انشغلت إسرائيل مؤخراً بقضايا مقاومة تنفيذ خطة الفصل ومحاربة الفساد وزيادة الوعي بخطر تجليات العنف الداخلي. وكان واضحاً أن كل واحدة من هذه القضايا تحدث داخل المجتمع الإسرائيلي شرخاً تزداد خطورته مع اجتماعه بالقضايا الأخرى. ولكن كثيرين رأوا في المواقف التي أفصح عنها رئيس الأركان السابق موشيه يعالون، والتي أشارت الى نوع الأخطار الوجودية التي تواجه إسرائيل، أنها ألقت ضوءاً آخر على مجمل هذه القضايا. ففي نظره خطة الفصل لن تحول في الغالب دون مواجهة إسرائيل "لحرب إرهابية" أخرى في المستقبل القريب، كما أنها لا تقرّب إسرائيل من تحقيق السلام الذي لا يبدو قريباً. كما أنه تجنب الحديث عن الفساد والعنف الداخلي، ولكن الكثيرين يرون أنه ذهب ضحية لهذا الفساد الذي بات في نظر البعض يجري تحت حماية الليكود عموماً وأريئيل شارون على وجه الخصوص.
وكثيرون في إسرائيل يعتقدون أن الطريقة التي أبعد فيها موشيه يعالون عن رئاسة الأركان تجمع في داخلها كل مكوّنات عقلية الفساد. فرئيس الأركان، المفترض أن يكون الجندي رقم واحد والرجل المسؤول أمام المستوى السياسي عن تقديم تصور معقول لحماية إسرائيل والدفاع عنها، يرى أن خطة الفصل التي عمل أريئيل شارون مطولاً من أجلها ليست الخطة الأنسب التي تقرّب إسرائيل من السلام أو من حماية نفسها. ولأنه يؤمن بذلك جرى العمل بشكل سريع على استبداله بجنرال، دان حالوتس، يؤمن أن بوسعه تقديم كل التبريرات اللازمة لتغطية القرار السياسي بتنفيذ خطة الفصل.
وأدان الكثير من المعلقين والساسة في إسرائيل هذه العقلية ورأوا فيها أنها امتداد لمنظومة الفساد التي استشرت وأسست نفسها في جوانب الحياة العامة في إسرائيل. ورغم أن مظاهر الفساد التي يجري الحديث عنها هنا هي مظاهر تقاس بمعايير غربية وليست بمعايير العالم الثالث، فإن النقمة عليها تزداد حدة في أوساط النخبة الإسرائيلية فيما ينظر الجمهور إليها على أنها عادية. ولذلك فإن كشف النقاب عن مظاهر الفساد هذه لا يحدث في إسرائيل تحولات سريعة ولكنه يراكم ببطء تجليات الاعتراض على المنطق القائم.
ومن بين التجليات التي جرى التركيز عليها مؤخراً، دور مركز الليكود، الذي يشكل مركز الفعل والضغط الأقوى في الحزب الحاكم في تعيينات القضاة والمسؤولين الإداريين. وقد لاحق المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية ميني مازوز عدداً من وزراء الليكود وطالبهم بإلغاء عدد من التعيينات التي قاموا بها في وزاراتهم. غير أن ما لا يقل أهمية، ويزيد خطورة، هو الفساد الذي يعبّر عن نفسه بقوة داخل الجيش الإسرائيلي في نظام التعيينات.
وليس صدفة أن القرار الأول الذي ينبغي على رئيس الأركان الجديد دان حالوتس يتعلق باتخاذ قرار بخصوص قائد الأسلحة البرية الجنرال يفتاح رون طال حول امتيازات مالية حظي بها من الجيش. وكان العديد من المعلقين العسكريين قد أشاروا إلى أن النظام المعمول به في الجيش يتيح للجنرالات تقديم "تسهيلات" لبعضهم البعض.
وثمة في إسرائيل من يشعرون أن انتشار الفساد ووصوله إلى الجيش يعني أنه لم يعد في إسرائيل مكان يمكن القول بخلوه من الفساد. ولكن هناك قلة بين المعلقين تحاول الخروج من دائرة أدلجة الموقف من الجيش الإسرائيلي وترى فيه ليس فقط مجرد مرآة للمجتمع وإنما كذلك هو عنصر مؤثر فيها. ويأتي هؤلاء على سبيل المثال بالقضية التي تشغل الآن بال الجميع، وهي قضية العنف الداخلي.
فقد انتقل العنف من الشوارع إلى المدارس والبيوت. وتطفح الصحف الإسرائيلية يومياً بأنباء العنف في البيوت والمدارس والشوارع وصولاً إلى القتل. وثمة من يرى أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والفساد الذي يحدثه هذا الاحتلال في الجيش والمجتمع، هما ما يجعل العنف ظاهرة اعتيادية. ويقول هؤلاء إنه لا يمكن الفصل لدى الجندي، مثلاً، بين تعوّده على التعامل بعنف مع الفلسطيني، واستخدامه العنف داخل إسرائيل. كما أنه لا يمكن الفصل عقلياً بين من يؤيدون استخدام عنف بشكل غير مبرر مع الفلسطينيين وعدم الإقدام على استخدام العنف داخل بيوتهم.
وهذا ما حاول العديد من المعلقين والمفكرين في إسرائيل وصفه بـ"ثلم القيم". فتشجيع العنف ضد الفلسطينيين وقتلهم أسهما بشكل كبير في تزايد إقدام الإسرائيليين على استخدام العنف ضد بعضهم البعض. وليس صدفة أن قيادة الجيش الإسرائيلي التي تعوّدت طوال أكثر من ثلاثة عقود ونصف على تشجيع جنودها والمستوطنين على استخدام العنف، تجد نفسها اليوم في حالة خشية حقيقية من حرب أهلية بسبب استعداد قطاع من المستوطنين لاستخدام العنف حتى ضد الجنود.
يصعب منذ الآن التكهّن بالوجهة التي تتخذها الأوضاع في إسرائيل هذه الأيام. ولكن من المؤكد أن هذا الصيف سوف يكون ساخناً على أكثر من صعيد، سواء في كل ما يتصل بخطة الفصل أو بالمجابهات الداخلية على خلفية تزايد العنف. فالشرطة الإسرائيلية تخطط للعمل بطريقة رئيس بلدية نيويورك جولياني لمنع الجريمة. وفي ظل اقتصاد غير منصف وتوترات اجتماعية متزايدة قد لا تتمكن شرطة إسرائيل من تحقيق النجاح الذي حققته شرطة نيويورك.
ولكن السؤال يبقى: هل يؤثر العنف الداخلي حتى على فرص تنفيذ خطة الفصل؟