تتواتر هذه الأيام البرامج الانتخابية للأحزاب الإسرائيلية المختلفة. وتطالعون في الموقع المبادئ العامة في البرنامج السياسي لحزب "كديما" الحديث النشأة، وكذلك الخطوط العريضة لبرنامج حزب "العمل".
ويبدو أن أكثر الأمور لفتًا للنظر أن التشديد على وجوب "يهودية إسرائيل" في البرنامجين يأتي فوق أي اعتبار. ومن ذلك أنه يأتي، ضمن أشياء أخرى، لتبرير نوايا ضم ما يعرف بـ"الكتل الاستيطانية الكبرى" في الضفة الغربية إلى حدود إسرائيل، في أية تسوية يمكن الوصول إليها مستقبلاً، سواء تمّ ذلك مع شريك فلسطيني أو بصورة أحادية الجانب، يجتهد برنامج "العمل" عيانًا بيانًا للتحايل عليها تحت مسمّى جديد هو: "خطوات مستقلة".
حصيلة هذين البرنامجين لا تبشّر، بطبيعة الحال، بأفق سياسي مغاير في إسرائيل ما بعد انتخابات 2006، التي قد تسفر عن قيام حكومة ائتلافية بين "كديما" و"العمل"، خصوصًا في ضوء القواسم المشتركة التي يشفّ عنها البرنامجان على رغم بعض الفوارق الطفيفة.
وداخل ذلك لا بدّ من ملاحظة أن الحديث الظاهري عن تسوية على أساس رؤيا "الدولتين القوميتين" ينطلق أساسًا من التماشي مع المبدأ الصهيوني الذي كرّسه أريئيل شارون وشعاره: أرض أكثر وعرب أقل. أو بلغة الساسة في "كديما": "التنازل عن جزء من أرض إسرائيل ليس تنازلاً عن أيديولوجية وإنما تجسيد للأيديولوجية الهادفة إلى ضمان وجود دولة يهودية وديمقراطية في أرض إسرائيل".
ويكاد التماشي مع هذا المبدأ يشكل نقطة إجماع البرامج الانتخابية للأحزاب الإسرائيلية الكبيرة كافتها، وتقف وراءه القناعة بوجوب الانفصال ديمغرافيًا عن الفلسطينيين دون الحاجة إلى تحقيق حل عادل ودائم، أي دون الحاجة إلى الانسحاب إلى حدود العام 1967 ودون حق العودة ودون القدس.
لعل الأمر القديم المتجدّد، الذي يمكن الإشارة إليه في التقطير العام للحصيلة السالفة، مؤداه أن هذه البرامج تهدف أن تدغدغ- كي لا نقول تجيّر- حصاد التغيير البنيوي الذي اجتاح المجتمع اليهودي في إسرائيل منذ انتفاضة أيلول 2000 ولا يزال، والذي يتراءى للناظر إليه أحياناً باعتباره مجرد انزياح نحو اليمين قابل للارتداد. وهو تغيير يبدو أن يوسي بيلين، زعيم "أكثر الأحزاب الإسرائيلية يسارية"، يعترف برسوخه حتى إشعار آخر، وذلك في إطار المقابلة الخاصة التي أدلى بها لـ"المشهد الإسرائيلي"، وإن حاول أن يحمّله أيضًا السبب الرئيسي لأزمة هذا اليسار واختفائه عن موقع التأثير في الساحة السياسية الإسرائيلية.
وقد سبق لأكثر من باحث ومحلل رؤية أن الجوهر الحقيقي لهذا التغيير إنما يكمن في استعادة المبدأ الصهيوني الأصولي المنطوي على إيمان (أعمى؟) بـ"الضرورة الملحة لدولة تعمل على دفع مصالح الشعب اليهودي إلى الأمام". وكاد بعضهم أن يقول بتجاهل تام لمصالح أية أطراف أخرى، ليس آخرها الشعب الفلسطيني. وتنسحب هذه الاستعادة حتى على بعض الذين حاولوا الحفر في مترتبات نشوء هذه الدولة على "الشعب الآخر". وهو التغيير نفسه الذي سوّغ، بكيفية ما، تأييد "خطة الانفصال" الشارونية، من طرف واحد، عن قطاع غزة وعن بعض المناطق في شمال الضفة الفلسطينية في نطاق اعتبارها "رافعة أخرى" لضمان "طابع إسرائيل كدولة يهودية"، كما أشير مثلاً في الاستطلاع السنوي لمركز "يافه للدراسات الإستراتيجية" الذي ينضفر في "مشروع الأمن القومي والرأي العام".
وبدهي أن يكون هذا "المزاج" في أوساط اليهود الإسرائيليين ذا دلالات داخلية، بشكل خاص في المواقف المعبّر عنها من قبل هؤلاء حيال المواطنين العرب في الداخل، حسبما أشرنا في مناسبات سابقة أيضًا. وأيضًا حسبما يؤكد الأستاذ الجامعي أورن يفتاحئيل بقوله إن إسرائيل ماضية نحو تعميق الكولونيالية الداخلية، وهو ما تعبر عنه المخططات الرسمية الأخيرة الرامية إلى ترحيل العرب من النقب والداعية إلى تطبيق ترانسفير ضد العرب في المثلث تحت شعار "تبادل مناطق".
حيال ذلك كله خلص المشرف على استطلاع مركز "يافه"، البروفيسور آشر أريان، في تعليقه على الاستطلاع السنوي الأخير للمركز، إلى القول إنه "مقابل العنف والإرهاب" يؤيد الإسرائيليون اليهود مواقف أكثر يمينية من التي اتخذوها في الماضي. وهذا يؤكد أن الزمن الراهن هو زمن صراع، لا زمن مفاوضات ومحادثات. وإن نظرة متأملة لنتائج الاستطلاع الجديد، وسائر استطلاعات الرأي الإسرائيلية الأخيرة، تعتبر تزكية لهذه الخلاصة حتى من وجهة النظر الإسرائيلية المحضة.