في العام 1933 قال بيرل كتسلنسون "لا يجوز الحكم على حركة بناء على ما تقوله عن نفسها وإنما بناء على أعمالها". اليوم، وبعد مرور قرابة 75 عاماً، لم يبق لنا سوى التحدث عن أعمال حركة "العمل" الصهيونية طوال خمسين عاماً تقريباً، منذ إقامتها وحتى "انقلاب" العام 1977 [المقصود فوز حزب الليكود بالانتخابات البرلمانية وصعوده إلى سدّة الحكم- المحرّر].
في العام 1933 قال بيرل كتسنلسون "لا يجوز الحكم على حركة بناء على ما تقوله عن نفسها وإنما بناء على أعمالها". اليوم، وبعد مرور قرابة 75 عاماً، لم يبق لنا سوى التحدث عن أعمال حركة "العمل" الصهيونية طوال خمسين عاماً تقريباً، منذ إقامتها وحتى "انقلاب" العام 1977 [المقصود فوز حزب الليكود بالانتخابات البرلمانية وصعوده إلى سدّة الحكم- المحرّر]. تلك الحقبة المجيدة الحافلة بالعمل والجهد الخلاق الذي قامت به حفنة من القادة المؤسسين ورجال العمل الذين حولوا الفكرة الصهيونية من حلم إلى عمل مبدع يضرب به المثل .. بن غوريون، بيرل كتسنلسون وإسحق طبنكين كانوا قادة شموليين، متشبثين بالفكرة الصهيونية وبتجسيدها إلى ما لا نهاية. كانوا رجال رسالة ومهمة بدت مراراً فاقدة لأي فرصة بالنجاح. إنهم الرجال الذين حولوا الأسطورة إلى واقع دون أن يعرفوا أنهم كذلك، حيث أقاموا الاستيطان في الأرض البور، أسسوا الهستدروت وصندوق المرضى وشركة العمال وبنك هبوعليم وتيار العمال، وهي الأسس والركائز التي أتاحت إقامة دولة إسرائيل كوطن قومي للشعب اليهودي. كان هؤلاء رجالا مندفعين إلى حد التهور.. عرفوا أن يكرهوا أكثر من أن يحبوا..
حاربوا دون هوادة ليس فقط ضد خصومهم السياسيين مثل الإصلاحيين، بل خلقوا أيضاً انقسامات حادة داخل حركة العمل أدت إلى انشقاق في الكيبوتسات وفي حركات الشبيبة، فضلاً عن خلق عداوات شخصية لا كابح لها، وكل ذلك باسم الرسالة الصهيونية- الاشتراكية وقيم حركة العمل التي اقتضت ولاءً مطلقاً. وقد عبر بيرل كتسنلسون عن جوهر هذه القيم بقوله: "صهيونيتي لم تكن أبداً مجردة، وإنما صهيونية إنسانية تؤمن بقدسية حياة الشعب وحياة الفرد، وتنشد تربية الإنسان الإسرائيلي على قيم العمل والإبداع وكرامة الإنسان والحرية وسلم الشعوب". غير أنه كانت هناك إلى جانب الإبداعات الرائعة إخفاقات مريعة، كالإيمان الأعمى بالاتحاد السوفييتي وتفضيل الجماعية على حرية الإنسان واستخذاء الفرد أمام الزعيم. لكن تلك الانحرافات لا تذكر أمام العمل الجبار الذي أقيمت في أوجه دولة يهودية استوعبت الناجين من المحرقة النازية، واستوعبت في الوقت ذاته مئات الآلاف من مهاجري الضائقة من شمال أفريقيا والبلدان العربية، وأقامت مستوطنات زراعية وبلدات تطوير في الضواحي والمناطق الحدودية، كما أنشأت جيشاً عبرياً قوياً ومؤسسات للعون المتبادل لم تترك شخصاً واحداً يعاني من جوع في البلاد.
غير أن خمسين عاماً من الجهد والعمل، وسط سيطرة سياسية على جميع المؤسسات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، أدت إلى تخدير الأحاسيس وخلقت نشوة قوة، وأضعفت مؤسسات الحكم وأخلاقية هذه المؤسسات مما أدى في نهاية المطاف إلى "الانقلاب السياسي" المحتوم.
لم يكن انقلاب العام 1977 خسارة للسلطة ومراكز القوة والنفوذ الرسمية وحسب، وإنما بشّر بانهيار المؤسسات المركزية في حركة "العمل" مثل الهستدروت وشركة العمال، وبهبوط قيمة حركة الاستيطان العامل وانحسار قوة حركات الشبيبة واختفاء مراكز التعليم والتأهيل التابعة لحركة العمل.
لكن العجيب هو أن حزب "العمل" حافظ طوال كل تلك الفترة على وجوده ووجود فروعه ومؤسساته وسط المحافظة على الصلة الوثيقة بين المنتخبين والناخبين. كل ذلك أتاح عودة حزب العمل برئاسة اسحق رابين إلى السلطة في العام 1992، كحزب رئيس يحظى بعدد كبير من مقاعد الكنيست. وقد خيل في حينه أن حزب "العمل" عاد إلى أيام تألقه وأمجاده.. لكن الحقيقة غير ذلك. فالحزب يصارع منذ ذلك الوقت على بقائه، إذ فقد نفوذه وغطاءه الاقتصادي، وأكثر من ذلك فقد نفوذه وحضوره في العمومية الإسرائيلية ولا سيما في صفوف الجيل الشاب، وفي قطاعين شكلا في الماضي مكمن قوته: المهاجرون من الاتحاد السوفييتي السابق والوسط العربي.
لم يبق من حركة العمل التي كنا نعرفها سوى جذوة فاقدة لطاقة الاشتعال. بقيت ذكريات وحنين إلى الأفكار والإيمان بالطريق. إن حمل الراية من جانب شبان مثابرين هو الكفيل فقط بتجديد شباب حركة العمل..
________________________________
* الكاتب مدير عام المركز الفكري- التربوي التابع لصندوق "بيرل كتسنلسون". ترجمة خاصة. المصدر: مجلة "آفاق جديدة" الإلكترونية.