واحدة لبنك اسرائيل في اعقاب تقريره القاتم حول الازمة الخاتقة التي يعزى سببها الى الانتفاضة الفلسطينية، وواحدة "مضادة" لوزارة المالية، وكلاهما لا تحسنان الى المحتاجين والسواد الأعظم من الناس المحدودين في الاجور..
كتب: سليم سلامة
قد تحتاج العلوم الانسانية الى فائض جهد وابداع استثنائي، بكل المقاييس، علها تفلح في حل "اللغز" العصي التالي: كل التقارير الرسمية الصادرة عن المؤسسات والهيئات الاقتصادية الرسمية في اسرائيل، الحكومية او سواها، تؤكد ان الأزمة التي تعصف بالاقتصاد الاسرائيلي منذ سنين تعمقت واحتدت خلال السنة الماضية (في النصف الثاني منها تحديدًا) بشكل لم يسبق له مثيل ولم يعد خارج قبضتها المستحكمة أي قطاع أو مجال. ومع ذلك، بل رغم ذلك، يحقق "الليكود" وزعيمه ارئيل شارون فوزًا ساحقا في الانتخابات البرلمانية، وكأن الشعب الاسرائيلي، بغالبيته الساحقة، يتعمد مكافأة من يدمر له اقتصاده ويدفع بمستواه المعيشي الى هاوية لا يبان لها قاع.
وليس هذا "اللغز" في ذاته بالجديد. لكن الجديد فيه انه حتى المؤسسات الاقتصادية الرسمية في اسرائيل لم تعد قادرة على الاخفاء والتمويه، لا في مقاييس الأزمة وحدتها وخطورتها، ولا في التوقعات المستقبلية الموغلة في السوداوية، ولا في الأسباب الحقيقية لهذه الأزمة وخارج حلولها.
فقد أكد البنك المركزي (بنك اسرائيل) في تقريره نصف السنوي الأخير تحت عنوان "التطورات الاقتصادية في النصف الثاني من العام 2002" ان <<السبب الرئيسي للوضع الاقتصادي المتدهور جدا في اسرائيل هو الانتفاضة والصراع الاسرائيلي - الفلسطيني، وليس الركود الاقتصادي العالمي أو أي شيء آخر>>.
* تقرير قاتم حول اوضاع متأزمة:
يقدم التقرير صورة قاتمة جدًا لوضع الاقتصاد الاسرائيلي والتدهور الكبير الذي حصل في النصف الثاني من العام المنصرم تحديدًا، والذي من أبرز تجلياته:
* استمرار الانخفاض في معدل الناتج القومي للفرد الواحد لتصل نسبة هذا الانخفاض خلال السنتين الأخيرتين الى 6%
* انخفاض آخر في حجم الصادرات لتبلغ نسبة الانخفاض السنوية 7,7%
* انخفاض آخر في حجم الواردات لتبلغ نسبة الانخاض السنوية 8,4%
* انخفاض المؤشر العام ( الذي يعكس نشاط الاقتصاد الاسرائيلي بمجمله) بنسبة 3،8%
* انخفاض القيمة الحقيقية للأجور للمرة الاولى منذ بضع سنوات
* ثبات نسبة البطالة على 10،6% وتوقع ارتفاعها في العام الحالي الى 12%
* ارتفاع نسبة التضخم المالي في نهاية سنة 2002 الى 6،5% ـ وهي نسبة أعلى بكثير من نسبة الهدف التي وضعتها الحكومة وتروحت بين 2% و 3% .
وعلى خلفية هذه المعطيات بادر البنك المركزي الى وضع "خطة طوارىْ اقتصادية" يعكف المسؤولون والباحثون فيه على اعدادها في هذه الأيام لتقديمها الى رئيس الحكومة الاسرائيلية مباشرة.
وهذه هي المرة الاولى التي يقدم فيها البنك المركزي على وضع "خطة اقتصادية" مستقلة وخاصة به، في موازاة "الخطة الاقتصادية" التي فرغت وزارة المالية من اعدادها، وتعتزم عرضها في الفترة القريبة على الحكومة الجديدة التي يجري تشكيلها الآن. وهذا ما يفسر محاولات بنك اسرائيل ابقاء أمر خطته طي الكتمان.
* خطة البنك المركزي:
وتضع خطة ابنك المركزي نصب عينيها ثلاثة أهداف مركزية تشكل ثلاثة تحديات امام الحكومة الجديدة في اسرائيل:
* الاول ـ تقليص 10 مليارات شيكل من الميزانية العامة للدولة
* الثاني ـ خفض العجز في الميزان التجاري الى 1،5% خلال ثلاث سنوات
* الثالث ـ خلق ظروف تسمح باعادة الاقتصاد الاسرائيلي الى وتيرة من النمو تتراوح بين 3% و 4% خلال عام ونصف العام.
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف الثلاثة تقترح خطة البنك المركزي جملة من الخطوات والاجراءات أبرزها:
* التزام صارم من الحكومة بالامتناع عن رفع نيبة الضرائب
* تقليص حجم القطاع العام بنسبة كبيرة، تدريجيا خلال السنوات القليلة المقبلة
* الامتناع عن دفع أية علاوات أجور في القطاع العام واتخاذ اجراءات ملائمة لمواجهة ضغوطات النقابات المهنية في هذا الشأن (هذه الاجراءات تعني، بين ما تعنيه، تشريعات قانونية)
* الغاء جميع الاتفاقيات التي تضمن علاوات اوتوماتيكية في أجور العاملين في القطاع الخاص (مثل: الترقيات واستحقاقات الأقدمية وغيرها)
* اعتماد اصلاحات لخفض نسبة البطالة ونسبة الفقر
* اعادة النظر في التسهيلات والامتيازات الضريبية الممنوحة لعدد من القطاعات السكانية والمناطق الجغرافية
* خفض عدد العمال الأجانب
* تقليص حاد في مخصصات الدعم الاجتماعي التي تدفعها مؤسسة "التأمين الوطني" للفئات المحتاجة وفي مقدمتها: المرضى والعجزة والمسنون والعاطلون عن العمل وغيرهم.
ويوضح مسؤولو البنك المركزي انهم رأوا حاجة ماسة الى وضع هذه الخطة على خلفية ما تقوم عليه ميزانية الدولة للعام 2003 من توقعات مبالغة في التفاؤل، وخصوصا عدم واقعية التوقعات بشأن المدخولات والمصروفات.
ويؤكد هؤلاء انه اذا لم تسارع الحكومة الى اعتماد وتنفيذ خطة اقتصادية شاملة فقد يرتفع العجز في الميزان التجاري خلال العام 2003 الى 4,5% ـ اكثر بـ 1،5% من الهدف المنشود في الميزانية العامة، مما سيشكل خطرا جديا على الاستقرار الاقتصادي ـ المالي في اسرائيل.
* خطة "مضادة" من وزارة المالية:
ومقابل هذه الخطة، تستعد وزارة المالية لعرض خطتها القديمة – الجديدة هي على الحكومة وهي تشمل العناصر الأساسية التالية:
* تقليص ميزانية الدولة بحوالي 8 مليارات شيكل
* خفض عدد المستخدمين العاملين في القطاع العام بنسبة كبيرة
* اغلاق ودمج / توحيد خمس وزارات حكومية
* تجنيد استثمارات جدية في البنى التحتية
* خصخصة العديد من الشركات والمرافق الاقتصادية الحكومية، من خلال وبواسطة سوق الأسهم المالية (البورصة).
وهكذا يتلخص واقع الحال الاقتصادي على النحو التالي: اقتصاد واحد يتدهور في السنوات الأخيرة، بشكل خاص، بوتيرة مذهلة ويغوص أعمق فأعمق في وحل الأزمة الممسكة بخناقه، دون ان تلوح في الأفق أية بوادر تشي بأي أمل للخروج منها، وخطتان تحاولان البحث عن حلول، كما حاولت خطط عديدة من قبلهما، ولكن بفارق واحد جوهري: ان هذه الخطط الجديدة "بدأت تدرك" أين جذر المصيبة ومفتاح الفرج، رغم انها لا تزال تناور وتداور في التصريح بذلك في أحيان كثيرة.
أما رئيس الحكومة ـ وقد حظي بفوز انتخابي ساحق ـ فلا يزال يعود تكرارا الى ما جربه سابقوه: "اسرائيل تعيش أزمة اقتصادية قاسية وسيكون من الضروري تنفيذ خطة شاملة من التقليصات الحادة في الميزانية" ـ كما قال في حفل توكيله بتشكيل الحكومة الجديدة في ديوان رئيس الدولة الاسرائيلي.
ولأن شارون لا يقصد ـ ولا يمكن أن يقصد ـ امكانية ان تشمل هذه التقليصات ميزانيات طائلة تصرف على تمويل سياسة حكومته تجاه الشعب الفلسطيني، فقد طالبه المحرر الاقتصادي لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، سيفر بلوتسكر (10/2) بأن يقول الحقيقة: "عليكم، سيدي رئيس الحكومة وسيدي وزير المالية، ان تقولوا الحقيقة. قولوا لنا ببساطة: اذا لم نخرج، وطالما لم نخرج، من الحرب مع الفلسطينيين، فلن نخرج من الأزمة الاقتصادية، اذ لا نمو بدون السلام".
وهذا بعد أقل من شهر فقط على الانتخابات وما اسفرت عنه من نتائج.
المصطلحات المستخدمة:
التأمين الوطني, يديعوت أحرونوت, بنك اسرائيل, الليكود, رئيس الحكومة