المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • ثقافة وفن
  • 24939

أنجز الكاتب الإسرائيلي دافيد غروسمان رواية جديدة بعنوان "امرأة هاربة من البشرى" عن امرأة في حوالي الخمسين من عمرها يخرج نجلها إلى عملية عسكرية كبيرة، فتهرب من بيتها كي لا تضطر لأن تنتظر البشرى السيئة، التي لا يخامرها أدنى شك في أنها ستأتي. وقد اختار غروسمان أن يمتنع من الإدلاء بمقابلات خاصة في مناسبة صدور روايته هذه واستعاض عن ذلك بكتابة شهادة شخصية هنا ترجمتها الكاملة

 

كتب محرر "المشهد الإسرائيلي" أنطوان شلحت:

 

 

"امرأة هاربة من البشرى"- هي الرواية الجديدة التي أنجزها الكاتب الإسرائيلي دافيد غروسمان أخيرًا، وصدرت مؤخرًا عن منشورات "هسفرياه هحدشاه" (المكتبة الجديدة).

 

وقد اختار غروسمان أن يمتنع من الإدلاء بمقابلات خاصة في مناسبة صدور روايته هذه، واستعاض عن ذلك بكتابة شهادة شخصية بشأنها نُشرت في موقع دار النشر على الشبكة الإلكترونية، وقمنا بترجمتها كاملة هنا.

 

سوف يلاحظ قارئ هذه الشهادة أن غروسمان يلمح عيانًا بيانًا إلى أن هناك مزجًا بين العام والخاص في هذه الرواية، خاصة بعد أن لقي نجله الصغير، أوري، مصرعه في الساعات الأخيرة لحرب لبنان الثانية في صيف 2006، وكيف أنّ مصرعه قد أثر على رجع صدى الواقع لدى انكبابه على كتابة صيغتها الأخيرة.

 

وسيكون من المثير أكثر أن نقرأ هذه الرواية، لدى نزولها إلى الأسواق، في تفصيلاتها كافة، وفي ما تحيل إليه من استعارات للواقع والوجود الإسرائيليين، وهي استعارات شكلت مكانًا مجازيًا للكاتب لم يشعر فيه بأنه غريب الوجه واليد واللسان، بحسب ما يؤكد في شهادته. وهذا في وقت بات فيه "المكان الإسرائيلي" شديد الوطأة على أمثاله بسبب صنيع بشر ليس لهم شأن لديه، أو كما يكتب حرفيًا "إنهم غرباء ومجهولون لي. وهم، في طابعهم وجوهرهم، وفي تطلعاتهم وأعمالهم، يناقضون كل ما هو عزيز ومحبّب عليّ. مرّة إثر مرّة يتقرّر مصيري على يد هؤلاء الأشخاص، الذين لو كنت أملك زمام الأمور ما كان لي أي اتصال معهم على الإطلاق".

 

كما سيكون من المثير أكثر أن ندرك ما هو التغيير الذي خضع له غروسمان، وهو الذي يقر أنه ما من جدوى للكتابة التي لا تمارس دورها في تغيير الكاتب؟.

 

في ما يلي النص الكامل لشهادة غروسمان:

 

رواية جديدة- شهادة خاصة

 

 

كيف أدرك أنني انتهيت من كتابة رواية؟.

 

عندما أسمع مفارقة، أو عندما ألتقي شخصًا لديه قصة متميزة، أو عندما أصادف عبارة غير اعتيادية، ولا أفكر، مباشرة، بالذي تلائمه من أبطال تلك الرواية؟ أو بالذي سوف أضفيها عليه؟.

 

وكذلك عندما أسافر من القدس في الطريق إلى "مفسيرت" (1)، في الوقت الذي تزهر فيه على قمة الجبال يمينًا، عند مفترق "موتسا" (2)، عشرات اللوزيات بصورة تخلب الألباب فأستغرق في تأملها والتمتع بمرآها الأخّاذ من دون أن أفكر على الفور بما يلي: ربما يكون هذا مشهدًا تراه "أوره"- إحدى الشخصيات في الرواية- عندما تخرج إلى مشيتها الصباحية؟ أو أن "إيلان"، زوجها، هو الذي يشاهد اللوزيات ويتصل بها من السيارة وهو مسافر لكي يبلغها بما وقعت عليه عيناه؟.

 

إن أوائل المعنونين بهذه الأشياء المتناهية في الصغر، وبالمشاعر التي تصطرع فقط في داخل الإنسان، بينه وبين نفسه، كانوا أكثر من مرة خلال الأعوام القليلة الفائتة، هم أبطال الرواية التي كتبت. بيد أنهم الآن لا يردون عليّ، حسبما كانوا يردون في أثناء الكتابة. وهم لا يتجاوبون معي بالحيوية نفسها، وبشعور التبادلية نفسه. يبدو كما لو أنهم انتقلوا إلى مرحلة أخرى لم تعد مُلكًا لي. فقد انتهيت من كتابة الرواية.

 

لقد عشت هذه الرواية على مدار نحو خمسة أعوام. ولقد أصبحت بالنسبة لي مكانًا ملموسًا وحيويًا ذا لغة وقانونية و"درجة حرارة" خاصة به. أكثر من ذلك، فإنه في غمرة الفوضى وعدم التنازل من حولي، بقي مكانًا مفهومًا لي، حتى وإن آلمني أحيانًا بصورة لا يمكن تحملها. إنه مكان لم أشعر أني غريب فيه، إنه بيت.

 

لقد أطرقت في التفكير بأن أجزاء كثيرة للغاية في حياتي متأثرة من أحداث وأشخاص ليس لهم شأن لديّ. إنهم غرباء ومجهولون لي. وهم، في طابعهم وجوهرهم، وفي تطلعاتهم وأعمالهم، يناقضون كل ما هو عزيز ومحبّب عليّ. مرّة إثر مرّة يتقرّر مصيري على يد هؤلاء الأشخاص، الذين لو كنت أملك زمام الأمور ما كان لي أي اتصال معهم على الإطلاق.

 

عندما أكتب رواية فإن كل شيء فيها يكون ذا شأن ومنتميًا وجوهريًا. وإذا ما بدا لي شيء ما، في البداية، باعتباره فكرة مفندة أو شخصية لا أدرك ما لها ولي، فإنني أدرك رويدًا رويدًا، خلال سيرورة الكتابة، كم أن هذه الفكرة وتلك الشخصية هما لي، هما أنا، وكم أنهما سبيلي كي أعرف عن نفسي وعن آخرين أمورًا لم يكن في إمكاني أن أكتشفها بأي طريقة أخرى.

 

إنني أعايش الكتابة كما لو أنها عملية نزع المزيد والمزيد من راقات الكتاراكت (Cataract)- أي إعتام عدسة العين- التي تحول دون أن أرى الرواية التي أكتبها على حقيقتها. ولربما تكونت لديّ لأنني لم أتجاسر قطّ على تأمل مكان وقوع أحداث تلك الرواية في داخلي. أو يجوز أنني غير ناضج ما فيه الكفاية- إنسانًا وكاتبًا- كي أدرك ما الذي تقوله الرواية لي، وكي أقف في مقابله.

 

لكن مع ذلك فإنني أشعر بذلك الشيء هناك، في الأعماق، بصورة ضبابية، وهو يستدعيني، وأحيانًا يبدو لي أنه بحاجة إليّ، على الأقل مثلما أنني بحاجة إليه، وأنني لا أستطيع أن أتنكر لدعوته لي. وإذا ما كتبت هذا الشيء بصورة غير صحيحة، أو غير دقيقة، أو إذا لم أنكشف عليه حقًا، فإنه سوف يردّ. أشعر على الفور بغصّة في داخلي، بخليط من ردّة فعل نفسانية وجسدية، وعندها أدرك بأنني لا أزال لست هناك، وبأنني لم أستجب له كما يتطلع.

 

ومرة، في كل فترة، يتملكني شعور بأنني فعلت ذلك بصورة صحيحة، بأنني كتبت الأشياء السليمة. لا يحدث هذا في أوقات متقاربة، ولا كما كنت راغبًا بالتأكيد، لكن عندما يحدث- وأيضًا عندما أكون أكتب عن شيء يهزني من الأعماق ويكاد أن يقضي عليّ- فإنني أشعر، على الرغم من كل ذلك، بما يشبه التسامي، كما لو أنني بكيفية ما في اللحظة الأخيرة، ولمجرّد أنني نطقت بالكلمات الصحيحة، نفضت عن كاهلي شيئًا ما كاد أن يطفئني.

 

انتهت كتابة الرواية. قضيت نحو خمسة أعوام كتبت خلالها كل يوم، وطوال اليوم. الآن أشعر كما لو أنني "أخرج إلى النور" بالمعنى البسيط والحرفي لهذه العبارة: أخرج من غرفة اعتكفت فيها زمنًا طويلاً وأقف (وأتلمظ) في مقابل الضوء.

 

طبعًا كنت في "الخارج" أيضًا في تلك الأعوام، وأحيانًا كنت في الخارج للغاية. غير أن الشعور الرئيس، الذي لازمني، هو أن المكان الذي أرغب في أن أتواجد فيه فعلاً هو في الداخل، في روايتي، والذي أخذ ينبسط بدوره أمامي رويدًا رويدًا، ويتكشف لي يومًا بعد آخر.

 

أحب سيرورات الكتابة التي تستمر زمنًا طويلاً، وأدرك أنه كلما كانت الرواية مهمة لي أكثر، يستغرقني زمن طويل حتى أتعوّد عليها وأفهمها وأُخلص لها. وبمرور الوقت تنشأ بيني وبينها علاقات معقدة ومشحونة. أغيّرها وتغيّرني (لأنه ما جدوى أي كتاب إذا لم ينجح في تغيير الكاتب؟)، وكلما طال الوقت أحتاج إليها أكثر فأكثر كي أفهم أشياء تحدث معي، خارج مجال الرواية أيضًا. وأنا أحبها وأكرهها وأيأس منها وأتغذى عليها، أرى جميع نواقصها ومساوئها وجميع نواقصي ومساوئي التي تنعكس عبرها، وعلى الرغم من ذلك أتمسك بها لأنها تقول لي شيئًا لن أسمعه في أي مكان آخر ومن أي مصدر آخر وفي أي سياق آخر لحياتي.

 

تدور معظم أحداث الرواية في الطبيعة، خلال المشي، في أثناء رحلات سير على الأقدام، ولم يكن في إمكاني أن أتنازل عن فرصة القيام بما يقوم به أبطال روايتي، فمشيت معهم على قدميّ. مشيت من أبعد نقطة شمالية في إسرائيل، في منطقة الحدود مع لبنان، وحتى بيتي في "مفسيرت تسيون". ستة أسابيع من العزلة في الطبيعة، تمتعت خلالها بالهدوء وجمال الطبيعة، بقدر ما تمتعت من اللقاء مع متنزهين آخرين. ثمة شيء مدهش في لقاءات مصادفة من هذا القبيل. إنه شيء بسيط وأوليّ على حدّ سواء. نجلس، نغلي الماء، نرتشف القهوة، ونتكلم عن أشياء عادة ما يستغرق الوصول إليها، في أي سياق آخر، زمنًا طويلاً.

 

إن البلد جميل، على الرغم من ندوبه وذكرياته المرّة، وعلى الرغم من أنصابه التذكارية التي يصعب حصرها. البلد جميل ومعطاء، ويوجد فيه الكثير من العزاء، في اللحظات التي يتيح لك فيها أن تنسى الشرور والأمراض التي ألمت به، وفي الأماكن التي تعثر فيها على مشاهد طبيعية وحيزات وقلوب مفتوحة.

 

بدأت بكتابة "امرأة هاربة من البشرى" في شهر أيار 2003، قبل نصف عام من انتهاء فترة الخدمة العسكرية لنجلي البكر، يونتان، وقبل نصف عام من تجنيد شقيقه الصغير، أوري. كتبت عن أوره، وهي امرأة في حوالي الخمسين من عمرها، التي يخرج نجلها إلى عملية عسكرية كبيرة، فتهرب من بيتها كي لا تضطر لأن تنتظر البشرى السيئة، التي لا يخامرها أدنى شك في أنها ستأتي. وباعتبارها رافضة لتلك البشرى قد يكون في وسعها حتى أن تمنعها، وبذا تنقذ نجلها.

وعند هروبها، وهي في طريقها إلى الجليل، "إلى المكان الذي ينتهي عنده البلد"، تأخذ معها شخصًا كانت تحبه في شبابها وعاشت معه أجمل قصص حبها، وطوال أيام وليال تتجول معه في أنحاء البلد، وتقوم بالشيء الوحيد الذي في إمكانها عمله من أجل حماية نجلها ومدّه بأسباب القوة، وهو التكلم عنه وعيش قصة حياته.

 

لقد عرف نجلي أوري أحداث الرواية وشخوصها، بصورة جيدة. وفي كل مرّة تحادثنا فيها عبر الهاتف، وأساسًا عندما كان يزورنا خلال الإجازات، كان يسأل عما استجد على الرواية وعلى حيوات أبطالها (كان سؤاله الثابت والتقليدي هو "ما الذي ألحقته بهم هذا الأسبوع؟"). لقد أمضى أوري معظم فترة خدمته العسكرية في المناطق المحتلة، في الدوريات ونقاط المراقبة والكمائن والحواجز، وكان أحيانًا يقاسمني التجارب التي يعايشها هناك.

 

لقد تملكني في حينه شعور- أو على الأصح أمنية- بأن تحميه الرواية التي كنت منكبًا على كتابتها.

 

في الثاني عشر من شهر آب 2006، في الساعات الأخيرة لحرب لبنان الثانية، لقي أوري مصرعه في جنوب لبنان. لقد أصيبت دبابته بصاروخ في أثناء عملية إنقاذ دبابة أخرى تعرضت هي أيضًا للإصابة. بعد أن سقط أوري، وبعد انتهاء "أيام الحداد السبعة"، عدت إلى الرواية. لقد كان معظمها ناجزًا. إن ما تغير، أكثر شيء، هو رجع صدى الواقع الذي كتبت بواسطته الصيغة الأخيرة.

 

ها هي ذي الرواية.

 

إنها تحكي صنعة العائلة، الأبوة والأمومة، الزواج، العلاقة الاستثنائية بين شقيقين، الصداقة والحب المتعدد السنوات. كما أنها تحكي عن الجهد، شبه البطوليّ، لإعادة النسيج الرقيق إلى إحدى العائلات، وعن ماوية حياتها في قلب العنف والرعب والأحادية التي تميز الواقع الإسرائيلي.

 

_______________________

 

 

هوامش:


1.المقصود "مفسيرت تسيون"- مكان إقامة الكاتب في قضاء القدس.
2.بلدة يهودية في قضاء القدس.

المصطلحات المستخدمة:

موتسا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات