رام الله: صدر حديثا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" العدد 56 من فصلية "قضايا إسرائيلية"، تركز حول العلاقة بين الإعلام والسلطة السياسية وحيتان المال في إسرائيل، وما تشهده العلاقة من ملابسات تؤثر على دور الإعلام وعلى قدرته على لعب دور استقصائي ونقدي فاعل يتصدى لمساءلة السلطة بدل أن يروج لها.
وتكشف دراسات العدد أن الإعلام الاسرائيلي يتجه منذ بداية تسعينيات القرن المنصرم نحو التبعية العميقة لرأس المال، ونحو الامتناع عن المسّ بالقضايا التي قد تسبب حرجا لمالكي وسائل الاعلام، إذ إن تقاسم ملكية الصحف الكبرى في إسرائيل بين عائلات بذاتها، وارتباط هذه العائلات بشبكة مصالح سياسية واقتصادية معقدة، حولت الصراعات بين ملاك الصحف إلى جزء من صراعات الصحف ومن خياراتها المتعلقة بنوعية المواضيع الممكن تناولها.
يتضمن العدد مساهمة للصحافي والناشط أورن بريسكو يتابع فيها بشكل خاص الآثار الاستراتيجية التي ترتبت عن سيطرة الصحافة التجارية على الإعلام الإسرائيلي في مقابل تنحية الإعلام الحزبي. ويحاجج بريسكو في مقاله هذا بأن التحول أفقد الإعلام في إسرائيل قدرت
ه على نقد السلطة ومحاسبتها، وحول الإعلام إلى رهينة لحسابات الربح والخسارة التي ترتبط بالحسابات التجارية لمالكي وسائل الإعلام، الأمر الذي يتضح من خلال التطرق لحالات عينية تتشابك فيها العلاقات وتنتج إعلاما مدجنا غير قادر على النقد.
على الصعيد ذاته يرصد الكاتب والناشط حجاي مطر في مقالة له تجربة إقامة "منظمة الصحافيين في إسرائيل" في عام 2011، والتي انضمّ إليها نحو 2600 صحافي، والنجاحات والصعوبات التي رافقت إقامتها، وما تزال، متابعا تدهور شروط تشغيل الصحافيين وقدرتهم على القيام بعملهم بمهنية وحرية.
وفي العدد مقالة رصدية وتحليلية، ليوناتان مندل يكشف عبرها كيف غاب الفلسطينيون من التغطية الإعلامية الإسرائيلية بصفتهم بشرا، ويشير إلى أن انفصال الإسرائيليين وابتعادهم الجسدي عن مراكز الحياة الفلسطينية جعل قتل الفلسطينيين أسهل، ومكن من تغييبهم إنسانيا عن المشهد الإعلامي الإسرائيلي، حيث "اتّخذ الإعلام الإسرائيلي شكل الأداة الأيديولوجية التي صمّمها وزراء الحكومة ومكاتب الدعاية، وذلك بدلاً من أن يكون وسيلة للبحث عن الحقيقة ونقلها إلى الجمهور".
ويضم العدد الجديد من قضايا محورا خاصا يعالج " قانون الدولة القومية اليهودية " وما يحمله من معان وما يحيط به ملابسات، إذا يجيب الباحث يوسف توفيق جبارين في مقال تحت عنوان " قانون الدولة القومية والفوقية اليهودية" عن أسئلة من نوع: ما هي أسس هذا القانون، ما هي أهم بنوده، وكيف تسعى إلى قوننة التمييز البنيوي ضد الفلسطينيين في إسرائيل؟ مركزا على البنود التي تكرس التمييز، كما يتوقف الكاتب عند التعابير المهمّة لهذا التمييز الرسميّ في البنود المختلفة.
ويختم يوسف جبارين أنّ مشروع القانون المطروح يرمي إلى إرساء التشريعات التمييزيّة في ترتيبات دستوريّة، وهو ما يتمخّض عنه تعميق الانتهاكات الرسمية والفعليةّ للمكانة الحاليّة للمواطنين الفلسطينيين.
ويكتب الباحث حسن جبارين مقالا تحت عنوان "حقيقة الجدل الدائر حول مشروع قانون الدولة القومية اليهودية"، يوضح فيه كيف أن مشروع قانون "الدولة القومية اليهودية" يقنن المبادئ التي تكفل التفوق الديمغرافي لصالح اليهود، وتعزز مكانة اللغة العبرية باعتبارها اللغة الرسمية الوحيدة (حيث تُعتبر العربية لغة ذات مكانة خاصّة أيضًا في هذه الآونة) وتعتبر الشريعة اليهودية بمثابة مصدر التشريع في إسرائيل. إلى جانب ما ينص عليه من أن إسرائيل هي الدولة التي لا يجوز إلا لأبناء الشعب اليهودي أن يمارسوا حقهم في تقرير المصير فيها.
وتضمن العدد مجموعة مقالات أخرى تضيء على مجموعة من القضايا المتفاعلة في إسرائيل، إلى جانب قراءات في مجموعة من الكتب والإصدارات في الشأن الإسرائيلي.
ومما جاء في تقديم العدد:
تتخذ أهمية التنقيب في هذه علاقة المركبة بين الإعلام والسلطة السياسية وحيتان رأس المال في إسرائيل ، بعدا إضافيا عندما نعرف أن كثير ا من التكهنات التي أثيرت حول حل حكومة نتنياهو وتقديم الانتخابات كان مرتبطا ربما بمخاوف تمرير القانون الذي يعرف بقانون "يسرائيل هيوم" والذي يمنع بموجبه توزيع هذه الجريدة التي يمتلكها الملياردير اليهودي الأميركي والداعم الأكبر لبنيامين نتنياهو بدون مقابل.
"إن ادعاء المبادرين للقانون بالطبع أن توزيع هذه الجريدة بلا مقابل يمس بالمنافسة العادلة ويضعف دور الصحافة. وبغض النظر عن مدى مصداقية هذا الادعاء وحقيقته، فإنه من الواضح أن الإعلام الذي نتج في إسرائيل في ظل التفاعل المستمر بين المصالح الاقتصادية للعائلات المالكة للإعلام وبين حساباتها وتحالفاتها السياسية، وفي ظل سيادة سوق نيوليبرالي، هو إعلام من نمط خاص ، تحول فيه الإعلامي من لاعب لدور نقدي كما كان الحال قبل انهيار الصحافة الحزبية على الأقل، إلى برغي صغير في ماكينة إعلام ضخمة، مثقف تكنوقراط، يكرر ويعيد إنتاج علاقات القوة بدل ان يسائلها، وهو بدوره هذا أداة لإنتاج الثقافة المهيمنة التي يتجند طوعا للدفاع عنها باعتبارها مثالا "للخير العام".
كما خصوصية الإعلام الإسرائيلي بما ظهر من "تواطؤ" الصحافة في كل ما يعتبر مسائل "كبرى" كالعلاقة مع الفلسطينيين والاحتلال والممارسات الاستعمارية.. إذ تتحول فعليا الصحافة إلى بوق الثقافة المهيمنة، كما يوضح لنا بذكاء يونتان مندل، في تحليله للدور الإعلامي الإسرائيلي في الحرب على غزة ، كما يتجلى الأمر بشكل مثير في الموقف من قانون القومية الذي نعالجه هنا أيضا، حيث لم تتساءل الصحافة عن عنصرية القانون، ولا عن تمفصله البنيوي -كما يوضح حسن جبارين في الحياة اليومية للفلسطينيين- بل ركزت على المسائل التقنية ."