المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

خبير في الانتحارات: الضجة التي اثيرت في الاسابيع الاخيرة أكبر مما يمكن أن تبررها الأوضاع الموضوعية، والاعلام يغذي ويؤجج

قالت الاخبار ان زئيف نير من بنيامينا انتحر يوم الثلاثاء (20/5) لأنه غرق في الديون ولم يكن بمقدوره ان يتحمل الضائقة الاقتصادية التي ألمّت به. وفي الواقع، رَوَت ابنته غيليا (الاربعاء 21/5) في مقابلة للتلفزيون أن والدها كان انساناً متشائماً بطبيعته، ودائم القلق، "لم يكن يحسن مواجهة الأمور السلبية التي لم ترق له. لقد كان يعيش حالة من المعاناة، ولا علاقة لهذا بالوضع الاقتصادي". كما اكدت ايضاً على انه لم يترك ديوناً بموته، وإن كان قد فقد املاكه.
وأعلنت الاخبار، أن معلمة الأدب العبري راحيل ارطمان اقدمت على الانتحار يوم الاثنين (19/5) بسبب تسلمها مكتوب فصل من العمل. وفي الواقع، أكدت المسؤولة عنها بأن ارطمان كانت تعاني ضائقة قاسية في الفترة الاخيرة. وأضافت قائلة: "كانت هناك اسباب عديدة كان يمكن ان تؤدي بها الى الانتحار، كما كان لمكتوب الفصل تأثيره ولكنه واحد من مجموع عوامل".

وتجسد هذه الشهادات، حول اشخاص اقدموا على الانتحار في الايام الاخيرة، "على خلفية اقتصادية"، ما يؤكده خبراء الصحة النفسية: الانتحار هو عملية معقدة، ليست نابعة من وضع اقتصادي أو من أي وضع خارجي آخر. ويقول البروفيسور يسرائيل اورباخ من جامعة بار ايلان، وهو عالم طبيب نفساني ويعتبر خبيراً في موضوع الانتحارات: "كل تلك الحالات التي ينسبونها الى الوضع الاقتصادي لم تنجم، في الحقيقة، عن الوضع الاقتصادي، اما الضجة التي اثيرت في الاسابيع الاخيرة حول موضوع الانتحار فهي أكبر مما يستدعيه ويبرره الوضع الموضوعي. فالاعلام بطبيعة الحال يغذي هذا الأمر".

يوم الاربعاء (21/5) استدعي اورباخ الى لقاء وزير الرفاه، زبولون اورليف، لكي يبحث معه الحلول الممكنة لـ "ظاهرة الانتحار على خلفية اقتصادية"، كما جاء في بيان الوزارة. وتقرر في المباحثات، فيما تقرر، طرح اقتراح على الحكومة لتشكيل طاقم وزاري يقوم بتوحيد الخدمات للاشخاص الذين يتعرضون لضائقة اقتصادية - في مجال العمل والسكن والاستشارة والعلاج النفسي والاجتماعي. كما دعا اورليف لإقامة قنوات دعم، مثل مجموعات وطواقم انترنت واستشارة هاتفية وغيرها. ولم تعرض في المباحثات معطيات تؤكد او تدحض الادعاء القائل ان هناك إزدياداً في عدد المنتحرين على خلفية ضائقة اقتصادية.

وخلال الجلسة التي شارك فيها عدد كبير من الحضور، اتصلت إمراة قدمت نفسها على انها واجهت في الماضي صعوبات اقتصادية وفكرت حينها في الانتحار. وفي حديثها مع الوزير أورليف، على مسمع من كل المشاركين، قالت المرأة انها اعادت النظر في فكرة الانتحار وقررت الخروج الى النضال ضد "مرضها المزمن". ويقول اورباخ: "عندما يكون المرء منغمساً في ضائقة نفسية، فكل امر يمكن ان يفاقمها أو يشكل انطلاقاً للانتحار، ولكن لا يمكن القول ان الوضع الاقتصادي هو الذي قتله. من المعروف ان المال يشكل ايضاً مكانة وكرامة واعتزازاً بالنفس وقوة - وكل هذه الصفات قد تمس عندما يفقد الانسان أمواله. لكنه لا يقدم على الانتحار بسبب الديون. هنالك اناس أعلنوا إفلاسهم لكنهم ينامون الليل مرتاحي البال".

ومع غياب المعطيات، من الصعب بمكان معرفة ما إذا طرأ إزدياد ما على عدد عمليات الانتحار في الاشهر الاخيرة. ولا تتوفر في دائرة الاحصاء المركزية معطيات بهذا الشأن منذ عام 1997، اما وزارة الصحة فلديها معطيات تعود الى أواخر عام 2001. بينما يجري متطوعو "زاكا" (التعرف على ضحايا الكوارث) الذين يعالجون ايضاً حالات الانتحار، تسجيلات لكل الحالات التي عالجوها. وعلى حد قولهم، في هذا العام 2003، بين الأول من شهر كانون الثاني حتى 19 أيار انتحر في اسرائيل 161 شخصاً (لا يشمل منطقة القدس). ومن الصعب معرفة الى أي مدى تعكس هذه المعطيات الواقع، أو معرفة فيما إذا كانت تشمل كل حالات الانتحار أم لا.

وتشير المعطيات الرسمية، وفق اقوال خبراء في مجال الصحة النفسية، الى معدل يصل الى نحو 350 حالة انتحار كل سنة، ويبدو ان الرقم الحقيقي اعلى من هذا المعدل، فقد يصل الى 500 وربما 600 لأن هناك حالات موت مثل الغرق، لا تصنف كانتحارات رغم انه يكاد يكون مؤكداً انها تشمل حالات انتحار. ومهما يكن من امر، حتى معطيات "زاكا" لا يمكنها ان تدل على ارتفاع بارز في عدد المنتحرين في هذه الظروف، ولا توجد طريقة لاستخلاص اسباب الانتحارات المختلفة من هذه المعطيات. ذلك لأن "زاكا" لا تدأب على تسجيل اسباب الانتحار بل تكتفي بتسجيل طريقة الانتحار.

حتى (21/5) احصي 17 منتحراً "على خلفية إقتصادية" منذ مطلع السنة. حتى وإن قبلنا هذا المعطى كما هو، فالحديث هنا عن 17 من بين معدل نحو 200 منتحر، لأسباب مختلفة في فترة كل 4 اشهر. وليس من الواضح بتاتاً ما إذا كان هذا الرقم، 17، أو الارقام الأخرى المذكورة في وسائل الاعلام، تشذ عن الرقم الثابت للمنتحرين على خلفية ضائقة اقتصادية في كل سنة.

ويبدو من التقارير المختلفة لخطوط المساعدة، وخدمات الرفاه والجمعيات، ان هناك ارتفاعاً في السنتين الاخيرتين في عدد المتوجهين لطلب المساعدة بسبب الضائقة المالية - مثلما هو الحال ايضاً بسبب التوترات الأمنية والعمليات التفجيرية. كما يتزايد عدد الاشخاص، الذين يتوجهون الى موقع الانترنت لطلب مساعدة نفسية تقدمها جمعية "ساهر"، اكثر فأكثر، يقول البروفيسور عوزي باراك من كلية علم النفس والتربية في جامعة حيفا، وهو متخصص في علم النفس الخاص بالانترنت، وهو الذي أنشأ الموقع قبل سنتين ونصف بالتعاون مع رجال تربية وحقوقيين وغيرهم.

وهو يؤكد ان عشرات آلاف الاشخاص شاركوا في محادثات دعم شخصية بواسطة الدردشة و - ICQ وزار الموقع نحو 300 ألف شخص. "هناك طلب كبير جداً من قبل اشخاص يعيشون في ضائقة لأسباب كثيرة ومختلفة - حب ميؤوس منه، اعتداء جنسي، فصل من العمل، عنف في العائلة، ديون وغيرها"، يقول باراك.

وفي الواقع، لم يطرأ في الفترة الاخيرة ازدياد في عدد التوجهات على خلفية اقتصادية، على حد قوله، موضحاً: "قد يكون هناك ارتفاع معين بشكل مؤقت في عدد الانتحارات، لكن المعطيات في نهاية المطاف تتوازن لتصل الى معدل سنوي مماثل". ويعتقد اورباخ بأنه لا يمكن معرفة ما إذا طرأ ارتفاع على عدد الانتحارات لأن معرفة ذلك تتطلب إجراء رسم منظور للزمن وفحص عوامل كثيرة "مثل الحرب والارهاب والركود الاقتصادي".

ويتفق معظم الخبراء على ان استعراض الانتحارات في الاعلام بشكل ينم عن الاثارة يساهم في كثرة الحالات، وهناك ابحاث كثيرة تؤكد هذا. ويتحدث باراك عن سلسلة حالات انتحار على قضبان السكك الحديدية في فيينا قبل حوالي 20 سنة. ويقول: "في اللحظة التي توقفت فيها التقارير الاعلامية، توقفت الانتحارات، فالاعلام يسبب حدوث سلسلة من هذه الاعمال، هذا كل ما هنالك". ويشكل هذا الأمر خطراً بشكل خاص على الاشخاص الواقعين تحت التأثير الخارجي، وبالاخص أبناء الشبيبة، ولكن ليس هم فحسب، يقول الخبراء. ووفق ما يوصف بـ "تأثير فيرتير"، فإن كل تقرير اعلامي موسع عن الانتحارات يرفع بنسبة واحد بالمائة حتى 7% عدد المنتحرين على إثره.

ويفيد الاخصائيون بأن التقارير الاعلامية البارزة في هذا الموضوع تترك اثراً سلبياً وهي تفهم كأنها تمنح شرعية للانتحار بل حتى تمجد هذا العمل. "يعطي هذا الأمر تعزيزاً نموذجياً لمن يعاني ضائقة قاسية وقد يوفر له الحلول الفنية لكيفية القيام بهذه الفعلة"، يقول باراك. وكل من يتفاقم ألمهم ويأسهم ويصل الى درجة لا تطاق فإن تعرفهم على موضوع الانتحار يضع امامهم حلاً، في غياب اي حل آخر، يقول الخبراء. تقارير كهذه تخلق، بالطبع، "نبوءة تحقق ذاتها". والخلاصة هي أن التقارير الموسعة تزيد من عدد المنتحرين، مما يوفر إثباتاً بأن الحديث يدور عن "ظاهرة" - حتى لو كانت الظاهرة اصلاً غير قائمة.

التقارير الاعلامية حول ازدياد الانتحارات في فترة ركود اقتصادي ليست مقتصرة على اسرائيل. لقد برزت هذه الظاهرة بشكل خاص في الولايات المتحدة في فترة الركود الاقتصادي الكبير بعد انهيار البورصة في عام 1992 يقول المحامي يوفال البشان، مدير قسم حقوق الانسان في الكلية الاكاديمية للحقوق في رمات غان، الذي أجرى وزملاؤه فحصاً لأبحاث من تلك الفترة: "شعر الناس بأنهم أفاقوا داخل عالم لا يعرفونه، وأنهم فقدوا كل ما يملكون في ليلة وضحاها، كل شيء في عالمهم تحطم ولذلك هم أيضاً يشاركون في التحطيم".

وتقول د. دافنه لميش من قسم الاعلام في جامعة تل أبيب، ان الباحثين يتحدثون عن ظاهرة يصفونها بـ "انتقال العدوى" - يقدم الاعلام تقارير عن بعض حالات العنف أو الانتحار، على سبيل المثال، وفي اعقاب هذه التقارير يطرأ ارتفاع ملحوظ على عدد المنتحرين. وتضيف: "تعرّف (الموجة) كثلاث حالات في زمن قصير، لكن التقارير الاعلامية تعتبر سيفاً ذا حدين. في حقيقة الأمر، يطرح الاعلام على جدول الاعمال مسألة جدية، وهي الضائقة الاقتصادية، ولكن بدل أن يشكل الأمر رافعة لبحث معمق في المشكلة وأسبابها يتحول الى ابتزاز عاطفي". وتقارن د. لميش طبيعة هذا الاستعراض الاعلامي بالمعالجة الاعلامية لموضوع العنف ضد النساء او موضوع الفقر. "لكن الثلاجة الخاوية لم تعد تثير مشاعر أحد، بينما الانتحارات نعم".

(هآرتس 22 أيار 2003)

المصطلحات المستخدمة:

راحيل, عوزي, باراك, هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات