المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يتبارى مثقفونا، مديرو الجمعيات المختلفة، وبدعم ومشاركة الحركات السياسية الفاعلة على ساحتنا في الداخل، الى عقد المؤتمرات حول كل المواضيع. لكن احداً لم يجد حتى الان الضرورة لعقد مؤتمر وطني قومي ضد التجنيد الاجباري والتجند الاختياري.

صحيح ان الكنيست (البرلمان الاسرائيلي) اسقطت يوم الاربعاء 7/7/2004 وبأكثرية كبيرة اقتراحات قانون شخصية لفرض الخدمة الوطنية قدمها كل من اعضاء الكنيست: اليعيزر كوهين-الاتحاد الوطني، داني يتوم-العمل، وابو فيلان-ميرتس. وقد كان ردّ باسم الحكومة الوزير المفدالي زفولون اورليف، معارضاً فرض الخدمة الوطنية بالقانون ومقترحاً ابقاءها على اساس تطوعي وموضوعاً لـ"الأخذ والعطاء" وليس للفرض والإجبار، لأن المجتمع الاسرائيلي غير ناضج لذلك وخصوصاً في الوسط المتدين المتشدد (الحريديم)، طبعاً متجاهلاً وغير مبالٍ لموقف العرب في البلاد.

هل فعلاً موقف الوزير اورليف هذا هو موقف حكومة شارون، أم أن الامر لا يتعدى المناورة؟!

لم تفُت رئيس حكومة اسرائيل، أريئيل شارون، فرصة في الفترة الاخيرة إلاّ وطرح فيها موضوع "الخدمة الوطنية الالزامية" على عرب الداخل جميعاً. وأخيراً "بضيافة" لجنة الرؤساء العرب في الناصرة ويوم 16/2/2004 في خطابه التلخيصي لسياسة حكومته من على منصة الكنيست، معتبراً اياه من المهام الرئيسية لحكومته، واكد أن الموضوع يقلقه بشكل شخصي، مضيفاً:

"نفحص هذه الايام امكانية فرض الخدمة الوطنية إلى جانب الخدمة العسكرية. معنى الخدمة الوطنية، أن يلزم كل شاب أن يسهم عدة سنوات في خدمة المجتمع سواء في الاجهزة الامنية مثل الشرطة، أم عن طريق العمل في إطار المؤسسات المجتمعية مثل المستشفيات والمراكز الجماهيرية ".

شارون علل ذلك ب"الرغبة في تحقيق المساواة في تحمل الاعباء والتي ستقود إلى المساواة بين فئات المجتمع الاسرائيلي".

واكثر من ذلك:

مكتب رئيس الحكومة/ مجلس الأمن القومي شكّل لجنة رسمية برئاسة دافيد عفري، قائد سلاح الطيران ومدير عام وزارة "الدفاع" سابقاً، لوضع الأسس لفرض الخدمة الوطنية بدأت عملها مؤخراً بتوجيه رسائل الى الكثير من الشخصيات الاجتماعية القيادية من عرب الداخل لمساعدتها في وضع الأسس لسريان مفعول الخدمة الوطنية، وآخرها من يوم 8/6/2004.

فكيف يتوافق طرح رئيس الحكومة هذا وإخراجه الى حيّز التنفيذ بتشكيل لجنة خاصة تابعة لمجلس الامن القومي مع ردّ الوزير اورليف على الاقتراحات اعلاه؟!

الشيء بالشيء يذكّر:

في عام 1949 وعام 1951 شرّعت الكنيست قوانين فرضت الخدمة العسكرية الاجبارية في الجيش الاسرائيلي على جميع مواطني اسرائيل، فيما عدا اولئك الذين يقرر وزير "الدفاع" استثناءهم.

بما أن المبدأ أن القوانين يسري مفعولها على كل من يعتبر مواطناً ، فمعنى ذلك أن هذا القانون يسري كذلك على العرب، ولذلك جاء تخويل وزير الدفاع بالاستثناء كمخرج لهذه المسألة، فتجنيد العرب حينها لم يكن وارداً بالحسبان ومن دوافع امنية. سنة 1956 أُبطل استثناء العرب والدروز والشركس، ومنذها يسري عليهم قانون الخدمة العسكرية الالزامية وفُتح باب التطوع امام بقية العرب.

لكن ما سبق إبطال الاستثناء هذا وحسب ما يتكشف اليوم من الارشيفات الاسرائيلية يُلقي الضوء على الاسلوب المتّبع اليوم بفرض الخدمة الوطنية خطوة خطوة تماما مثلما حدث قبيل سنة 56:

الحكومة حينها استثنت العرب جميعاً قانوناً ثم شكّلت لجاناً خاصة بدأت تعمل وتفتش عن السبل لتنفيذ الخدمة الالزامية. وهذا هو الحاصل اليوم تماماً، فالوزير اورليف من على منصة الكنيست يعارض فرض الخدمة الوطنية بالقانون ورئيس حكومته شارون يشكّل لجاناً لتحضير الارضية لفرضها وعلى اساس "تطوعي" مربوط بمغريات وأفضليات شتى للمتطوعين.

ما الذي يؤكد ان ردّ الوزير اورليف لن يتعدى كونه مناورة؟!

لا يمكن قراءة طروحات وأفعال شارون في هذا السياق إلاّ من وجهين:

الأول: لا ينوي شارون فعلاً وحقيقة فرض "الخدمة الوطنية" على الشباب العرب، وما طرحه إلاّ مناورة لتكريس التمييز، وطرح الوزير اورليف من على منصة الكنيست يوم 7/7/2004 إلاّ من باب: اتركوا لنا اللعبة نلعبها بالطريقة التي نعرفها ولا تخربوها!

الثاني: شارون ينوي ذلك فعلاً وحكومته واجهزتها فعلاً تدرس الخطة وهي في سبيل اخراجها إلى حيز التنفيذ وبطريقتها.

الوجه الثاني هو الأقرب للحقيقة لأن:

اولاً: اسرائيل حقيقة تعاني من ازمة اقتصادية عميقة وليست الخطط المؤلمة المتبعة اخيراً في هذا المجال إلاّ تعبيراً عن ذلك، واذا كان السلام هو المخرج فهذا بعيد المنال وما دام كذلك فالازمة في تعمق.

ثانياً: نسبة المتجندين في اسرائيل هي 40% فقط من الملزمين قانونا، يتحملون الاعباء كلها، وهذه النسبة في تناقص دائم وأحد أوجهها خروج أو هروب الشباب جنود الاحتياط سعياً وراء الحياة الافضل والاسهل خصوصاً إلى الولايات المتحدة الاميركية، ظاهرة مسكوت عليها لكن المخفي اعظم.

ثالثاً: الجيش الاسرائيلي يسير في اتجاه المهنية مثلما هي الحال في الجيش الاميركي.

رابعاً: رغم استثناء الشباب العرب، كما اسلفنا، من الخدمة الالزامية، تطوعت قطاعات واسعة منهم، البدو مثلاً. وظاهرة التطوع طالت القطاعات المدنية وبلغت مبلغاً كبيراً خصوصاً في السنوات الأخيرة، يكفينا تدليلاً مثلاً أن عدد القتلى في صفوف الجيش الاسرائيلي من غير اليهود في الانتفاضة الاخيرة قارب ال- 17 جندياً منهم اكثر من الثلثين من العرب غير الدروز.

إن شارون وحكومته فعلاً في صدد تنفيذ خطة فرض "الخدمة الوطنية" على العرب جميعاً، وما توصلها إلى قناعة أن الظروف مؤاتية إلا نتيجة موضوعية منطقية لاتساع ظاهرة التطوع، والاستفادة التي جنتها من ذلك. هذا في المجال العسكري الامني أما في المجال الاقتصادي ففرض "الخدمة الوطنية" على الشباب العرب معناه تجنيد قوى عمل رهيبة، فأين ستستغل أو تستثمر ؟!

يستطيع الوسط العربي أن يستثمر جزءًا ضئيلاً من هذه القوى في مؤسساته وسيجيء ذلك حتماً على حساب القوى العاملة اليوم في المجالس المحلية وبقية المؤسسات (مدارس وغيرها). هذا من ناحية، ومن الناحية الاخرى أين سيستثمر بقية الاحتياط الكبير هذا؟

طبعاً في الخدمات الجماهيرية في الوسط اليهودي والبلدات اليهودية، والوسط العام (مستشفيات وغيرها)، مما يعطي السلطات الفرصة والامكانية أن تفرغ ال- 40% المتحملين عبء الخدمة العسكرية، للخدمة شبه الدائمة المهنية العالية المغريات، دون أن يحوجها ذلك الى تحمل اعباء اقتصادية فوق طاقتها، ودون قلق على نقص في احتياجاتها البشرية في "رحلتها" طويلة الأمد مع استمرار عدم الاستقرار، "فالسلام" الذي تنشده وفق شروطها بعيد المنال لا يمكن أن يتحقق في المستقبل المنظور.

وما العمل ؟!

القوى السياسية الوطنية العربية والجمعيات الأهلية الفاعلة على ساحتنا لم تعط هذه القضية القدر المطلوب من الاهتمام. وربّما وكعادتنا واتباعاً للمقولة "ليوم الله يعين الله"، فنحن على ما قلّ نعمل على أن لا تنكسر وجلّ جهدنا يضيع في تجبير ما انكسر.

القوى الوطنية الفاعلة بين العرب الدروز وخصوصاً القومية منها، ومن منطلق العلاقة التبادلية المتينة بين التجنيد الاجباري والتجند الاختياري، ومن منطلق قربها من هذه القضية في رحلة مقارعتها "عدم استثناء" العرب الدروز من الخدمة العسكرية الإجبارية على يد وزير "الدفاع" اسوة ببقية ابناء شعبهم وفرضها عليهم قسراً، رأت الحاصل عن قرب ورأت استشراء ظاهرة التطوع بين بقية العرب، رأت توسعها ورأت عدم معالجتها، رأت السكوت عليها.

طرحت الحل بعقد "مؤتمر وطني قومي" في الداخل لمحاربة التجنيد والتطوع لما في هذين الامرين من ترابط وتفاعل بينهما ولما لهما من ابعاد خطرة على نسيجنا القومي في بلادنا وعلى طموحاتنا وطموحات شعبنا الوطنية. إلاّ أن المجهود باء حتى الآن بالفشل واكثر من ذلك عارضته بعض القوى وما زالت.

يستطيع المرء أن يحتم أن شارون وحكومته واذرعها القيمة على مثل هذه الامور، ما كانت لتطرح قضية "الخدمة الوطنية" لولا قناعتها أن الارضية جاهزة والبيّنة:

ظاهرة التطوع المتسعة بين ظهرانينا وتسري سريان السرطان دون أن نستطيع أن نشخّصها صحيحاً وقبل فوات الآوان. أريد أن أومن واقتنع أن امتناع أو تواني القوى السياسية الفاعلة عن معالجة هذه القضية ومسبقاً نابع من انشغالها في القضايا الملّحة، وليس خوفاً من اعتراف بفشل، كون اتساع التطوع في اذرع الأمن المختلفة هو شهادة "سوء سلوك" للقيادات والافضل أن تبقى مطمورة "وليوم الله يعين الله".

يمكن أن"يتشاطر" البعض ويقول:

لا يمكن أن تفرض "الخدمة الوطنية"، فلن تعطي السلطات نقطة قوة للعرب في مسيرة مطالبتهم بالمساواة، وهذا مجرد طرح بعيد التنفيذ. الجواب لهؤلاء هو العرب الدروز، فهل حققت لهم الخدمة المساواة؟ وهل هذا احرج أو اخجل السلطات الاسرائيلية؟ اساساً هل تعرف السلطات الاسرائيلية الخجل؟ سياستها العامة في كل القضايا لا تبقي مجالا حتى لمثل هذه الشطارة !

الخلاصة:

هل ستعطي لجنة المتابعة العليا الممثلة لكل القوى السياسية الفاعلة على الساحة، وهل ستعطي الجمعيات الأهلية، شارون أو حكومته واذرعها (مجلس الأمن القومي) الفرصة لتطبخ الطبخة وتناولنا إياها سمّا زعافا على "السُكّيت" ؟!

هل ستنتظر القوى السياسية الوطنية الفاعلة والجمعيات الأهلية "لجنة عفري" لتنهي مهامها في فرض "الخدمة الوطنية" لتضيفها إلى جدول اعمالها بدل أن تضعها قبل فوات الاوان في صدر جدول اعمالها ؟!

لنخرج مرة عن قاعدة "ليوم الله يعين الله"، دعونا لا نجعلها تنكسر لنوفر علينا جهداً مضاعفاً في تجبير كسرها وحتى إن استطعنا، فلن يعيد التجبير المكسورة إلى أصلها ابداً مهما كان المجبّر فذاً.

المؤتمر الوطني القومي وحالاً هو الحل، والقضية تستاهل مثل هذا المؤتمر.
(*) محام وناشط سياسي. رئيس "ميثاق المعروفيين الأحرار

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات