صدر حديثًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" العدد 96 من فصلية "قضايا إسرائيلية"، الذي تضمن مجموعة دراسات تستكشف البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تتيح الإبادة الجارية في غزة، وتتبع العوامل التي تجعل تحوّل العنف خيارًا سياسيًا مقبولاً لحسم المسألة الفلسطينية، ثم تطور الأمر ليصبح خيارًا وحيدًا يحظى بإجماع غير مسبوق وعابر للصراعات الداخلية.
تُناقش د. هنيدة غانم في المقالة الأولى الموسومة بـ "الأزمة العضوية للمشروع الصهيوني: بين الحرب الأهلية والعنف الإبادي"، جدلية الأزمة العضوية للصهيونية وصلتها بالبنية الاستعمارية العنيفة، حيث تحلل بيئة فشل إسرائيل في حلّ المسألة الفلسطينية، رغم اللجوء إلى "عقيدة الجدار الحديدي" والحروب المتكررة، مما يعكس عجزًا بنيويًا في مشروعها. وتستعرض غانم معالم هذه الأزمة، موضّحةً أنّها تدفع العنف الاستعماري إلى أقصاه الراديكالي، حيث تتبدّى الإبادة كمخرجٍ لحسم الوجود الأصلاني، والحرب الأهلية كطريقة لحسم الصراعات الداخلية في ظل تصدّع التحالفات المجتمعية داخل إسرائيل.
ويقدّم تامير سوريك في مقالته "تعميم خيال الإبادة الجماعية في المجتمع الإسرائيلي"، تحليلاً لتصاعد الخطاب الإبادي في إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، شارحًا كيف تسربت أفكار "الحرب التوراتية" من الدوائر الدينية الصهيونية المتطرّفة إلى المشهد العام، لتشمل أوساطًا علمانية. يربط الكاتب بين الهوس الاستيطاني وشرعنة العنف الإبادي، مبرزًا دور الحاخامات والقيادات السياسية والعسكرية في تحويل خطاب الإبادة إلى خطاب مقبول، تغذّيه الرواية الإسرائيلية المتجذّرة في قلق وجودي تاريخي.
أمّا المقالة الثالثة بقلم جيف مكماهان، فتناقش انتهاك الحرب الإسرائيلية ضد غزّة 2023-2024 لمعايير التناسب والضرورة في "الحرب العادلة"، مؤكّدةً على أنّ العنف المُمارس على المدنيين يفوق أي تبرير أخلاقي. يحاجج مكماهان أنّ "الخيارات الدفاعية" السلمية أو "الأقل عُنفًا" كان بإمكانها حماية الإسرائيليين دون الانزلاق في المجازر الجماعية، ليخلُص إلى أنّ سياسة إسرائيل تخلق دوائر متواصلة من المقاومة الفلسطينية بدلاً من ردعها، وتكشف بذلك التناقض الأخلاقي العميق في خطابها الدفاعي.
ويقدّم الباحث وليد حباس في مقالته المعنونة بـ "الاستيطان الرعوي في الضفة الغربية: استعراض للطابع الاقتصادي والسياحي للمستوطنات الفردية"، تحليلاً للظاهرة المتنامية لما يُعرف بـ"المزارع الفردية"، مستعرضًا بنية هذه البؤر الاستيطانية، وطبيعة العائلات المستوطنة فيها، وسبل تمويلها، مشيرًا إلى أوجه التشابه مع أنماط استعمارية أخرى. يوضّح حباس كيف يخدم هذا النمط الاستيطاني مصالح توسّعية أوسع، حيث يتجاوز "البُعد الزراعي" ليتحوّل إلى منظومة اقتصادية وسياحية مهيمنة.
ويشارك ياسر مناع في العدد بمقال "الخطاب والرقابة: كيف تُشكِّل الصحافة الإسرائيلية سردية الحرب على غزة 2023؟" إذ يحفر في دور المؤسسات الإعلامية الخاضعة للرقابة العسكرية، ودورها في تلميع صورة الحرب على غزّة والترويج للقتل الجماعي. يكشف المقال كيف تُستخدم اللغة الإعلامية في شيطنة الفلسطينيين وتضخيم المخاطر الأمنية، على نحوٍ يرسّخ تقبّل الرأي العام الإسرائيلي الخيار الإبادي بوصفه حلّاً مشروعًا لمشكلة الوجود الفلسطيني.
أخيرًا، تكتب منال علان تحت عنوان "الهند وحرب غزّة: إستراتيجية التوازن المزدوج والدعم غير المُعلن"، حيث تتبع مسارات العلاقة الهندية-الإسرائيلية خلال الحرب، وتوضّح أنّ نيودلهي تُمارس خطاب "التوازن الصحيح" ظاهريًا، بينما تدعم إسرائيل عسكريًا وأمنيًا من وراء الكواليس. تفصّل المقالة صفقات الأسلحة والتعاون الاستخباراتي الموجّه لخدمة المصالح الإسرائيلية، وكيف توظّف الهند سياسة عدم الانحياز رسميًا، فيما تنحاز فعليًا إلى إسرائيل بما يحقق أهدافها الجيوسياسية.
ومما جاء في تقديم العدد: "إنّنا لا نطرح هذا العدد كتشخيصٍ تاريخي أو توثيقيٍّ لمرحلةٍ فحسب، وإنما أيضًا كمحاولةٍ للتفكير النقدي في إحدى أكثر اللحظات مفصليةً في الصراع الاستعماري، وفي الكشف عن عمق الارتباط البنيوي بين مشروع الاستعمار الاستيطاني والإبادة بوصفها وسيلةً جذريةً للحسم. نضع بين أيديكم هذه الدراسات آملين أن تُسهم في بناء رؤية أكثر وضوحًا لحقيقة ما يجري، وفي الوقت نفسه تعزّز من الجهود الأكاديمية والحقوقية لوقف هذه المأساة الجماعية ومساءلة مرتكبيها، سعيًا للعدالة والحرية".