياتهم، وأيضاً للذين ينكلون بالفلسطينيين. الإعلام الباحث عن الحقيقة اللسّاع يفقد نيوبه ويأخذ مكانه إعلام إمتثالي وفاسق. وأفظع من كل هذا أن سلطات القانون مشلولة تماماً حيال التحريض والعنف الديني – القومي، اللذين سبق لهما أن أديا هنا إلى إغتيال رئيس للوزراء" (اسحق رابين في 1995).