شكّل احتفال إسرائيل أخيرًا بما تسميه "يوم القدس" فرصة اغتنمتها بعض الأوساط الإسرائيلية، الأكاديمية والسياسية والإعلامية المهتمة والمراقبة، لـتأمل ومراجعة ما جرى ويجري حالياً من سياسات وممارسات رسمية إسرائيلية في مدينة القدس. ولعل من المفيد دائمًا إلقاء الضوء على خلفيات وطبيعة أهداف وسياسات ومخططات الضم والتهويد
احتفلت إسرائيل قبل أسبوع (حسب تقويمها العبري) بما تسميه "يوم القدس"، وهو اليوم الذي ضمت فيه إليها، "رسمياً و قانونياً"، الشطر الشرقي (العربي) من مدينة القدس والذي احتلته مع ما تبقى من مساحة فلسطين التاريخية ("الانتدابية")، في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل ثمانية وثلاثين عاماً خلت، في حرب حزيران من العام 1967.
وقد شكّلت هذه المناسبة، التي جعلتها الدولة العبرية منذ ذلك الحين "عيداً وطنياً" يحتفي به الإسرائيليون سنوياً، ولا سيما المتمسكون والمتعصبون منهم لعقيدة "أرض إسرائيل الكاملة" ولـ "أورشليم العاصمة الأبدية" للدولة اليهودية، فرصة اغتنمتها بعض الأوساط الإسرائيلية، الأكاديمية والسياسية والإعلامية المهتمة والمراقبة، لـتأمل ومراجعة ما جرى ويجري حالياً من سياسات وممارسات رسمية إسرائيلية في مدينة القدس.
ولعل من المفيد بداية إلقاء الضوء على خلفيات وطبيعة أهداف وسياسات ومخططات الضم والتهويد والتفريغ التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حيال الشطر الشرقي، الذي يحتضن جوهرة المدينة المقدسة وقلبها النابض بروح وعبق التاريخ العربي والإسلامي الراسخ منذ احتلاله في العام 1967.
الضم والتهويد – خلفية موجزة
في 28 حزيران 1967، وبعد 18 يوماً فقط من احتلال إسرائيل لباقي مساحة "فلسطين الانتدابية"، أي الضفة الغربية (بما فيها "القدس الشرقية") وقطاع غزة، وضعت الحكومة الإسرائيلية، بقيادة "المعراخ" (حزب "العمل" لاحقاً) اللبنة الأولى في السيطرة على مدينة القدس "العربية" تمهيداً لتهويدها. ففي ذلك اليوم أصدرت الحكومة مرسوماً يستند إلى قانون أنظمة السلطة والقضاء لسنة 1948، يسري بموجبه "قانون الدولة- الإسرائيلية- وقضاؤها وإدارتها" على مساحة تبلغ حوالي 70 ألف دونم تضم بلدة القدس القديمة والمناطق المحيطة بها وتمتد من صور باهر جنوباً إلى مطار قلنديه وكفر عقب شمالاً، كما أصدر وزير الداخلية الإسرائيلي إعلاناً في الجريدة الرسمية بإلحاق منطقة القدس الموسعة بمنطقة صلاحية (متروبلين) مجلس بلدية القدس (الغربية) اليهودي. وبذلك توسعت منطقة الصلاحية ثلاثة أضعاف وأصبحت تُعادل 20% من مجموع مساحة الضفة الغربية، عِلماً أن الأراضي التي ضُمت حديثاً (بموجب المرسوم ذاته) تُعادل 14% من هذه المساحة. وفي 18 آب 1967 قررت الحكومة الإسرائيلية تفويض رئيسها تسريع عمليات البناء والاستيطان في "القدس الكُبرى".
ومنذ ذلك الحين تبّنت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، العمّالية والليكودية والإئتلافية سواء بسواء، سياسة منهجية ثابتة حِيال القدس، تجسّدت في ترسيخ السيطرة اليهودية على المدينة ومنطقتها وتعزيز "وحدتها" المادية. هذه السياسة كانت ولا تزال تهدف بوضوح إلى الحؤول دون إعادة تقسيم القدس لاحقاً، وهو ما شكّل رُكناً وطيداً في ما يسمى بـ "الإجماع القومي" الصهيوني.
وقد تمت ترجمة سياسة التهويد هذه من خلال جملة من الإجراءات والقرارات والخطط والمشاريع التي اعتمدتها الحكومات الإسرائيلية طوال العقود الأربعة الأخيرة، وتجّسدت في تنفيذ العديد من المشاريع والخطط الإستيطانية المكثفة داخل القدس وفي محيطها وفي الاستيلاء على الأراضي والعقارات الفلسطينية، الخاصة والوقفية، وتقييد البناء العربي على أراضي المدينة بشروط صارمة أصبحت اليوم أقرب إلى التعجيزية، وتمزيق أوصال ومنع التواصل بين الأحياء العربية.
الخطة الاستيطانية الأولى في القدس، التي بلورها يهودا تمير، نائب المدير العام لوزارة الإسكان، بعد عام واحد تقريباً من إحتلال 1967، تضمنت في خطوطها الأساسية إيجاد تواصل يهودي في المرحلة الأولى بين شطري المدينة، من الشمال إلى الجنوب (قضت بإقامة سبعة آلاف وحدة سكنية في الشمال، بدءاً من التلة الفرنسية وامتداداً في اتجاه شارع النبي صموئيل وباب العامود، وعدد غير محدد من المساكن في الجنوب باتجاه قصر المندوب السامي (في جبل المكبر) وصور باهر وحتى مشارف بيت جالا وبيت لحم، ومضاعفة عدد مباني الجامعة العبرية على جبل سكوبس وإقامة مكاتب ومقار حكومية في منطقة الجبل وحي الشيخ جراح، واستيطان "حي الشرفاء" (الحي اليهودي القديم) المتاخم للحرم القدسي الشريف داخل البلدة القديمة). هذه الخطة- "خطة تمير"- ظلّت إجمالاً نموذجاً لمشاريع استيطان القدس وتهويدها وذلك من زاويتين: سِتار السرية والغموض الذي يلفها، واستراتيجية "الوصل" (بين النقاط والأحياء الاستيطانية) و"الفصل" (بين التجمعات والأحياء العربية)، وإقامة الأطواق والأحزمة الاستيطانية (وأخيراً جدار الفصل "الضم والتوسع" العنصري) التي تحوّط وتحاصر المدينة من كل جوانبها.
كما اعتمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، منذ احتلال 1967 وحتى الآن، العديد من الخطط والمشاريع الأخرى، التي تصب في ذات الأهداف، وأبرزها المخطط الرئيسي للقدس الذي نشر في تموز 1970، ويهدف إلى تحويل القدس بشطريها إلى مدينة واحدة ذات أغلبية يهودية مطلقة، مع التركيز على "زيادة الوجود اليهودي في القدس الشرقية"، و"خطة تطوير القدس حتى سنة 2010" (التي اعتمدتها حكومة الليكود في 28 أيار1984) وتهدف إلى "مضاعفة عدد اليهود في القدس الكبرى" من 330 ألف نسمة إلى 750 ألف نسمة خلال خمسة وعشرين عاماً، وذلك عن طريق استيطان المنطقة الممتدة من مستوطنة "بيت إيل" شمالاً إلى "غوش عتصيون" جنوباً ومن "مفسيرت تسيون" غرباً إلى مستوطنة "متسبيه يريحو" (قرب أريحا) شرقاً، وتضمنت هذه الخطة إقامة (15) مستوطنة جديدة في المنطقة إضافة إلى شبكة من الطرق المركزية التي تربط القدس بشبكة المواصلات الإسرائيلية.
في أعقاب موجة الهجرة الكبيرة ليهود الإتحاد السوفياتي سابقاً مطلع التسعينيات، وبدء "عملية السلام" في نطاق إتفاقيات أوسلو (1993)، كثّفت الحكومات الإسرائيلية (العّمالية والليكودية وحكومات "الوحدة الوطنية") بشكل غير مسبوق من الإجراءات والخطط الهادفة إلى تسريع وتائر بناء المستوطنات وإسكان اليهود في القدس الشرقية ومحيطها بشكل خاص. وفي تموز 1993 بلغ عدد المستوطنين اليهود القاطنين في حدود القدس الشرقية 160 ألف شخص، في مقابل 155 ألف فلسطيني يعيشون في المدينة.
وفي موازاة هذه الأنشطة والمشاريع الاستيطانية التهويدية، انتهجت السلطات الإسرائيلية منذ ضم القدس الشرقية سياسة تمييز منهجي مقصود ضد السكان الفلسطينيين في القدس المحتلة في جميع الأمور المتعلقة بمصادرة الأراضي والتخطيط والبناء والخدمات وجباية الضرائب ... الخ، وطبِّقَت ابتداء من النصف الثاني من التسعينيات سياسة ترحيل (ترانسفير) سِّري لمواطنين فلسطينيين مقيمين داخل الحدود البلدية للمدينة، مما أدى لفقدان الآلاف من المقدسيين مواطنتهم في المدينة.
خطة الفصل ... مدخل لتسريع وتائر التهويد
خلال السنة الأخيرة، كانت مدينة القدس، وتحديداً شطرها الشرقي ومحيطه، مسرحاً لسلسلة من التطورات والإجراءات النظرية والعملية، التي تُحيل إلى ما يوحي بأن معركة حسم مستقبل ومصير المدينة قد دخلت من الوجهة الرسمية الإسرائيلية على الأقل، محطتها الأخيرة.
وتيرة هذه السلسلة من الإجراءات والتغييرات، الجيوسياسية والديمغرافية، التي تقوم إسرائيل بفرضها يومياً على أرض المدينة المقدسة، تسارعت وتكثفت بشكل خاص وملموس في أعقاب المصادقة النهائية من قبل الكنيست والحكومة الإسرائيليين على خطة الفصل الأحادية الجانب عن قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، والتي من المزمع الشروع في تنفيذها خلال شهر آب المقبل.
وقد جاءت التصريحات التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي أريئيل شارون، خلال زيارته للجالية اليهودية في الولايات المتحدة أواخر أيار الماضي، لتوضح بما لا يدع مجالاً للشك حقيقة النوايا والتفكير المعبّرين حتى الآن عن رؤية "الإجماع الإسرائيلي" حيال كل ما يتصل بمستقبل المدينة ووضعها النهائي في أية تسوية دائمة محتملة، حيث شدد شارون قائلاً: "لن تكون هناك مفاوضات مع الفلسطينيين حول القدس ... معاليه أدوميم وغوش عتصيون (على أطراف الحدود الموسعة للقدس شرقاً وجنوباً) سيبقيان تحت سلطة إسرائيل إلى أبد الآبدين بتواصل إقليمي".
وأردف مؤكداً أن الحكومة برئاسته لن تقدم أية تنازلات ولن تتوصل لأية تسويات في ما وصفه "عاصمة إسرائيل الموحدة، غير المقسمة، إلى الأبد".
هذه التصريحات رأى فيها المراقبون مؤشراُ جلياً إلى توجه رسمي إسرائيلي يُحيل إلى أمرين رئيسين، الأول أن حكومة شارون ستتخذ من تطبيق خطة الفصل الأحادية الجانب غطاء لتعجيل وتائر تنفيذ مخططات التهويد والتوسع الاستيطاني في القدس الشرقية ومحيطها بصورة خاصة، والأمر الثاني العمل من خلال ذلك، على تكريس حدود وصورة الوضع النهائي للمدينة تمشياً مع الرؤية ذاتها للحل الدائم للقضية الفلسطينية الذي تسعى إسرائيل لفرضه من جانب واحد. هذا التوجه أخذت ترجماته العملية على الأرض تشق طريقها كما أسلفنا بشكل متسارع عبر سلسلة الإجراءات والمخططات المشار إليها، والتي يمكن إيجاز أبرزها بالتالي:
* جدار "الموت" للقدس العربية: مضت حكومة إسرائيل قُدماً في استكمال بناء جدار الفصل على مسار الحدود الموسعة للقدس، وهو الإجراء والتغيير الأخطر الهادف إلى عزل المدينة بشكل تام عن باقي الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. وكان المتخصص الإسرائيلي في الجغرافيا السياسية، البروفيسور أورن يفتاحئيل، قد أكد في وقت سابق لـ "المشهد الإسرائيلي" على هذه الخطورة بقوله إن مخطط الجدار حول القدس يُعتبر في نظره "مخطط الموت للقدس العربية، لأنه يهدف إلى فصلها عن محيطها الفلسطيني" مضيفاً إن الجدار "يحتجز داخل القدس أكثر من 200 ألف فلسطيني من دون أن تكون لهم جنسية وهو ما يؤدي إلى عزلهم عن مواردهم الروحية والمادية في الضفة الغربية".
من جهته رأى المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف، في مقاله نشرها أخيراً في صحيفة "هآرتس" (10/6/2005)، أن الجدار الإسمنتي الهادف إلى عزل القدس العربية عن الضفة الغربية "يُجسّد التغيير الدراماتيكي الأخطر الذي تشهده المدينة منذ احتلال شطرها الشرقي وضمه للغربي" في العام 1967. وأضاف في نفس السياق "ما يحدث اليوم في القدس يتجاوز الاحتياجات الأمنية ويعبر عن خلاصة الحلم الصهيوني الأصلي: أقصى مساحة من الأرض وأقل عدد من العرب". ويحيل المؤرخ الإسرائيلي المعروف بذلك إلى نتيجة واضحة مؤداها أن مخطط بناء جدار العزل حول القدس يهدف، بل ويؤدي عملياً منذ الشروع في بنائه، إلى تنفيذ ترانسفير جماعي لعشرات الآلاف من المواطنين العرب المقدسيين ولأحياء عربية بأكملها إلى خارج حدود "القدس الموسعة".
* ضم وتوسيع المستوطنات حول القدس: في أواسط الشهر الماضي كشف عن قرارات سرية اتخذتها الحكومة الإسرائيلية وتقضي بتوسيع وضم مستوطنة "معاليه أدوميم"، كبرى المستوطنات اليهودية إلى الشرق من القدس، وتجمع مستوطنات "غوش عتصيون" في الجنوب. وذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية في حينه أن خطة ضم "معاليه أدوميم" تقضي ببناء أكثر من 3500 وحدة سكنية على الهضاب الواقعة بين المستوطنة والقدس وإقامة جدار يربط المستوطنة بالمدينة ضمن تواصل استيطاني يهودي. وأكدت أن خطة "معاليه أدوميم" هي جزء من عملية أكبر ينتظر أن يتم في نطاقها أيضاً ضم مستوطنات "غوش عتصيون" إلى "القدس الموسعة" بواسطة الجدار العازل. وأوضحت أن هذه الخطط التي أقرتها الحكومة الإسرائيلية قبل ثلاثة أشهر، تهدف إلى "فرض وقائع على الأرض حتى قبل الشروع بتطبيق خطة الفصل" والحؤول دون أي تواصل فلسطيني بين منطقة القدس ومحيطها في الضفة الغربية، إضافة الى تعزيز "الأغلبية اليهودية" في المدينة عن طريق زيادة عدد السكان- المستوطنين- اليهود في المنطقة بعشرات الآلاف.
* مخططات استيطان وتهويد "حوض القدس": شهدت السنة الأخيرة تسارعاً حثيثاً في تنفيذ مخططات ومشاريع استيطان وتهويد ما يُسمى بـ "الحوض المقدس" لمدينة القدس والذي يضم المناطق والأحياء العربية المتاخمة لأسوار البلدة القديمة، مثل سلوان ورأس العامود وجبل المكبر. وتندرج هذه المخططات، التي تقوم غالباً جمعيات استيطانية- دينية يهودية متطرفة بتنفيذها بدعم وتعاون وثيقين مع جهات رسمية وحكومية إسرائيلية متنفذة، في نطاق خطط هيكلية؛ بعضها أُقر سابقاً، وبعضها الآخر أُقر حديثاً، لمدينة القدس، مبنية على حجج واعتبارات ديمغرافية ودينية يهودية، وتهدف إلى تفريغ منطقة حوض المدينة المقدسة من سكانها الفلسطينيين تمهيداً لاستكمال تهويدها الكامل وإحكام السيطرة اليهودية على مداخل البلدة القديمة والحرم القدسي الشريف. وقد جرى في نطاق هذا المخطط التهويدي، قبل عدة سنوات بناء الحي الاستيطاني المكون من 216 وحدة سكنية في "رأس العامود" (على مسافة كيلومترين من القدس القديمة) وتوسيع رقعة الاستيطان في عددٍ من أحياء بلدة سلوان المتاخمة لأسوار المسجد الأقصى من الجهة الجنوبية، عبر الاستيلاء على عشرات المنازل العربية بطرق وأساليب ملتوية. كما شرع أوائل هذا العام بأعمال التمهيد لبناء حي استيطاني جديد على أراضٍ عربية مُصادرة على سفح "جبل المكبر" المُطِّل على القدس من الجهة الجنوبية- الشرقية، فيما من المنتظر الشروع قريباً في بناء حي استيطاني جديد آخر فوق أراضٍ مُصادرة قرب بلدة أبو ديس، إلى الشرق من المدينة.
ولعل أخطر هذه المخططات هو الذي أعلنت عنه سلطات البلدية الإسرائيلية في القدس الغربية قبل حوالي الشهرين والذي تزمع بموجبه هدم وإخلاء حي سكني فلسطيني بأكمله يضم 90 منزلاً تؤوي 200 عائلة فلسطينية في المنطقة المعروفه باسم "حي البستان" في سلوان.
وبصرف النظر عن الذرائع والأهداف المعلنة لهذا المخطط الخطير فإن الهدف الحقيقي منه هو "تطهير" المنطقة (منطقة حوض القدس) من سكانها العرب لجعلها منطقة مفتوحة للسيطرة اليهودية على مداخل البلدة القديمة واستكمال مخطط "إحياء" ما تزعم رواية المتشددين اليهود على أنه موقع "مدينة داوود" في بلدة سلوان، فضلاً عن إقامة تواصل إستيطاني يهودي ابتداءً من سور القدس والمسجد الأقصى (باب المغاربة) الجنوبي مروراً بأحياء "وادي حلوة" و"الحارة الوسطى" و"رأس العامود" في بلدة سلوان، وصولاً إلى جبل المكبر ومشارف أبو ديس في الشرق.
* بالإضافة إلى هذه المخططات الرئيسية البارزة، فقد كشف في بداية العام الحالي النقاب عن قرار حكومي إسرائيلي، أُتخذ سِراً في تموز من العام الماضي، بتزامن مع إقرار حكومة شارون لخطة الفصل الأحادية الجانب، ويقضي بتطبيق "قانون أملاك الغائبين" على القدس الشرقية المحتلة، والذي يُتيح للسلطات الإسرائيلية الاستيلاء على عشرات آلاف الدونمات والعقارات التي تعود ملكيتها لمواطنين فلسطينيين يقطنون خارج "حدود" المدينة. كذلك نشطت خلال الأشهر الأخيرة، بدوافع شتى، محاولات الاعتداء والتهويد المستهدفة للمقدسات الإسلامية (الحرم القدسي الشريف) والمسيحية (وقفْ الكنيسة الأرثوذكسية) داخل القدس القديمة والتي تقف وراءها محافل يهودية استيطانية ودينية متطرفة مدعومة في الغالب من أوساط متنفذة في الحكومة الإسرائيلية.
رؤية لما يجري في القدس
اليوم، وبعد مرور 38 عاماً على قيام إسرائيل بضم أو "توحيد" القدس، كيف يُقيِّم وينظر الإسرائيليون أنفسهم لكل ما جرى ويجري حالياً من إجراءات ومخططات وأهداف في مدينة القدس، وخاصة الشطر الشرقي المحتل منها؟
لعّل أهم ما كُتب في هذا السياق بأقلام إسرائيلية على هامش احتفال إسرائيل بـ "يوم القدس" الأسبوع الماضي، هو ما ذهب إليه رجل "الليكود" وعضو مجلس بلدية القدس سابقاً، د. موشيه عميراف، حيث أنشأ يقول: "الفرحة والفخر اللذان كنا نشعر بهما في أعياد يوم القدس في الماضي تراجعا بعض الشيء... فحزن هذه المدينة الكبير يطغى على الأعلام (الإسرائيلية) التي تُرفرِف فيها". وأردف عميراف، الذي يترأس حالياً طاقم السياسة الجماهيرية في كلية "بيت بيرل"، إن الوقفة القومية والجماعية المستندة إلى الأبحاث الأكاديمية وإلى تجربته السياسية تحيله إلى الإستنتاج أن "في الإمكان التفكير بالقدس من جديد"، وذلك انطلاقاً من تقديره أن إسرائيل "لم تستطع خلال الجيل الماضي حسم مصير المدينة" وأن الوقائع على الأرض تثبت أن رؤية "القدس الموحدة" قد تحطمت.
ويُفصِّل عميراف: إذا اختبرنا "الأهداف القومية" فإننا نصل إلى نتيجة بأنه لم يتحقق أي واحد منها، فعلى صعيد الهدف الديمغرافي مثلاً "نرى تراجعاً تدريجياً للأغلبية اليهودية في المدينة، والتي تصل اليوم إلى 67 في المائة فقط" أي أن ثلث سكان القدس (بشطريها) هم عرب، وأن المدينة "تمر بعملية تحول إلى ثنائية القومية خلال سنوات معدودة". وعلى صعيد الهدف الجغرافي، المتمثل بالسيطرة على 70 كيلومترًا مربعًا هي مساحة القدس الشرقية، يرى عميراف الشيء ذاته، إذ أن الأحياء الاستيطانية التي أقامتها إسرائيل لهذا الهدف تمتد اليوم فوق ثُلث مساحة القدس الشرقية فقط.
وعلى صعيد الهدف السياسي "تحقيق شرعية دولية وقبول السكان العرب بسلطة إسرائيل في القدس الشرقية" يقول عميراف: بعد 38 عاماً تبدو النتيجة مُخيّبة للآمال "فقط 3 دول من بين 190 دولة أعضاء في الأمم المتحدة وافقت على الاعتراف بسيادتنا في شرقي المدينة"، كما أن سياسة "أسرلة" سكان المدينة العرب تحولت، على رأي عميراف، إلى "فلسطنة" إذ أن (6) آلاف فقط من بين 220 ألف فلسطيني مقدسي قرروا الحصول على "الجنسية الإسرائيلية".
المؤرخ توم سيغف يميل بدوره، في ما كتبه بالمناسبة ذاتها، إلى تقييم مشابه، مُشيراً إلى أن ما حصل منذ ضم إسرائيل للقدس الشرقية عام 1967 هو أن عدد السكان العرب فيها ارتفع من 70 ألفاً إلى 230 ألفاً، يشكلون اليوم ثُلث سكان المدينة بشطريها. ويؤكد "سيغف" الإحصائيات التي تُشير إلى ازدياد نسب الهجرة اليهودية السلبية من القدس بشكل ملموس خلال السنوات الأخيرة، مبيناً أن نسبة هذه الهجرة (السلبية) إزدادت 30% في العام 2004 مقارنة بالعام السابق، موضحاً أن غالبية اليهود الذين يغادرون المدينة هم من الشبان والعلمانيين، الأمر الذي بات يصبغها أكثر فأكثر بالصبغة "الدينية الأصولية". ويخلص "سيغف" من استعراضه لما يجري في القدس الشرقية، وخاصة ما يتعلق بالجدران والأسوار العازلة التي تُقام حولها، قائلاً: "الأسوار الجديدة ستثقل على العرب لسنوات طويلة، لكن ما حدث في برلين، سيحدث هنا في نهاية المطاف وستثبت الحياة أنها أقوى من كل الأسوار حتى وإن بدت شبه مستحيلة حتى ذلك الحين".
ويذهب الكاتب والصحافي يارون لندن في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم الخميس الماضي، إلى استنتاجات أكثر تشاؤماً بقوله "القدس في وحدتها البلدية من شأنها أن تضيع من أيدي اليهود وذلك بالذات بسبب الخطوات الهادفة إلى إبقائها إلى الأبد تحت سيطرتنا". ويُضيف: السياسيون الإسرائيليون (في إشارة إلى تصريحات رئيس الوزراء شارون) الذين يحبون الحديث عن "القدس الموحدة- تحت سيطرة إسرائيل- إلى أبد الآبدين" يميلون إلى التغاضي عن توقعات أبعد من أنوفهم... ومن ضمن هذه التوقعات التي كان "لندن" يقصدها أن نسبة سكان القدس اليهود الذين ستكون أعمارهم في العام 2020 حتى 15 عاماً ستتقلص إلى 55% فقط، مقابل 45% بين السكان العرب.
ويُلخص موشيه عميراف سيناريوهات وتوقعات أعدها فريق من الباحثين الإسرائيليين برئاسته قبل عدة سنوات وقدمت في حينه إلى الحكومة الإسرائيلية، بعدة نقاط نوجزها بالتالي:
استمرار السياسة الحالية، واستمرار وتيرة الزيادة السكانية الحالية لدى سكان المدينة العرب (5,3% مقابل 5,1% لدى السكان اليهود) سيؤديان إلى انهيار المدينة اقتصادياً ( تصنف المدينة حالياً بأنها الأكثر فقراً في إسرائيل). وإلى ضعف المركز السياسي الصهيوني (العمل والليكود) مقابل تعاظم قوة ووزن غير الصهيونيين في المدينة (الحريديم اليهود والسكان العرب)، كما سيؤدي استمرار التوجهات الحالية- حسب أبحاث عميراف- إلى تحول السكان العرب خلال 25 عاماً إلى أغلبية.