(*) يدأب "مركز أدفا" الإسرائيلي على نشر تقارير علمية موثقة بشأن المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل. وهذا ما ينطبق على آخر تقرير صدر عنه بعنوان "ثمن الاحتلال... عبء النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني: صورة ومعطيات شاملة، 2008"، بمناسبة احتفال إسرائيل بذكرى مرور ستين عامًا على قيامها [طالع موجز تفصيلي له في مكان آخر].
ويثبت التقرير، بالدليل القاطع، أن هناك ثمنًا سياسيًا واقتصاديًا- اجتماعيًا باهظًا، يدفعه المجتمع الإسرائيلي جراء الاحتلال المستمر منذ حزيران 1967، وينعكس ببريق ساطع على صورة الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية عامة، وذلك خلافًا للانطباع الذي تحاول الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أن تروّج له، وكأن هذا الاحتلال يعود بالنفع على هذا المجتمع، وأن ضحاياه هم الفلسطينيون وحدهم، مع إقراره بكونهم الضحايا الرئيسيين له.
إن الخلاصة الأبرز، التي يتوصل إليها التقرير، هي "أن النزاع مع الفلسطينيين أشبه بحجر الرحى على عنق إسرائيل... فهو يقوّض نموها الاقتصادي، ويثقل كاهل ميزانيتها، ويحدّ من تطورها الاجتماعي، ويشوش رؤيتها، ويضر بمكانتها الدولية، ويستنزف جيشها، ويفتت ساحتها السياسية، ويهدد مستقبل وجودها كدولة قومية يهودية، بالإضافة إلى أنه يقتل ويجرح آلاف الإسرائيليين. إسرائيل تدفع إذن ثمناً باهظاً جراء استمرار النزاع، وجراء التلكؤ في تطبيق حل يستند إلى تقسيم عادل ومتفق عليه".
وبالاستناد إلى ما يؤكد عليه التقرير بإمكاننا أن نستنتج أن أكثر مشكلات إسرائيل الاقتصادية- الاجتماعية أهمية تبقى مشكلة اتساع الفجوات الاجتماعية داخل المجتمع الإسرائيلي، على الرغم من بعض المعطيات الاقتصادية الإيجابية خلال الأعوام القليلة الفائتة (ارتفاع نسبة النمو الاقتصادي ومعدل الناتج القومي للفرد، وتحسن ميزان المدفوعات)، لكن يمكن القول إن هذه المعطيات ليست متنائية، إلى حدّ كبير، عن التأثر بالتحديات والمخاطر الخارجية، والتي تشيع أجواء عامة من عدم الثقة بالمستقبل والخشية منه في أوساط الغالبية الساحقة من الإسرائيليين، بحسب ما تدل نتائج استطلاعات الرأي العامة، وينتج عنها تقليص حجم الاستثمارات، والمسّ بالنموّ على المدى البعيد.
بالتزامن مع تقرير "مركز أدفا"، نشر "مركز طاوب لدراسة السياسة الاجتماعية في إسرائيل" نتائج المؤشر السنوي بشأن "شعور الأمن الاجتماعي" لدى الجمهور الإسرائيلي للعام 2008. وأظهرت هذه النتائج أن مجموع النقاط، التي سجلها شعور الأمن الاجتماعي، هو 2ر58 نقطة، في حين أن مجموع النقاط في المؤشر السنوي السابق (2007) بلغ 62 نقطة. وانعكس انخفاض الشعور بالأمن الاجتماعي، أكثر شيء، في إجابات المستطلعين، التي أعربت عن الخشية البالغة من البطالة والتدهور نحو الفقر. وبشكل خاص تقلص الشعور بالأمن الاجتماعي لدى أصحاب المدخولات المنخفضة، وذلك من 5ر50 نقطة في مؤشر 2007 إلى 4ر48 نقطة في مؤشر 2008.
وأبان المؤشر الحالي عن وجود إجماع إسرائيلي عام على كون قضية الفجوات الاجتماعية تُعدّ مشكلة مركزية في المجتمع الإسرائيلي الستينيّ، وعلى أن معظم الجمهور الإسرائيلي يعتقد أن مواجهة هذه المشكلة ينبغي أن تحتل مكانًا متقدمًا في سلم الأولويات الوطنية. وقال أكثر من 75 بالمئة من الذين استطلع المؤشر آراءهم إن الفجوات الاقتصادية- الاجتماعية ازدادت حدّة خلال العام الفائت، فيما قال 90 بالمئة منهم إن تقليص الفجوات هو إحدى أهم المهمات التي يتعين على الحكومة الإسرائيلية أن تضطلع بها. وبحسب المؤشر، يعتقد معظم الجمهور الإسرائيلي أن الدولة ومؤسساتها المختلفة لا تبذلان الجهد الكافي لتقليص الفجوات، بل وتساهمان في تفاقمها. كما أبان عن وجود ميل متزايد لدى الجمهور العريض بعدم التوجه إلى المؤسسات الرسمية، الحكومية أو البلدية، لدى الوقوع في براثن ضائقة اقتصادية أو اجتماعية، فيما قال 85 بالمئة إن ما يقوم به متبرعون خصوصيون أصحاب الثروة والجاه من تمويل وتوفير لخدمات الرفاه الاجتماعية يعتبر عملاً مباركًا، مع أنه لا يُعدّ مهمًا على المدى البعيد، لناحية محاربة الظاهرة العامة.
يذكر أن البروفسور يحزقئيل درور، المتخصص في شؤون التخطيط الإستراتيجي وعضو لجنة تقصي وقائع حرب تموز 2006 [لجنة فينوغراد]، سبق أن اعتبر، في سياق دراسة مهمة بعنوان "نحو إستراتيجية سياسية- أمنية كبرى دافعة لدولة إسرائيل" (صدرت عن "مركز بيغن- السادات للدراسات الإستراتيجية" في جامعة بار إيلان)، أن إسرائيل تعاني من انعدام سياسة اجتماعية واضحة (باستثناء وجود خدمات رفاه اجتماعي ذات مستوى متوسط)، من شأنها أن تدفع قدمًا قيم العدالة الاجتماعية، والتنافس الاقتصاديّ الحرّ في عصر العولمة.
غير أن تقرير "مركز أدفا" لا يكتفي بالتشخيص، وإنما يحاول أن يبثّ رسالة سياسية واضحة مؤداها "أنه من دون التوصل إلى تسوية سياسية تتيح للفلسطينيين أيضًا العيش في ظل استقلال وكرامة ونمو اقتصادي، فإن إسرائيل يمكن أن تعود لتدفع الثمن الذي دفعته في سنوات الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية". كما يحاول أن يتساءل عن "السرّ" الكامن وراء عدم انطلاق حملة احتجاج جماهيرية واسعة النطاق ترفع راية النضال الاجتماعي، وأن يؤكد أنه على الرغم من كون المجتمع الإسرائيلي يشاهد كل ذلك إلا أنه لا يجد القوى الداخلية القادرة على تغيير الوضع.
وفي معرض الإجابة عن التساؤل السالف يعيد مؤلف التقرير، عالم الاجتماع الإسرائيلي د. شلومو سبيرسكي، إلى الأذهان مقولة رسخها وزير الدفاع الإسرائيلي في حرب 1967 وفي السنوات الأولى التي أعقبتها، موشيه ديان، أطلقها في أثناء حرب الاستنزاف مع مصر، وفحواها أن إسرائيل لا تستطيع أن ترفع في الوقت نفسه رايتين- راية الأمن والراية الاجتماعية. ويضيف: إنّ إسرائيل في العام 2007 هي مجتمع مختلف عن مجتمع العام 1967، ومع ذلك يبدو أن مفعول مقولة ديان هذه ما زال ساريًا.
ولا بدّ من أن نذكّر أن الباحث الإسرائيلي النقدوي سامي شالوم شطريت تطرّق، من باب أوسع، إلى هذه المسألة في سياق كتابه "النضال الشرقي في إسرائيل، 1948- 2003"، الذي صدرت ترجمته العربية الكاملة عن مركز "مدار" في سنة 2005.
ِ
وقد توصل فيه إلى مجموعة من الخلاصات المثيرة في هذا الشأن، ومنها مثلاً أن نضال اليهود الشرقيين كان في معظم الأحيان النضال الاجتماعي الوحيد في إسرائيل، على مرّ تاريخها القصير منذ إقامتها في العام 1948. وعلى رغم أن التطوّر الاقتصادي- الاجتماعي في إسرائيل سار ولا ينفك سائرًا في الاتجاه الذي يستدعي، من ناحية منطقية على الأقل، أن تكون الأولوية للنضال الاجتماعي، ويستدعي أن تكون لهذا النضال آثار كبيرة ليس أبسطها صعود قوى اجتماعية جديدة (من مترتبات هذا الاتجاه يمكن أن نذكر على سبيل المثال تصفية دولة الرفاه والتقليص الملموس للمسؤولية الحكومية حيال نوعية حياة المواطنين)، فإن الحاصل هو عكس ذلك تمامًا. ومع أن المؤلف، ضمن بحثه الدائب عن الأسباب الواقفة خلف هذا "الاستحصال المعاكس"، لا يغفل مفاعيل مسألة الوضع السياسي- الأمني، التي سرعان ما تحيل إلى كون إسرائيل لا تزال محكومة بـ"وجهة النظر الحديدية" التي أرساها موشيه ديان منذ أواخر الستينيات والتي لا يمكن بمقتضاها رفع الراية الاجتماعية طالما كانت الراية الأمنية مرفوعة (وبكلماتنا المألوفة "لا صوت يعلو على صوت الأمن")، فإنه لا يريح نفسه من عناء الخوض في ما عداها من أسباب جديرة بالبحث والتقصي، أفضت بدورها إلى إقصاء النضال الاجتماعي إلى هامش الهوامش.
مهما تكن هذه الأسباب فإن أحدها يظل له وقع خاص في السنوات الأخيرة على وجه التحديد، وهو الدور الذي تؤديه حركة "شاس" الشرقية الدينية منذ إنشائها. وفي هذا الشأن يشير الباحث إلى أن هذه الحركة، التي ارتسمت في أذهان الكثير من اليهود الشرقيين بكونها بديلاً لحزبي "الليكود" و"المفدال"، والتي جيّشت لنفسها الكثير من أسس خطاب النضال الشرقي، أصبحت عمليًا صمّام تنفيس النضال الشرقي، من جهة، بقدر ما إنها أصبحت إسفنجة امتصاص الاحتجاج الاجتماعي، من جهة أخرى.
ولدى وضعنا هذين السببين وغيرهما من أسباب في الحسبان فإن النتيجة المطلوب استخلاصها هي أن الاحتجاج الاجتماعي في إسرائيل، الذي لا مهرب من أن يكون اليهود الشرقيون وقوده الأساس، هو واحد من النضالات المؤجلة وأن أوان استحقاقه لا بدّ أن يحين آجلاً أم عاجلاً. وإن "كل إنسان عاقل يدرك أنه في اليوم الذي ينتهي فيه الاحتلال والقمع ضد الفلسطينيين سوف تنفجر الأسئلة الاجتماعية والمدنية في إسرائيل، وسوف تندفع نحو مركز الأجندة السياسية الإسرائيلية"، على ما يشدّد شالوم شطريت.