العنوان الجديد للعبة السياسية في "الشرق الأوسط"، لهذه المرحلة، هو خطة "خريطة الطرق"، التي دفنت اتفاقات "أوسلو" نهائيا، رغم عدم اختلافها عنها كثيرا، من حيث الجوهر. وهذه الخطة، بدورها، تترك الأمور في أيدي الطرفين المتفاوضين (أي في أيدي الطرف الإسرائيلي)، وتتملّص من طرح تصور لحل القضايا الأساسية للصراع (اللاجئون، القدس، المستوطنات، الحدود).
ومعنى ذلك أن مهمة "خريطة الطرق"، محدّدة بالجوانب التالية: أولا، تهدئة الأوضاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وجلبهم مجددا إلى طاولة المفاوضات؛ وثانيا، تعويم اتفاقات "أوسلو"، التي أجحفت كثيرا بحقوق الشعب الفلسطيني، إلى العام 2005 (على الأقل). وهي الاتفاقات التي كان من المفترض أن تنتهي، في مايو عام 1999، بتوصّل الإسرائيليين والفلسطينيين إلى حلول لمختلف القضايا المستعصية، وفي مقدمتها الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967؛ ثالثا، من الناحية الإقليمية، تتوخّى الخطة إعداد مسرح المنطقة جيدا، بحيث لا يعكر صفو الترتيبات الأمريكية المستقبلية، فيها، أي شيء؛ رابعا، أما من الناحية الدولية، فإن الخطة تتوخّى تحسين صورة الإدارة الأمريكية، وردّ الاتهامات لها، بانتهاج سياسة الكيل بمكيالين، في تعاطيها مع القضايا الدولية.
ويستنتج من ذلك أنه مثلما فشلت مسيرة أوسلو، بسبب تعنّت إسرائيل، وعدم نضجها لتسوية مع الفلسطينيين (تحدد من خلالها حدودها الجغرافية والبشرية والسياسية)، فإن خطة التسوية الجديدة، لن تكون بأحسن حالا من سابقتها، لنفس السبب، برغم من كل الدعاية والتحركات التي رافقت إخراجها إلى العلن.
ولعلّ هذا الاستنتاج، ربما، هو الذي يفسّر، إلى حد ما، قبول الفلسطينيين بالخطة، برغم تحفظاتهم عليها، في محاولة منهم للظهور بمظهر المتجاوب مع المبادرات الدولية، وعدم الدخول في مواجهة مع الإدارة الأمريكية، في هذه الظروف غير المواتية. مستفيدين، في ذلك، من التجارب السابقة (رفض مقترحات باراك - كلينتون عام 2000)، وتاركين مهمة تقويض هذه الخطة لإسرائيل؛ بحيث تقف الولايات المتحدة، هذه المرة، أمام مسؤولياتها المتعلقة برعاية عملية التسوية والضغط على حليفتها إسرائيل.
واللافت أن إعلان خطة "خريطة الطرق"، التي جرى تأجيلها مرات عديدة استجابة من الإدارة الأمريكية للرغبة الإسرائيلية (من ديسمبر، في العام الماضي، إلى مطلع مايو)، لم تتضمن التعديلات التي طالبت بها حكومة شارون، وهو ما اعتبرته إسرائيل بشرى غير سارة على الإطلاق. فمنذ ذلك الوقت تبدي إسرائيل ممانعة دؤوبة تجاه ولو مجرّد إعلان موافقتها على الخطة، حتى أن شارون تذرّع بالعمليات الفدائية، التي جرت مؤخّرا، للتهرّب من اللقاء مع الرئيس بوش.
ويبدو أن شارون، الذي قوّض اتفاقات "أوسلو"، ونجح في التملّص من استحقاقات تقرير "ميتشيل" ومذكرة "تينيت"، يتّجه نحو التملّص من خطة "خريطة الطريق"، بإصراره على تحقيق شروط تعجيزية عدّة، أهمها:
أولا، وقف المقاومة الفلسطينية أو "الإرهاب" (بحسب المصطلحات الإسرائيلية)، وذلك في وقت تبيح فيه إسرائيل لنفسها الاستمرار بأعمال التقتيل والتدمير والتجريف، ضد الفلسطينيين. والملاحظ أن حكومة شارون، في سياستها ضد الفلسطينيين، باتت تتمثّل ادعاءات الولايات المتحدة، التي مفادها أنه يحقّ للدول الديمقراطية ما لا يحق لغيرها، من النواحي الأخلاقية والشرعية! ولذلك فهي تعتقد، مثلا، بأنه بات من المشروع لها أن تقوم بحرب استباقية، ضد الفلسطينيين، وأنه يحق لها استخدام الأسلحة المحرمة دوليا، وممارسة إرهاب الدولة، ضدهم. ولِمَ لا، طالما أن الرئيس بوش رهَن حق تقرير المصير للفلسطينيين، وقيام دولة لهم، بوقف مقاومتهم للاحتلال وبتغيير قيادتهم؟!
ثانيا، رفض الاكتفاء بوقف المقاومة، لفترة معينة، إذ أن إسرائيل تطالب السلطة بنزع سلاح المنظمات الفلسطينية والقيام، أيضا، بتقويض بنية المقاومة. فالمطلوب إسرائيليا، من الحكومة الفلسطينية الجديدة، شنّ حرب أهلية. وقد وصلت الوقاحة بالإسرائيليين حدّ امتحان محمد دحلان (وزير الشؤون الداخلية)، بمطالبته بالعمل على اعتقال 50 ناشطا من حماس، وقتل 25 منهم، على الأقل، خلال تبادل إطلاق النيران أثناء عملية الاعتقال! وبحسب عكيفا الدار، فإن "دحلان لم يعرف إذا كان عليه أن يضحك أم يبكي، وقرر تجاهل الأمر".(هآرتس، 20/5)
ثالثا، إدخال تغييرات جذرية على القيادة الفلسطينية، وعزل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات نهائيا، رغم أنه الرئيس المنتخب للشعب الفلسطيني.
رابعا، الإصرار على تخلّي الفلسطينيين، أولا، عن "حق العودة" للاجئين، برغم معرفة إسرائيل أن هذه القضية مطروحة لمفاوضات قضايا الحل النهائي.
خامسا، انتهاج سياسة ميدانية (إضافة إلى المواقف السياسية المتعنتة)، قوامها استدراج ردود فعل فلسطينية قوية، لإبقاء الصراع في المربع الأمني، ما يمكّن شارون من تأكيد وجهة نظره، بأن أمن إسرائيل مازال تحت دائرة التهديد، وأن الوضع لم ينضج للانتقال، في العلاقة مع الفلسطينيين، من الحيّز الأمني إلى الحيّز السياسي؛ وهو ما يسهّل عليه الإمعان في انتهاج عمليات التقتيل والتدمير ضد الفلسطينيين وسلطتهم الوطنية. والأنكى، من كل ذلك، أن حكومة شارون، وهي تطرح شروطها هذه، تؤكد على رفضها وقف الأنشطة الاستيطانية وتقاسم السيادة في القدس والانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، وهي مواقف تطيح بعملية التسوية من أساسها، وتضع الفلسطينيين أمام حائط مسدود. كما أنها تمارس على الأرض عملياتها الإرهابية واعتداءاتها على الفلسطينيين، في مختلف مدنهم، برغم تراجع وتيرة عمليات المقاومة، في إطار جهد الفلسطينيين لتهدئة الأوضاع، ومحاولة منهم لسحب أية ذريعة من حكومة شارون للبطش بهم، في مناخات الحرب على العراق؛ من دون أن تلقى هذه العمليات ردّة الفعل المناسبة عليها، من الإدارة الأمريكية أو من غيرها.
والواقع فإن شارون انتهج، منذ مجيئه إلى السلطة، سياسة ثابتة ضد الفلسطينيين تركّزت على تقويض أي مسار سياسي معهم، والعمل على تدمير قدراتهم السياسية والاقتصادية، لتصعيب حياتهم، وبالتالي لكسر إرادة المقاومة لديهم، وصولا لفرض الحل الإسرائيلي عليهم.
وبالطبع فإن شارون لم ينتهج هذه السياسة من فراغ، إذ أنه استثمر جملة من العوامل والتطورات، لإنجاح سياسته هذه، من أهمها:
1 ـ سيادة الفوضى والعفوية، في عمل الانتفاضة التي بدت وكأنها بلا قيادة تعيّن أهدافها السياسية ووسائلها الكفاحية؛ 2 ـ ضعف إدارة العمل الفلسطيني بسبب استمرار التجاذبات السياسية في الساحة الفلسطينية، بين السلطة والمعارضة، أو بين التيارات المختلفة العاملة في إطار السلطة؛ 3 ـ انهيار المعسكر الإسرائيلي المؤيد لعملية التسوية مع الفلسطينيين، لصالح القوى اليمينية المتطرفة؛ 4 ـ وجود إدارة أمريكية تتبنى وجهة نظر "ليكودية"، في التعاطي مع عملية التسوية وبشأن تشكيل النظام الإقليمي في المنطقة؛ 5 ـ تغير المناخ الدولي بعد الهجوم الإرهابي على واشنطن ونيويورك في 11 سبتمبر (2001)، وهو ما انعكس سلبا على صورة الانتفاضة ولا سيما على المقاومة الفلسطينية، التي حاولت إسرائيل مدعومة من الولايات المتحدة وصمها بالإرهاب؛ 6 ـ تغير البيئة الإقليمية إثر الاحتلال الأمريكي للعراق والتداعيات الكبيرة الناجمة عنه.
وعن ذلك يقول، المحلل الإسرائيلي، ألوف بن: "آن الأوان لتأسيس كليات لأبحاث ودراسات شارون للتعمق في تخمين نواياه السياسية..ما الذي يريده بالضبط؟..محللو رئيس الوزراء ينقسمون إلى أربعة مذاهب. فهناك من يعتقدون بأنه "يريد ولكنه لا يستطيع" التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين. وهناك من يعتقدون انه "يستطيع ولكنه لا يريد" خصوصا في اليسار المتشوق للضغط الأمريكي. وهناك من ينادون بمذهب "لا يريد ولا يستطيع"، مثلا في أوروبا والعالم العربي. وهناك من يدعون بأنه "يريد ويستطيع" كما قال شارون نفسه ومثلما يخشى عدد من رفاقه في اليمين." (هآرتس 24/4) معنى ذلك أن لعبة شارون باتت واضحة، إذ تعوّد إرسال إشارات متضاربة، في وقت واحد، للتهرّب من أي استحقاق سياسي. فهو يدّعي أنه على استعداد لتقديم تنازلات "مؤلمة"، وتفكيك بعض المستوطنات، والاعتراف بدولة فلسطينية. ولكن الأمر بالنسبة له مجرد لعبة علاقات عامة وتقطيع للوقت واستجابة صورية لبعض متطلبات السياسة الأمريكية في المنطقة.
على ذلك من حق الفلسطينيين، من أجل إفشال سياسة شارون، هذه، تجنّب اتخاذ مواقف سياسية مكلفة، وأيضا الردّ، بكافة الوسائل، على الممارسات الإرهابية التي ينتهجها الجيش الإسرائيلي ضدهم، إن في إطار الدفاع عن النفس أو في سياق محاولاتهم رفع كلفة وجود الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي في أراضيهم. ولكن هذا وذاك يحتاج من الفلسطينيين تحقيق توافقات سياسية مناسبة بينهم، كما يحتاج منهم إلى إدارة أفضل لتعقيدات الصراع مع إسرائيل، في هذا المرحلة الصعبة.
* كاتب فلسطيني يعيش في دمشق