المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

* أستاذ الجغرافيا في جامعة "بن غوريون"، د. ثابت أبو راس، في لقاء مطوّل مع "المشهد الإسرائيلي": إسرائيل نفذت في الأعوام الأخيرة عدة خطوات أدت إلى تدمير البنية الاجتماعية والاقتصادية لعرب النقب * في الوقت الذي تهدم البيوت العربية يتم تخصيص أراضي القرية ذاتها لإنشاء مزارع أو لإقامة مستوطنات فردية لليهود! *

يواجه المواطنون البدو العرب في النقب في السنوات الأخيرة حملة شرسة من جانب السلطات الإسرائيلية في الكثير من المجالات، لكن أهمها وأخطرها تتعلق بقضية الأرض، التي تسعى السلطات للاستيلاء عليها لإقامة مستوطنات يهودية ومزارع فردية مخصصة لليهود فقط. وتنشأ من قضية الأرض، خصوصا في القرى العربية غير المعترف بها، سياسة هدم البيوت العربية بشكل مستمر. وهناك مشاكل أخرى يعاني منها بدو النقب، نسيت المجتمعات المتمدنة وجود مثلها منذ زمن طويل، ومنها عدم ربط قرى بأكملها بشبكات الماء والكهرباء وعدم تقديم أبسط الخدمات وبينها الخدمات الصحية، إضافة إلى نسبة بطالة عالية إلى جانب نسبة تكاثر مرتفعة جدا.

وأوضح المحاضر في قسم الجغرافيا في جامعة بن غوريون في مدينة بئر السبع، الدكتور ثابت أبو راس، في مقابلة مطولة أجراها معه "المشهد الإسرائيلي"، أن مساحة النقب تشكل 62% من مساحة إسرائيل. ويبلغ عدد سكان عرب النقب حوالي 175 ألفا يشكلون حوالي 27% من سكان النقب. ويطالب عرب النقب بتملك نحو 750 ألف دونم، وهم يخوضون معارك قضائية ضد السلطات الإسرائيلية من أجل الحصول عليها. وقال الدكتور أبو راس إنه "في حال قررت السلطات الإسرائيلية أن تكون كريمة جدا، وأن يحصل عرب النقب على كل الأرض التي يطالبون بها فإن العرب البدو في النقب سوف يتملكون ما نسبته 3ر5% من مساحة النقب. أي أن 27% من سكان النقب سيتملكون 3ر5%. واليوم يجلس البدو على أقل من 2% فقط من مساحة النقب. وهذا يعني أن البدو لا يطالبون بشيء مستحيل، وإنما بالإمكان حل قضية أراضي البدو لو أرادت السلطات الإسرائيلية ذلك".

(*) "المشهد الإسرائيلي": هل هذه أراض مسجلة باسم عرب النقب؟

- أبو راس: "القضية الأساس تكمن في أن البدو لم يسجلوا الأراضي بأسمائهم في فترة الحكم العثماني. وقد رفضوا التعاون مع العثمانيين والبريطانيين، لأن مفاهيمهم وعقليتهم تقول إنهم أصحاب البادية ولا يتعاونون مع غرباء. حتى أن البدو نظروا إلى العثمانيين على أنهم غرباء رغم أنهم دولة إسلامية. وبعد أن سنّ العثمانيون قانون البلديات في العام 1858 حاولوا إجراء مسح لأراضي فلسطين. وقد كان لهم هدف آخر من هذا المسح هو تجنيد أبناء فلسطين للجيش العثماني إضافة إلى مطالبة الفلسطينيين وبضمنهم البدو بدفع الضرائب على أراضيهم. وقد رفض البدو في حينه تسجيل أراضيهم. وفي العام 1925 حاول البريطانيون مطالبة البدو بتسجيل أراضيهم وأمهلوهم مدة شهرين، كما صدر بيان في غزة يدعو البدو لتسجيل أراضيهم. لكن لم يسجل سوى 2% من البدو الذين كانوا يسكنون بالقرب من بئر السبع أراضيهم لدى السلطات البريطانية، فيما 98% لم يسجلوا الأراضي وحتى أن معظمهم لم يسمعوا بالأمر. الجدير بالذكر أن البدو رفضوا تسجيل أراضيهم لدى قوى غريبة، خصوصا وأن لديهم إيمانا قويا جدا بالقانون العشائري وأن كل بدوي يعرف موقع أرض العشيرة. هذا يعني أيضا أن البدو لم يتملكوا أراضي بشكل شخصي وإنما الأرض تابعة للعشيرة. وكان هذا أمر متعارف عليه، أي أنه كانت هناك اتفاقات شفهية. وحتى العام 1948 كان يعيش في النقب 110 آلاف بدوي. بعد النكبة بقي في النقب 11 ألف بدوي فقط، فيما رحّلت العصابات الصهيونية الغالبية العظمى من البدو. ونجد اليوم أن هناك حيا كاملا في عمان مثلا يدعي حارة السبعاوية وجميعهم من بدو النقب ومن عشائر مثل العزازمة وغيرها وهم موجودون في عمان ومدن أردنية أخرى. أما الـ11 ألفا الذين بقوا في البلاد فقد قررت إسرائيل التي كان يتزعمها دافيد بن غوريون تجميعهم في منطقة تدعى منطقة السياج وتقع ضمن المثلث الواقع بين ديمونا وعراد وبئر السبع. ويسكن أكثر من 90% من البدو في هذا المثلث وهناك جيب في منطقة رهط. وبتجميعهم في منطقة السياج فإن بن غوريون خلط البدو مع بعضهم البعض. قبل عملية التجميع هذه كان هناك بدو يعيشون في منطقة السياج، مثل عشيرتي الربيعات والقديرات وغيرهما، وأحضرت السلطات الإسرائيلية بالقوة بدوا آخرين هم فلاحون وعملوا في التجارة وعاشوا في الماضي في منطقة المجدل وعسقلان التي تسقط فيها كميات أمطار أكبر من النقب واعتاشوا على الزراعة والتجارة مع غزة. وأدت عملية التجميع هذه إلى حدوث مشكلة اجتماعية كبيرة للغاية وهي أن البدو الذين كانوا يعتاشون على الزراعة والتجارة أصبحوا يعيشون مع البدو الذين اعتاشوا على تربية المواشي والجمال. ومن هذه المشاكل أننا أخذنا نسمع، حتى الآن، عن بدو حمران وبدو سمران، أي بدو أصليين وبدو غير أصليين هم الفلاحون. وقد ساهمت هذه العملية في الشرذمة داخل المجتمع البدوي التي ما زالت موجودة حتى اليوم بين البدو الأصليين أصحاب الأراضي والبدو غير الأصليين الذين لا يملكون أراضي وفي الواقع صادرت السلطات الإسرائيلية أراضيهم.

"عندما جمّعت إسرائيل البدو في منطقة السياج كانت تدرك أنهم من سكان البلاد الأصليين ولم يسقطوا عليها من السماء. عندها اخترعت السلطات الإسرائيلية مكانة قانونية للأراضي تقع بين الملكية والتأجير وهي أن تضع أراض في عهدة البدو ومفهومها أنها سمحت للبدو بالتواجد في هذه الأراضي، التي هي أراضي دولة ويسكنها البدو من دون مقابل لحين يتم إيجاد حل آخر. وهذا الوضع كان قد بدأ في سنوات الخمسين. لكن البدو أدركوا أن ثمة وضعا غير صحيح في هذه الحال فالكثير من البدو تم تجميعهم في منطقة السياج بعد أن حصلوا على وعود بإعادتهم إلى أراضيهم، تماما مثلما حصل في حالات كثيرة مع العرب في شمال البلاد مثل سكان قريتي إقرث وبرعم وغيرهما. لكن الفرق بين بدو الجنوب وفلسطينيي الشمال هو أن الأخيرين بحوزتهم كواشين ملية لأراضيهم بينما البدو ليست بحوزتهم أوراق ثبوتية لملكيتهم أراضيهم لكن معروف أنهم عاشوا في هذه المناطق وأكثر ما يثبت ذلك هي المقابر وتاريخ المنطقة حيث أسماء السهول والوديان عربية وهناك قرى مهجرة لا تزال بقايا مساجد فيها، رغم أن إسرائيل قامت بعبرنة المنطقة أي إطلاق أسماء عبرية على مناطقها. وفي غضون ذلك، في الخمسينيات وحتى أواسط الستينيات، أقامت إسرائيل عشرات المستوطنات اليهودية في النقب وعلى أراضي البدو. ولم يكن بإمكان البدو التحرك في تلك الفترة حيث كانوا يخضعون للحكم العسكري".

(*) هل تم تنفيذ عمليات ترحيل للبدو بعد قيام إسرائيل؟

- أبو راس: "نعم. النظام عند البدو هو نظام قبلي طبعا، وأهم شيء بالنسبة لشيخ العشيرة هو ضمان البقاء له ولعشيرته. ونحن نتحدث عن سنوات الخمسين. ولم يكن صعبا على السلطات الإسرائيلية أن تدفع بعض المال لشيخ العشيرة مقابل أن يرحل هو وعشيرته إلى الأردن. وقد حدث هذا الأمر فعلا لدى بعض العشائر، وللأسف لم يوثق التاريخ الفلسطيني هذه الأحداث ولم يتم بحثها بالشكل الكافي حتى الآن. وأنا لا أعتقد أن أحدا يترك وطنه بمحض إرادته".

(*) متى بدأت عملية تجميع البدو في البلدات السبع في النقب؟

- أبو راس: "لقد انتبه البدو إلى أن السلطات الإسرائيلية بدأت في النصف الثاني من الستينيات تخطط لتمدينهم، أي بناء بلدات لهم. وفعلا تمت في العام 1969 إقامة البلدة الأولى وهي تل السبع وفي العام 1973 تمت إقامة بلدة رهط. عندها بدأ البدو معركة الأراضي وبدأوا يطالبون بتسجيل أراضيهم. وقد اقترحت المسؤولة في النيابة العامة الإسرائيلية بليئا ألباك بأن يقدم البدو ادعاءات ملكيتهم على الأراضي ومواقع هذه الأراضي. وقدم البدو في العام 1974 ادعاءات ملكية على 732 ألف دونم. وحاولت السلطات القيام بتسوية على الأراضي من خلال دفع المال مقابل تنازل البدو عن أراضيهم. في تلك الفترة، في نهاية السبعينيات، أعلنت السلطات أنها مستعدة لتعويض البدو عن 20% من مجمل ادعاءات الملكية التي قدموها وأن يتم دفع تعويضات مالية مقابل 80% من إدعاءات البدو، شرط أن تقرر الحكومة الإسرائيلية حجم التعويض المالي. بعد ذلك أعلنت السلطات أنها مستعدة لدفع مبالغ تتراوح ما بين 500 إلى 1000 شيكل للدونم الواحد، وبالنسبة للشق الأول يتم إعطاء أراض مقابل أراض فقط لمن قدم ادعاءات ملكية تزيد عن 400 دونم، ومن يملكون أقل من 400 دونم يتم تعويضهم ماليا فقط. وعمليا فإن السلطات أرادت الاستيلاء على أراضي عرب النقب مقابل المال. البدو بشكل عام صامدون إلى أقصى درجة في قضية الأرض.

"في العام 1982 تلقى البدو ضربة جديدة مع انسحاب إسرائيل من سيناء بموجب اتفاقية كامب ديفيد مع مصر. فقد صادرت السلطات حوالي 100 ألف دونم من البدو، جميعها يطالب البدو بتملكها، وذلك من أجل إقامة مطار نفاطيم العسكري في منطقة تل الملح المحاذية لبلدة كسيفة. وقد كانت هذه المنطقة واحدة من أكثر المناطق الصالحة للزراعة في النقب وكانت مأهولة بالسكان العرب الذين أخلتهم السلطة وأقامت لهم قريتين هما كسيفة وعرعرة النقب وذلك في العام 1982، وبقية السكان من عشائر الزبارقة والنصاصرة وأبو عرار هاجروا إلى منطقة المثلث، إلى الطيبة وقلنسوة وكفر قاسم وأيضا إلى اللد والرملة. وفي العام 1984 أقامت السلطات قرية شقيب السلام وفي العام 1990 أقامت السلطات قريتي حورا واللقية".

كيف نشأت "القرى غير المعترف بها"؟

(*) هل وافق البدو على اقتراح النيابة العامة الذي عرضته ألباك؟

- أبو راس: "لا. البدو لم يوافقوا على اقتراح بليئا ألباك وتوجهوا إلى المحكمة المركزية في بئر السبع، وقررت المحكمة بتركيبة ثلاثة قضاة برئاسة القاضي حليمة في العام 1982 أن: البدو بحسب تعريفهم لا يستطيعون أن يكونوا ملاكي أراضي. ولهذا اعتبرت المحكمة أن جميع ادعاءات البدو على الأرض ليست عادلة وأن السلطات كانت كريمة جدا في توجهها للبدو للتوصل إلى حل وسط. من جانبهم أدرك البدو أنه لا توجد حاجة للتوجه للمحاكم. وقد تميّزت نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات بالتوسع الاستيطاني الكبير في الضفة الغربية وقطاع غزة في ظل حكومة مناحيم بيغن والنشاط الاستيطاني الكبير الذي مارسه أريئيل شارون. وفي ظل هذه الأجواء أدرك البدو أنه ليس أمامهم من سبيل للحفاظ على أراضيهم سوى البناء بشكل عشوائي وفرض وقائع على الأرض. وكان البناء بغالبه عبارة عن براكيات من ألواح الزنك والآن بناء من الاسمنت والحجر في مضارب العشائر أي أن البيوت أقيمت مكان الخيام. وهنا بدأت تنشأ القرى غير المعترف بها في النقب، أي القرى التي تعترف بها السلطات الإسرائيلية. كذلك بدأ البدو في النضال من أجل حقوقهم وقد أثمر بإقامة المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها في العام 1997، الذي يعتبر الهيئة العليا لهذه القرى، وتحول بهذا نضال البدو إلى نضال جماعي وسياسي. وفي العام 1999 أقدم المجلس الإقليمي على خطوة بالغة الأهمية بإصدار خارطة تاريخية بأسماء القرى غير المعترف بها ومواقعها وأكد على وجوب الاعتراف بالقرى غير المعترف بها التي بلغ عددها 45 قرية والمطالبة بمنح خدمات لهذه القرى".

(*) السلطات الإسرائيلية تزعم أيضا أن لا حق للبدو بهذه الأراضي لأن البدو أصلا هم جماعات من الرحّل الذين يتنقلون من مكان إلى آخر. ما هو واقع بدو النقب؟

- أبو راس: "الإسرائيليون يتحدثون كثيرا في نقاشهم حول موضوع بدو النقب عن أن البدو رحّل. لكن الحقيقية التاريخية هي أن بدو فلسطين لم يكونوا من البدو الرحل أبدا، بمعنى أنهم ليسوا مثل بدو السعودية أو الأردن، بسبب التمدن في فلسطين قبل العام 1948 حيث كانت التجارة مزدهرة في مدن فلسطين ومنها غزة، التي تبعد عن بئر السبع 45 كيلومترا وحتى أن المسافة تصبح 32 كيلومترا إذا قسناها بخط هوائي، كما أن مدينة الخليل تبعد عن بئر السبع ومضارب البدو مسافة 20 كيلومترا فقط. بدو إيران والسعودية وسورية والأردن كانوا يرحلون مسافات كبيرة تصل إلى 300 و500 كيلومتر، وهذا لم يكن في تاريخ فلسطين الحديث أي في المائتي سنة الأخيرة. كان هناك ما يسمى بشبه ترحل لدى بدو فلسطين لا يزيد عن 35 كيلومترا، أي من جنوب بئر السبع إلى شمالها. وإذا قرأنا تاريخ الرملة سنرى أنه كانت في منطقتها أيضا مضارب أبو كشك، وهذا يعني أن البدو والفلاحين سكنوا بشكل متقارب من بعضهم البعض. والزعم أن البدو (في فلسطين) كانوا رحلا ولا يجلسون في أراضيهم هو كذبة. وقسم من بدونا، عرب النقب، عمل في الزراعة وكانت هذه زراعة متطورة وهناك أدلة على ذلك. وليس صحيحا أنهم عاشوا على الحليب واللبن فقط، باستثناء العزازمة الذين عاشوا في قلب الصحراء. لكن العطاونة مثلا عملوا بالزراعة ومكان مضاربهم توجد الآن مزرعة شارون. لماذا عاش شارون، والآن أولاده، من الزراعة فيما كان البدو في الماضي رحّلا. هذا ليس صحيحا والعطاونة لم يكونوا رحلا أبدا".

(*) السلطات الإسرائيلية لا تخفي نيتها من وراء مصادرة أراضي البدو من أجل إقامة مستوطنات ومزارع فردية عليها لليهود.

- أبو راس: "النزاع في هذه البلاد هو في الواقع قصة صراع على الأرض بين العرب واليهود قبل كل شيء. وينظر اليهود والعرب إلى الأرض على أنها قضية هوية بالأساس وتعبر عن البعد القومي والوطني والتراثي. وهناك قول لشارون وهو أنه: في النقب يوجد صراع على الأرض وهناك 900 ألف دونم ليست بأيدينا وإنما بأيدي البدو. أي أن رئيس حكومة إسرائيل يتحدث عن أراض بأيدينا وبأيديهم، نحن وهم، أي عندما يتحدثون عن الأرض تصبح القضية يهود وعرب. في إسرائيل لا يوجد خطاب مدني في قضية الأرض، وإنما خطاب قومي فحسب. وعندما كان موشيه ديان وزيرا للزراعة في نهاية الستينيات تحدث عن الحاجة لتمدين البدو. وما يحدث اليوم هو امتداد لكل هذه التوجهات والسلطات ترفض التوصل لتسويات".

(*) هناك قضية مؤلمة أخرى لدى عرب النقب هي رش السلطات الإسرائيلية لحقولهم بالمبيدات...

- أبو راس: "القضية هنا هي أن السلطات تؤجر أراضي فلان من البدو إلى بدوي آخر. أولا أريد أن أؤكد أن البدوي يحترم القانون العشائري أكثر من أي قانون آخر. وما يحدث هنا هو أن أحد المواطنين البدو يتوجه إلى مديرية تطوير البدو التابعة لدائرة أراضي إسرائيل ويطلب قطعة أرض لزراعتها لموسم القمح مثلا. ويدفع 6000 شيكل مقابل حصوله على 300 دونم. ويحرث هذا البدوي الأرض وعندها يتبين لصاحب الأرض الأصلي، وهو بدوي آخر يطالب بملكيتها، أن أحدا ما يعمل في أرضه فيتوجه للبدوي الذي استأجر الأرض ويطالبه بالخروج منها لأنها أرضه ويدفع للمستأجر 6000 شيكل، الذي يوافق على أخذ المبلغ لأنه لن يريد الدخول في نزاع دموي مع البدوي صاحب الأرض وعشيرته. وبما أن الأرض أصبحت محروثة فإن البدوي صاحب الأرض يقوم بزراعتها بالقمح. من جانبها تنتظر السلطات حتى يخضر القمح في نهاية شباط وبداية آذار وتقوم برشها بالمبيدات الكيماوية وتحرق الزرع، بزعم أن صاحب الأرض غزا الأرض، لأنه لم يحصل على تصريح من السلطات لزراعتها. وهذه سياسة مخططة من جانب السلطات الإسرائيلية. لقد جرت نقاشات عديدة في الكنيست حول هذه القضية كانت تطالب السلطات خلالها بأن يطلب صاحب الأرض من مديرية تطوير البدو أن يستأجر أرضه. لكن البدو يرفضون ذلك لأنهم يعتبرون أنهم من خلال خطوة كهذه يسقطون حقهم التاريخي في ملكيتهم لأرضهم. والبدوي يرفض مبدئيا استئجار أرضه".

السلطات تدعي وجود 40 ألف مبنى غير مرخص!

(*) صعدت السلطات الإسرائيلية في السنوات الأخيرة عمليات هدم البيوت في القرى غير المعترف بها. ما هو عدد البيوت المهددة بالهدم في النقب؟

- أبو راس: "تقع الغالبية الساحقة من القرى غير المعترف بها في منطقة السياج. وتفتقر جميع هذه القرى للتخطيط إضافة إلى التكاثر السكاني المرتفع جدا. لذلك يضطرون لبناء المساكن. وتنفذ السلطات الإسرائيلية أعمال هدم البيوت بزعم أن البدو غزاة في هذه الأراضي ويسيطرون على أراضي الدولة. وفي شهر شباط 2006 سن الكنيست قانون طرد الغزاة الذي يعتبر أن كل بدوي يبني بيتا على أرضه هو غازٍ لأن هذه الأرضي مسجلة على أنها أراضي الدولة. من جهة ثانية تدعوهم السلطات إلى إجراء مفاوضات من أجل حل قضية الأراضي. وهذا يعني أن الدولة توافق على دفع المال للبدوي مقابل تنازله عن أرضه التي يرفض التنازل عنها وتمنعه من البناء فيها وتعتبر أنه يغزو هذه الأرض. ويبلغ عدد السكان في هذه القرى حوالي 85 ألف نسمة. وبسبب عدم الاعتراف فإنه لا توجد خرائط هيكلية وكل ما يتم بناؤه، حتى لو كان قن دجاج، يعتبر غير مرخص. وتتحدث السلطات عن وجود 40 ألف مبنى غير مرخص. هذا العام، وحتى الآن، تم هدم 110 بيوت ولكن تقديري هو أنه في العام الواحد يتم بناء 500 بيت جديد. وفي كل مرّة تهدم السلطات بيتا أو اثنين تحشد قوة كبيرة من الشرطة، في حين أن البدو يعيدون بناء هذه البيوت خلال أسابيع قليلة. ولذلك لم تعد عملية الهدم مجدية بالنسبة للسلطات. والآن بدأت السلطات بانتهاج سياسة جديدة وهي هدم قرى كاملة، وهذا أمر خطير جدا. في السنة الأخيرة تم هدم قريتين، القرية الأولى هي طْوَيّل أبو جَروال حيث تم هدم 17 بيتا مرة واحدة، وقبل أسبوعين تم هدم 26 بيتا في عتير أم الحيران. والأمر المؤلم هو أنه يتم هدم البيوت وبالمقابل يتم تخصيص أراضي القرية ذاتها لإنشاء مزارع فردية لليهود أو إقامة مستوطنات فردية. وبحسب التخطيط فإنه سيتم إنشاء مستوطنة مكان عتير أم الحيران وسيطلق على المستوطنة اسم حيران. وهذا الوضع يعني أن هناك عملية تهويد للنقب".

(*) هناك حديث يجري مؤخرا عن أن وزير الداخلية الإسرائيلي الجديد مائير شيطريت بصدد وقف عمليات هدم البيوت؟

- أبو راس: "هناك اقتراح بأن يرفع شيطريت التعويضات لعرب النقب مقابل الأرض كي يكفي لتعويض أصحاب 35% من أصحاب الأراضي بدلا من 20% وزيادة مبلغ التعويض ليصل إلى 5000 شيكل مقابل الدونم الواحد بدلا من 1000 شيكل. لكن عرب النقب يرفضون هذا الاقتراح. وهنا يطالب عرب النقب بوقف سياسة هدم البيوت خصوصا وأن السلطات تفاوضهم على التوصل لحل وسط في قضية الأرض. لكن السلطات الإسرائيلية لم توافق أبدا على وقف الهدم".

(*) كيف يواجه البدو هذا الوضع؟

- أبو راس: "للمنظمات غير الحكومية حضور قوي جدا في النقب، وتنشط جمعيات المجتمع المدني فيه مثل مركز عدالة القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل وجمعية حقوق المواطن وجمعية شتيل. وكل الانجازات التي حققتها القرى غير المعترف بها جاءت في أعقاب التماسات تم تقديمها إلى المحكمة العليا الإسرائيلية التي كانت تصدر دائما تقريبا قرارات في صالح البدو، لكن المشكلة دائما في تطبيق السلطات لهذه القرارات. فقد أصدرت المحكمة العليا قرارات تقضي بربط القرى بشبكة الكهرباء والماء وإقامة روضات أطفال وعيادات، لكن تطبيقها كان صعبا دائما لأن كل حكومات إسرائيل انتهجت السياسة ذاتها تجاه البدو".

(*) ماذا عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية لبدو النقب؟

- أبو راس: "نفذت دولة إسرائيل في الأعوام الأخيرة عدة خطوات أدت إلى تدمير البنية الاجتماعية والاقتصادية لعرب النقب. الخطوة الأولى هي قرار وزير المالية الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في العام 2003 بتقليص مخصصات الأطفال التي تدفعها مؤسسة التأمين الوطني. فالعائلات البدوية هي عائلات كثيرة الأولاد. ومن كان يقبض 10 إلى 12 ألف شيكل، أصبح فجأة يقبض ما بين 2000 إلى 3000 شيكل. الخطوة الثانية، كانت إغلاق الحدود مع قطاع غزة ومع الخليل في جنوب الضفة الغربية. وكانت هاتان المنطقتان تشكلان البعد الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي لعرب النقب. إذ ليست لدى عرب النقب علاقات اقتصادية مع بئر السبع أو مع اليهود ولا مع العرب في الشمال. لذلك فإن امتدادهم الاقتصادي هو الخليل بشكل خاص. أي أنهم يشترون ويبيعون في الخليل وأيضا في غزة. حتى أنّ نساءهم من هذه المناطق الفلسطينية، ودائما كانت الزوجة الثانية والثالثة من هناك. وبناء الجدار حول غزة وفي منطقة الخليل جعل عرب النقب معزولين ومطوقين. وهناك خطة أخرى، يمكن فهمها على أنها خطوة طبيعية لكنها ليست كذلك بالنسبة لعرب النقب، وهي إغلاق الحدود مع مصر بشكل محكم خلال السنوات الخمس المقبلة. إذ تُدخل الحدود مع مصر لعرب النقب حوالي 40 مليون شيكل سنويا، من خلال سلع تتم المتاجرة بها. وأؤكد على أني لا أتحدث هنا عن مخدرات ونساء. لكن الكثير من مواشي عرب النقب يصل إليهم بشكل غير قانوني وكذلك بالنسبة لملابسهم والتبغ الذي يدخنونه. كل هذه السلع تصلهم مهربة من سيناء ويصل حجمها إلى 40 مليون شيكل حسب إحصائيات بنك إسرائيل. لكن خطة تطوير النقب تقضي بإغلاق الحدود بين إسرائيل ومصر كليا. وما لا تفهمه السلطات في إسرائيل هو أنه لم يعد أمام عرب النقب سوى غزو وسط إسرائيل وأعني منطقة تل أبيب الكبرى. وفعلا هناك مؤشرات لتصاعد أعمال الجنوح في وسط إسرائيل حيث تزايدت السرقات. ولعل إغلاق الحدود مع الخليل كانت ضربة قوية للغاية لعرب النقب والسلطات لم تفكر بهذا الأمر ولم توفر بدائل لعرب النقب، إذ لا يتوفر العمل وصورتهم سلبية لدى اليهود. ومثال على ذلك أن 52% من النساء الوالدات في مستشفى سوروكا في بئر السبع هن نساء بدويات و80% من الأولاد الذين يرقدون في قسم الأطفال في هذا المستشفى هم بدو، بينما هناك موظفون قلائل جدا من بين 4500 موظف في هذا المستشفى ولا يوجد أي موظف أو موظفة من عرب النقب في القسم الإداري في المستشفى، رغم وجود عشرات الشابات البدويات المتعلمات والمتخصصات اللاتي لا يعملن. الدولة لا تهتم بعرب النقب والسؤال هو ما الذي سيفعلونه وكيف سيكسبون رزقهم. وواضح أن السرقة هي إحدى المجالات التي يعتاشون منها".

(*) ما هي الخدمات التي تقدمها الدولة للقرى غير المعترف بها؟

- أبو راس: "أولا يجب أن نذكر أنه نتيجة لنضال عرب النقب في القرى غير المعترف بها ومنظمات المجتمع المدني والمجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها اعترفت إسرائيل بتسع قرى وهناك قريتان أخريان سيتم الاعتراف بهما قريبا ليصبح عدد القرى المعترف بها 11 من أصل 45 قرية. ولا تقدم السلطات الإسرائيلية أية خدمات تقريبا للقرى غير المعترف بها، مثل ربطها بشبكات الماء والكهرباء والشوارع والبريد والعيادات الصحية. هناك بعض الخدمات حصل عليها سكان هذه القرى بعد تقديم التماسات للمحكمة العليا، مثل المدارس الابتدائية حتى الصف التاسع. لكن حالة هذه المدارس صعبة جدا. فالاكتظاظ فيها كبير جدا وقسم من المدارس مبني من الإسبست ما يعني أنها خطرة جدا على صحة الأولاد إضافة إلى كون درجة الحرارة فيها عالية جدا. كذلك فإن هذه المدارس تفتقر للمكيفات الهوائية أو الهوايات وحتى الماء أحيانا. من جهة أخرى تحصل فيضانات في فصل الشتاء عند هطول الأمطار رغم شحتها. وفي فترات البرد لا يتوجه الأولاد إلى المدارس. والجيل الجديد لدى عرب النقب لم يعد مستعدا لقبول وضع فيه الأولاد اليهود في بلدة عومِر يلعبون على أجهزة الكمبيوتر ويسبحون في برك السباحة بينما على بعد أقل من نصف كيلومتر من عومِر لا يجد أولاد عشائر الترابين وأبو كف الماء للشرب".

إنهاء التعليم في ... الصف التاسع!

(*) وماذا عن المدارس الثانوية؟

- أبو راس: "لا توجد مدارس ثانوية بتاتا في القرى غير المعترف بها. ومن يريد التعلم في مدارس ثانوية عليه أن يسافر إلى البلدات، مثل رهط وحورة وكسيفة وغيرها. مؤخرا تمت إقامة مدرستين ثانويتين في قريتين تم الاعتراف بهما لكن لا يمكنهما أن تحلا المشكلة. هناك قرية اسمها وادي النِعَم ويبلغ عدد سكانها 5500 نسمة وفيها مئات الطلاب الذي في سن المدرسة الثانوية وعليهم أن يسافروا إلى مدرسة شقيب السلام التي تبعد عنهم مسافة ليست قصيرة. ويتعين على طلاب قرية بير هداج أن يسافروا كل يوم 56 كيلومترا في كل اتجاه ليصلوا المدرسة الثانوية في شقيب السلام. من جهة أخرى فإن البدو لا يوافقون على أن تذهب بناتهم للدراسة في قرى بعيدة ولهذا السبب هناك ظاهرة تسرب من المدارس واسعة جدا خصوصا بين البنات لكن أيضا بين الأولاد. ولذلك يعتبر الفتى الذي أنهى الصف التاسع كأنه أنهى تعليمه وعليه البحث عن عمل".

(*) تطفو قضية عرب النقب، وخصوصا قضية القرى غير المعترف بها، على سطح جدول أعمال الرأي العام في إسرائيل في أحيان متباعدة، وعندها يبدأ الحديث عن توقعات بأن الأوضاع التي يعيشونها سوف تؤدي إلى انتفاضة. هل الوضع في النقب قابل للانفجار؟

- أبو راس: "الانفجار في النقب قائم. ولا حاجة لاندلاع انتفاضة من أجل أن نسمي الأحداث انتفاضة. اليهود يمتنعون عن القدوم للنقب للسكن فيه وهناك هجرة سلبية من النقب بسبب صورة النقب في أذهان اليهود وفي صلبها أنه يوجد الكثير من الجانحين. وهذا صحيح إلى حد ما. من جهة ثانية هناك عصابات بدوية تأخذ أتاوة من أكبر ضباط في الشرطة والجيش ولعرب النقب حضور قوي في مدينة بئر السبع ومحيطها ولا أحد يعرف كيف سيواجه هذا الوضع. وعندما تقع عملية تفجيرية في المدن اليهودية في وسط وشمال البلاد يمتنع العرب عن التوجه إلى هذه المدن، لكن عندما تقع عملية تفجيرية في بئر السبع تجد أن عرب النقب يأتون بأعداد كبيرة جدا لمشاهدة الحدث ولا أحد يجرؤ على التحدث معهم. وعندما يقع شجار في بئر السبع تسعى الشرطة إلى الصلح ولا تقوم باعتقال بدو بتاتا. وهناك مناطق في النقب لا تدخلها الشرطة وخصوصا في ساعات الليل لأن أفرادها سيتعرضون لإطلاق النار. هذه المناطق تعتبر مكانا للعشيرة لا تستطيع الشرطة دخولها ولا أحد يدخلها غير أبناء العشيرة. وعندما تريد الشرطة الدخول إلى إحدى هذه المناطق، حتى في ساعات النهار، تتوجه لشيخ العشيرة وتطلب إذنا بالدخول. وأعتقد أن الوضع القائم هو شبه انتفاضة. والأوضاع يمكن أن تؤدي إلى انتفاضة لكن تفجرها سيتم بدون التحضير لها، فالمنطقة مليئة بالسلاح. والسلطات لن تعرف كيف تتعامل مع البدو سوى باستخدام القوة وعندها سيصبح الوضع صعبا للغاية".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات