التطورات الأخيرة التي شهدتها الحلبة السياسية والحزبية في إسرائيل، كجزء من نتائج وتداعيات تنفيذ خطة الانفصال والانسحاب الأحادية الجانب من قطاع غزة وأربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية، أدت من جملة ما أدت إليه، إلى عودة الاهتمام والأضواء الإعلامية مجدداً إلى حركة "شاس" الدينية الشرقية التي لا زالت، وللمرة الأولى تقريباً منذ ظهورها في معترك "السياسية القطرية" عام 1984، خارج مقاعد الائتلاف الحاكم
التطورات الأخيرة التي شهدتها الحلبة السياسية والحزبية في إسرائيل، كجزء من نتائج وتداعيات تنفيذ خطة الانفصال والانسحاب الأحادية الجانب من قطاع غزة وأربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية، أدت من جملة ما أدت إليه، إلى عودة الاهتمام والأضواء الإعلامية مجدداً إلى حركة "شاس" الدينية الشرقية التي لا زالت، وللمرة الأولى تقريباً منذ ظهورها في معترك "السياسية القطرية" عام 1984، خارج مقاعد الائتلاف الحاكم. ولم يكن هذا الاستثناء كما هو معروف ناتجًا في الأساس عن إرادة زعماء الحركة أو رغبتهم بالجلوس في مقاعد المعارضة وإنما كان بادىء ذي بدء استبعاداً مقصوداً للحركة وما شاكلها من حركات وأحزاب دينية حريدية برلمانية من التشكيلة الحكومية التي ألفها رئيس الوزراء الحالي أريئيل شارون عقب انتخابات العام 2003، وذلك لرغبته وقتئذٍ في عدم الخضوع لابتزاز الأحزاب الحريدية المعهود، هذا أولاً، وثانياً لأنه توفر لديه خيار تأليف حكومة يمينية بدون الحريديم (بداية بمشاركة حزب "شينوي" العلماني ثم حزب "العمل") وثالثاً لأن الأحزاب الحريدية ذاتها، وعلى رأسها "شاس"، خرجت من تلك الحملة الانتخابية بتراجع ملموس في قوتها الانتخابية (تراجعت "شاس" من 17 مقعداً إلى 11 مقعداً).
وقد كان من مظاهر عودة الاهتمام مؤخراً بحركة "شاس"، نتيجة لتداعيات تنفيذ خطة الانفصال التي كانت الحركة قد اصطفت مع معسكر اليمين المتطرف المعارض للخطة، ظهورها- أي "شاس"- كمرشح محتمل لملء الفراغ الناشىء في مقاعد الائتلاف الحكومي عقب انسحاب حزب "شينوي" وبالأساس في ضوء ازدياد هشاشة هذا الائتلاف بعد الخلاف والانقسام العميق الذي أصاب صفوف زعامات وقواعد حزب الليكود المتزعم للحكومة (حول خطة الانفصال) وما نجم عن ذلك من اهتزاز وضعف جليين لزعامة رئيس الوزراء أريئيل شارون، أولاً داخل معسكر اليمين عامة ثم داخل حزبه (الليكود) على وجه الخصوص. وبالفعل فقد رشحت أنباء في الآونة الأخيرة عن اتصالات ولقاءات أجراها ويجريها رئيس الوزراء شارون مع زعماء حركة "شاس" محاولاً "إغراءهم" بالانضمام إلى صفوف حكومته المتداعية. ورغم أن هذه الاتصالات لم تتمخض إلى الآن عن مؤشرات وتوقعات جادة تحيل إلى إمكانية انضمام "شاس" إلى الحكومة على المدى القريب، إلاّ أن اهتمام وسائل الإعلام العبرية لم يتوقف طوال الفترة الأخيرة عن الانشغال بالحركة ومقابلة رؤسائها وتسليط الأضواء على أوضاعها ومستجداتها واتجاهات الرأي والتفكير (السياسي خاصة) السائدة والموجهة لخطى هذه الحركة، حركة "المحافظون على التوراة السفارديم" التي لا يزال الباحثون وعلماء الاجتماع الإسرائيليون يتخبطون ويحتارون في "حل لغزها" وتقديم التوصيف أو التعريف الدقيق لهويتها السياسية والأيديولوجية، بالرغم عن الوضوح الساطع لهويتها كحركة إثنية شرقية يقودها ويتحكم فيها بلا منازع رجل واحد، هو مؤسسها وزعيمها الروحي الحاخام (العراقي الأصل) عوفاديا يوسيف.
تعطش دائم للسلطة والمال
في نطاق عودة الاهتمام الأخيرة هذه بحركة "شاس" على أجندة وسائل الإعلام والصحف الإسرائيلية، نشرت مؤخراً سلسلة من التقارير اخترنا هنا من بينها عدداً من المعالجات الصحافية الجادة التي أثارت مجموعة من التساؤلات والإضاءات حول ما آلت إليه أوضاع "شاس" بعد انتهاء عهد الزعيم السياسي اللامع آرييه درعي، واستتباب عهد زعيمها السياسي الشاب (الحالي) إيلي يشاي، والأهم بعد قرابة ثلاث سنوات من جلوس الحركة (مرغمة) في مقاعد المعارضة بعيدة ومحرومة، بهذا القدر أو ذاك، من الإفادة من المنافع والامتيازات الوفيرة التي يتيحها الجلوس على مقاعد مائدة الحكم.
ففي تقرير كتبته تمار روتم ونشر على حلقات في صحيفة "هآرتس" [في يومي 7 و 14 تشرين الأول الجاري] لخصت الكاتبة مشيرة باستعارات مجازية أن حركة "شاس" أصبحت، بعد ثلاث سنوات من جلوسها في المعارضة "نحيفة أكثر، نظيفة أكثر، وجائعة (للسلطة والمال) كحالها دائماً".
وبحسب شهادة عدد من رؤساء الحركة فإن "الجلوس في مقاعد المعارضة لم يكن سيّئاً لـ"شاس" وشبكة التعليم التابعة لها"، هذا على الرغم من حقيقة أن "شاس" 2005 أمست "حزباً فقيراً من ناحية إقتصادية" وأنها "بدأت للتو فقط بالخروج من المشكلات والمصاعب الموروثة من عهد سلطة [زعامة] آرييه درعي".
ووفقاً لما تورده "روتم" في تقريرها فإن جهاز التعليم غير الرسمي التابع للحركة "إل همعيان" (معيان هحينوخ هتوراني) والذي اعتبر على الدوام "مفخرة إنجازات شاس" وأهم "كنز انتخابي" لها، بات مهدداً بخطر الإغلاق الوشيك، حيث جرى تسريح عدد كبير من العاملين في الجهاز الذي يدار تحت مراقبة لصيقة لمحاسب من طرف وزارة المالية، وذلك بعدما وضع الصندوق الذي أسسه ابن الحاخام عوفاديا يوسيف و"الرجل القوي في بلاطه" موشيه يوسيف لإنقاذ شبكة التعليم ذاتها، في دائرة الشبهات ثم التحقيق والإغلاق بأمر مسجل الجمعيات في إسرائيل. غير أن الجميع، ابتداء من كبار المسؤولين في "شاس" وحتى آخر النشطاء، إضافة إلى المحللين والباحثين المهتمين بشؤون الحركة، مقتنعون أن الجلوس في المعارضة لم يسيء للحركة أو يصيبها بوهن ذي شأن، ولا يعتقد هؤلاء أيضاً أن الوضع الاقتصادي (المالي) المهزوز للحركة، أو الفريق المغمور الذي يقف على رأسها (أعضاء الكنيست وفي مقدمتهم إيلي يشاي) من شأنهما أن يضعفا من فرصها بالنجاح في الانتخابات البرلمانية المقبلة. ويضيف هؤلاء: "شاس ليست قطعاً حزباً مهيض الجناح ..."، مشيرين إلى أن حالة الفوضى التي سادت في إدارة ميزانيات الحركة في عهد درعي انتهت منذ تولي خلفه إيلي يشاي لمهام منصبه والذي نجح مثلاً في تقليص العجز الضخم في ميزانية جهاز تعليم الحركة، والموروث من عهد درعي، بدرجة كبيرة.
ويقول غيل دافيد، مدير شبكة روضات الأطفال المتفرعة عن جهاز "شاس" التعليمي، إن "فترة الإشفاء كان لها تأثير إيجابي فقط"، في إشارة إلى الإصلاحات والتغييرات التي أجراها إيلي يشاي في جهاز تعليم الحركة "معيان هحينوخ هتوراني". غير أن الحركة لا زالت تحتفظ بشبكة من الجمعيات المحلية التي تمول من أموال التبرعات، وتقوم هذه الجمعيات من ضمن أنشطة أخرى، بتمويل "يوم التعليم الطويل" (ساعات التعليم الإضافية) في جميع مدارس الحركة إضافة إلى تمويل نقليات الطلاب والعاملين وغيرها. كذلك فإن الحركة ما زالت تدير وتمول عدة مدارس ليست جزءاً من جهاز "معيان هحينوخ" الذي اعترف به، وبات يتلقى تمويلاً رسمياً، تحت إشراف وزارتي المالية والتعليم.
وجهان للجلوس في المعارضة
ويعبر مسؤولون في "شاس" عن ابتهاجهم وسرورهم بذلك بقولهم: "لقد قٌبلنا وليس فقط في كتاب الميزانية ... تحولنا إلى حزب طبيعي، كَنٍد بين أنداد، ليس في المجال الإسرائيلي وحسب بل وفي الساحة الداخلية- الحريدية أيضاً".
ولعل هذه الأخيرة (الساحة الحريدية) تعتبر أكثر أهمية من وجهة نظر "شاس" التي خاض مؤسسوها وزعماؤها الروحيون الشرقيون صراعات طويلة ومريرة ضد الزعامة الحاخامية الأشكنازية التي ظلت تهيمن بالكامل طوال عقود مديدة على الساحة الدينية- الحريدية قبل وبعد قيام الدولة العبرية.
ويقول المعلق السياسي في صحيفة "مشبحاه" [العائلة] المحسوبة على "شاس"، يوسي إليطوف: حتى الحريديم الليتوانيين (أحد الجناحين المتنفذين في الساحة الحريدية الأشكنازية) باتوا الآن يغازلون "شاس" وذلك بسبب الفجوات والانقسامات المتعمقة بين الجناحين الليتواني والحسيدي.
وبالعودة إلى مسألة تأثير الجلوس في مقاعد المعارضة، يقول غيل دافيد: "لو كانت "شاس" تجلس في الائتلاف، ولم تمر بعملية الإشفاء، مع استمرار اعتمادها على الأموال الخاصة والاتفاقات الائتلافية، لكانت قد انهارت". وأردف معرباً عن تقديره أن حركته سوف تُضاعف جمهور ناخبيها، خاصة بين الشرقيين التقليديين، والشرائح الفقيرة، المحسوبين على ناخبي حزب "الليكود". وهناك من يعتقد أن الأزمة والانقسامات والصراعات التي يشهدها حزب ليكود اليميني مؤخراً ستساهم في إعادة جزء من الناخبين الشرقيين الذين خاب أملهم مجدداً من ليكود وزعمائه، للتصويت في الانتخابات المقبلة لصالح "شاس".
غير أن المعلق السياسي الموالي لـ"شاس" إليطوف بدا أكثر حذراً في تقديراته، بقوله إن للجلوس في المعارضة وجهين: فمن جهة فقد تبرجزت "شاس" إذ أنها "لم تعد حركة احتجاج، ولم تعد تمتلك الحماس الذي تميزت به في سنواتها السمان"، ولكن من جهة أخرى "لم تقع الحركة في أخطاء من ناحية سياسية" حسب رأيه، بمعنى أنها أكدت في غير مرة انحيازها إلى جانب الشرائح والطبقات الضعيفة عندما رفضت الدخول إلى الحكومة بسبب التقليصات في مخصصات الإعانات، علاوة على ذلك فإن "الموقف الواضح والحازم الذي اتخذه الحاخام عوفاديا يوسيف ضد خطة الانفصال" أعطى على رأي "اليطوف" نقاط تفوُّق إضافية للحركة، التي يعتقد زعماؤها أن هذا الموقف قد يجتذب عناصر دينية- قومية ومجموعات حريدية يمينية متشددة، مثل أتباع حركة "حباد" و"حسيدي بارسليف" إلى التصويت لصالح "شاس" في الانتخابات القادمة.
عودة الحاخام يوسيف إلى الواجهة
ويشير إليطوف إلى أهمية عامل عودة الحاخام يوسيف مجدداً إلى واجهة النشاط السياسي والدبلوماسي للحركة، وذلك بالنسبة للناخب الشرقي التقليدي الذي لا يزال يرى في الحاخام يوسيف رمزاً يصل إلى درجة التقديس. واعتبر إليطوف أن عودة الحاخام يوسيف إلى الواجهة تم "بفضل طابع زعامة إيلي يشاي" (خلافاً لآرييه درعي الذي بهرت أضواؤه الجميع ووضعت بالتالي الحاخام يوسيف في الظل).
وأكدت د. عنات فيلدمان، الباحثة والخبيرة في شؤون "شاس"، وهي محاضرة في كلية "أحفاه" الأكاديمية في جنوب البلاد، أن تنامي حزب "شاس" استمر حتى في ظل جلوسه في المعارضة، مرجعة ذلك إلى موجة التدين المتعاظمة خلال العقد الأخير في أوساط سكان الضواحي الفقيرة. مع ذلك فقد أشار مسؤول كبير في جهاز التعليم التابع لـ"شاس" إلى أن حركته "ليست حركة حريديم" مبيناً أن 80% من أعضاء ونشطاء الحركة هم "تقليديون" فيما الباقي هم "أعضاء ونشطاء المؤسسة الدينية في الحركة".
ولعل ذلك يفسر كون الحركة، وخلافاً للمتوقع، غير قوية حتى الآن في المدن ذات الصبغة الدينية الحريدية مثل "بني براك" والقدس، وهو ما يتضح في قلة عدد المؤسسات والمدارس التي تديرها الحركة في المدينتين. ففي القدس على سبيل المثال، والتي يوجد فيها تجمع للشرقيين الحريديم هناك فقط 30 روضة أطفال تابعة للحركة، في حين تدير الحركة في مدينة اللد، وهي مدينة أصغر بكثير وتخلو تقريباً من الحريديم، 20 روضة أطفال.
ويعزو غيل دافيد ذلك إلى الاهتمام الخاص والكبير الذي يوليه الحاخام يوسيف للجيل الناشىء من أبناء العائلات الشرقية التقليدية أو حتى دون ذلك، والذين تُعطي "شاس" الأولوية لـ"الاستثمار فيهم".
العلمانيون الشرقيون كجمهور مستهدف
هذا التوجه ظهر جلياً في مقال نشر قبل حوالي الشهر في لسان حال حركة "شاس" صحيفة "يوم ليوم"، والذي شجع نشطاء الحركة على السكن في محيط علماني، بمعنى في جبهة الصراع سعياً وراء اجتذاب العلمانيين الشرقيين نحو الانخراط في الحركة أو على الأقل دعمها والتصويت لصالحها.
وفيما يتعلق بفرص "شاس" في الانتخابات البرلمانية المقبلة، عبرت الباحثة فيلدمان عن اعتقادها قائلةُ "سنشهد في المستقبل توبة سياسية" موضحةً أن الكثيرين من الناخبين الشرقيين أيقنوا الآن بأنهم أخطأوا عندما انتقلوا إلى تأييد الليكود، عقب فضيحة فساد آرييه درعي. وأضافت: لقد رأى هؤلاء أن إيلي يشاي زعيم جدير وأن الحركة أصبحت مختلفة تحت قيادته، تُقاد من قبل أناس بسطاء وتهتم بالضعفاء والمعوزين، لذلك سوف يعود هؤلاء (الناخبون) إلى بيتهم.
وترى فيلدمان في "شاس" ظاهرة اجتماعية- ثقافية غير سياسية، مدللة على ذلك بقولها إن حركة "شاس" نجحت في إيجاد موطىء قدم راسخٍ لها في الأحياء الفقيرة وفي مدن وبلدات التطوير (ذات الأغلبية الشرقية) حيث اندمجت الحركة في نسيج حياة هذه التجمعات.
أحد سكان هذه البلدات لخص المسألة قائلاً: "بمقدار ما يسوء الوضع بمقدار ما يتحول الناس أكثر فأكثر إلى الله وإلى التصويت لشاس".