المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

نقطة الضعف في الاقتصاد الاسرائيلي هي الدولار: الدولار الاخير. الرؤيا الاخروية لـ انعدام الدولار ، لصندوق الدولة الفارغ من العملة الاجنبية من أجل الدفع مقابل سفينة الطحين المقتربة من مينائها، يطارد وعي قيادات السياسة الاقتصادية في اسرائيل ولا يدعهم يرتاحون.

لكل اقتصاد نقطة ضعف تثقل علي اتخاذ القرارات المنطقية. فهناك اسطورة رعب اقتصادية تمر في الذكريات والاقاصيص والحديث. وهذه تضره ايضا عندما تكون ثقافته التجارية متطورة وكل منظومة المؤسسات التي تشكل دولة السوق الحديثة قائمة في موضعها. ففي عمق الوعي الاقتصادي للالمان مثلا، يقبع الخوف الدائم من التضخم المالي. فهذا إرث ثلاث فترات من التضخم المالي الهائل والفظيع. اما الامريكيون، في المقابل، فيخافون البطالة. حيث ان الازمة الكبري في العشرينيات من القرن الماضي خلفت في أمريكا ندبة تاريخية لم تلتئم.
الايرلنديون يتذكرون وكأنه حدث اليوم موجات الهجرة من دولتهم الصغيرة. وهذه تجربة قومية اساسية لم تتمكن اي ادارة في دبلن التحرر من ظلها وهي تؤثر حتي اليوم علي سياستها الاقتصادية. واليابانيون يواصلون التوفير ليومهم الاسود، رغم ان التراكم المالي الداخلي في اليابان هو الاعلي في العالم والوضع الاقتصادي لمواطني اليابان سيتحسن جدا ما ان يبدأوا بالتبذير. ولكنهم يتذكرون جيدا كيف أن بضربة قنبلة واحدة شطبت كل أملاك قطيع الحديد لديهم.

نقطة الضعف في الاقتصاد الاسرائيلي هي الدولار: الدولار الاخير. الرؤيا الاخروية لـ انعدام الدولار ، لصندوق الدولة الفارغ من العملة الاجنبية من أجل الدفع مقابل سفينة الطحين المقتربة من مينائها، يطارد وعي قيادات السياسة الاقتصادية في اسرائيل ولا يدعهم يرتاحون. والحقيقة هي انه في السنوات الخمسة والخمسين من وجود اسرائيل المستقلة سجلت علي الاكثر حالتين من النقص القومي المحتمل للدولارات (بعد حملة سيناء وفي ربيع 1985)، وفي كلتا الحالتين حلت المشكلة في مدي اسابيع معدودة، لا تكفي لتبديد القلق. فالقلق بنيوي، متجذر، راسخ في الثقافة الاقتصادية الاسرائيلية. إرث المنفي، ربما.

اسرائيل المستقلة لم تجرب ولو لمرة واحدة أزمة حقيقية في ميزان المدفوعات، رغم أنه كانت لها أزمات موهومة وخيالية في الغالب. فقد اخترع لنا الرأس اليهودي، المرة تلو الاخري، الفزع للدولار. أتذكر نفسي اتناول الطعام مع كبار مسؤولي بنك اسرائيل في وجبة الصباح في فندق في وسط واشنطن، وهم يتحدثون بفزع نموذجي عن نفاد احتياطي الدولارات في الدولة. لا يمكننا أن نسد الثغرة، يقولون، بعيون يملاؤها القلق، حين يركض الجمهور الغفير الي شراء مليارات الدولارات مقابل عشرات مليارات الشيكلات من توفيراته. متي تمت المحادثة؟ في العام الـ 50 لاستقلال اسرائيل، في تشرين الاول (اكتوبر) 1998، علي بوابة الارتفاع الاكبر في التكنولوجيا العليا لاسرائيل. وفي غضون العامين القادمين سيكون لاسرائيل مشكلة دولارات، ولكن ليست مشكلة نقص بل مشكلة زيادة: بين تشرين الاول (اكتوبر) 1998 وحتي تشرين الاول (اكتوبر) 2000 سيدخل الي البلاد نحو 40 مليار دولار، نصفها استثمارات ونصفها مقابل تصدير منتجات تكنولوجية وبيع الشركات.

وباستثناء فترة قصيرة من الجنون في بداية الثمانينيات، عاني الاقتصاد في اسرائيل ليس من عملة نقدية محلية ضعيفة جدا بل من عملة محلية قوية جدا. فالزيادة الحقيقية في قيمة الشيكل، وليس تخفيض في قيمته، كان الفشل المستمر لاقتصادنا. وعلي الرغم من ذلك فما هو التهديد الافظع الذي تطلقه اليوم وزارة المالية بمطالبتها تطبيق خططها الاقتصادية؟ التهديد بنفاد الدولارات: لن يعطونا الضمانات (التي هي زائدة علي اي حال)، لن نتمكن من تجنيد الاموال في الاسواق المالية الدولية، سنضطر الي الدق علي ابواب البنوك وطلب الصدقات من شركات الترتيب الاقتراضي. لن نضطر. فالعجز التجاري لاسرائيل، والذي هو الفارق بين استيراد وتصدير البضائع، سيتقلص هذا العام بالنصف بالقياس الي العام الذي سبقه وسيكون أحد العجوزات التجارية الاقل والاكثر راحة في تاريخ الاقتصاد.

التصدير يتصاعد، والاستيراد يتراجع. الوضع المالي الدولي لاسرائيل، في الذكري الـ 55 لوجودها، جيد جدا. ولا دليل مقنع أكثر من اغلاق فروع لبنوك اجنبية في اسرائيل. فقد جاءت الي تل ابيب في ذروة الانتفاضة كي تحظي بنصيبها من الاموال الكبيرة التي كانت ستخرج من البلاد الي الخارج. مئات ملايين الدولارات في الاسبوع، هكذا حسب نبوءات الخراب الدولاري.

ولكن هذا لم يحصل. المال المدني الاسرائيلي بقي في اسرائيل والبنوك الاجنبية تذهب من اسرائيل. ان التطلع الي استقلال اقتصادي ، وهو التعبير المخلول في عالم من الحراك المالي العالمي، مع انه لا يزال يشكل شعارا للتجنيد يلوح به امام ناظري المواطنين، الا ان اسرائيل قد حققت استقلالها الاقتصادي. فديونها الخارجية اختفت ولم تعد: فهي نحو 0.7 في المئة من الانتاج القومي السنوي. ودولة ليس لها ديون خارجية صرفة هي دولة اقتصاد مستقل. في السنوات السبع الاخيرة مرض الاقتصاد الاسرائيل بمرض آخر: ضعف النمو. نموه بطيء للغاية، وانتاجية العمل تراوح في المكان، والتخلف قبالة الدول الصناعية الاخري يتعمق. بعد عام واحد من الارتفاع تأتي ثلاث اعوام من الجمود. اين نحن وايرلندا، اسبانيا، كوريا الجنوبية، دول كانت قبل عقد من الزمن فقط تنظر الي اسرائيل وكأنها نموذج يحتذي.

ولكن ماذا؟ السياسيون الاقتصاديون لاسرائيل لا يزالون مطاردين من كابوس الدولار الاخير. في وعيهم الباطني لا يزال بمكث الخوف الدفين من الانقضاض الجماهيري لابناء اسرائيل علي العملة الخضراء. انهم غير قادرين علي التحرر من فكرة الدولار المتصلتة. انها تجمد قراراتهم. في سن 55، فان اسرائيل راشدة بما فيه الكفاية لكي تقول لنفسها: يا شرير الدولار، اخرج مني. حققت استقلالا اقتصاديا. ومن الان فصاعدا يتوجب علي ان احقق رفاها اقتصاديا، وهذا اكثر تعقيدا بكثير.

(يديعوت احرونوت 6/5/2003)

المصطلحات المستخدمة:

بنك اسرائيل, الشيكل

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات