تقدير موقف

تقرأ وتحلل قضايا مستجدة وتستشرف آثارها وتداعياتها سواء على المشهد الإسرائيلي او على القضية الفلسطينية.
حزب الله يوسّع نطاق القصف: إطلاق صواريخ باتجاه مستوطنات شمال الضفة الغربية وخليج حيفا، والدفاعات الجوية تحاول التصدّي
  • تقدير موقف
  • 470
  • عبد القادر بدوي

"المسيّرة التي أطلقها حزب الله أصابت قلب التصوّر/ المفهوم: من الذي قرّر أننا هزمنا حزب الله؟"- تحت هذا العنوان، حاول نير كيفنيس قبل يومين الوقوف على عملية التضليل التي مارسها المستويان السياسي والعسكري- الأمني على الجمهور الإسرائيلي في الأيام الأولى لتصاعد المواجهة مع حزب الله وادّعاء تدمير قدراته العسكرية وترسانته الصاروخية. تُعيد الأحداث الدراماتيكية المتسارعة في المواجهة بين إسرائيل وحزب الله منذ منتصف أيلول المنصرم "المفهوم" أو "التصور" كلفظة دارجة في الخطاب السياسي- الأمني في إسرائيل إلى الواجهة من جديد، وذلك في ضوء عودة رواجه في الخطاب السياسي- الإعلامي الإسرائيلي تحت شعار "انهيار التصور" كتوصيف لفشل 7 أكتوبر. من بين معان وإحالات عدّة؛ تُحيل لفظة "المفهوم" أو "التصور" (كونسيبتسيا بالعبرية) في الخطاب السياسي- الأمني الإسرائيلي إلى فشل حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 التي يُطلق عليها "حرب يوم الغفران"، يعود السبب في ذلك إلى توصيات لجنة التحقيق الرسمية "أغرانات" التي تشكّلت في أعقاب الحرب، وما استتبع ذلك من تحولات في التفكير الإسرائيلي العسكري- الأمني والسياسي أيضًا.

تسعى هذه الورقة، لمقاربة الأحداث الدراماتيكية المتسارعة وفقًا للتصورات السائدة، والمتبادلة، بين إسرائيل وحزب الله منذ العام 2006، كمحدّد للسلوك في المواجهة الحالية التي بدأت يوم 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بالتزامن مع هجوم طوفان الأقصى وبدء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي امتدّت في منتصف الشهر الماضي (أيلول) لتشمل الضاحية الجنوبية لبيروت وجنوب لبنان أيضًا. تأتي هذه المقاربة في ضوء محاولة الإجابة على أسئلة: ما الذي تغيّر في هذه التصورات؟ هل كانت التصورات مبالغًا فيها؟ أم تعمّدت إسرائيل من خلالها تضليل حزب الله وإيران وتشويش تقديراتهما؟ وكيف تتصرّف إسرائيل الآن في ظل شعور بالتفوق النسبي في أعقاب الضربات الكبيرة التي وجّهتها للحزب؟

مصيدة "المفهوم/ التصور": بين أكتوبر 1973 وأكتوبر 2023

"المفهوم" أو "التصور" هو المصطلح الذي أطلقته لجنة "أغرانات"*على النظرية التي صاغها قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"* عن شروط مصر وسورية لشنّ حرب على إسرائيل والتي استندت بشكلٍ رئيس على أن مصر لن تخرج للحرب ما لم تجد حلًا لمواجهة سلاح الطيران الإسرائيلي، أو تتمكن من استهداف مطاراته الرئيسة لتحييد سلاح الجو من جهة، ومن جهة أخرى، سورية لن تخرج للحرب ضد إسرائيل إلّا إذا دخلت مصر. أكّدت اللجنة أن "القصور ناجم عن التصور"، حيث لم يستطِع إيلي زاعيرا رئيس "أمان" في حينه والمسؤول عن وظيفة "الإنذار" الإفلات من سيطرته رغم ورود معلومات للموساد في ساعة الصفر ناقضت هذا "التصور" أكّدت على نية مصر وسورية شنّ حرب مفاجئة (طالبت اللجنة باستبعاده وحمّلته كامل المسؤولية).

وعليه، تعرّضت إسرائيل لفشل كبير وغير مسبوق في حينه باندلاع الحرب في 6 تشرين الأول 1973 بشكل مفاجئ، جاء ذلك في ذروة النشوة لمُنجزها المفاجئ وغير المتوقع في حرب حزيران 1967، ما حوّلها لهزيمة ومحطّة قاسية في العقل الإسرائيلي، ويُترجم ذلك في الدروس والعبر المستخلصة منها التي أحدثت تحولًا في تفكير المستويين العسكري- الأمني والسياسي قاد لعدم الاستهانة بالمخاطر المحيطة أيًا كان حجمها بالاستناد إلى "تصورات/ مفاهيم" ثابتة انطلاقًا من الشعور بالتفوّق العسكري. كان من أبرز التحولات التي طرأت في أعقاب الحرب وتوصيات لجنة التحقيق الرسمية: 1) إعادة ترتيب العلاقة بين المستويين الأمني- العسكري والمستوى السياسي؛ 2) وبشكلٍ تلقائي وغير مُعلن، المبالغة في "الإنذار" وهي وظيفة "أمان" من أي هجمات خارج الحدود ضدّ إسرائيل، ويُنسب لذلك جزء من الفضل في حماية إسرائيل على مدار عقود طويلة من هجوم مفاجئ ومباغت، أو من بناء ومراكمة قوة عسكرية على الحدود أو لدى أي من أعدائها.

في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، 2023، وبالتزامن مع مرور خمسين عامًا على فشل أكتوبر، عاد "المفهوم" للنقاش مرّة أخرى لكن بحلّة جديدة وبوقع أكثر قسوة على العقل الإسرائيلي بعد اندلاع هجوم طوفان الأقصى صبيحة 7 أكتوبر بشكلٍ مفاجئ، إذ نفّذت فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة هجومًا مباغتًا على فرقة غزة في القيادة الجنوبية للجيش ومقرّات عسكرية وأمنية عديدة، وسيطرت على 21 مستوطنة وبلدة في منطقة غلاف غزة، وعُدّ هذا الهجوم إسرائيليًا كأكبر فشل أمني- استخباري وسياسي تعرّضت له منذ العام 1948، وبات يُقرن ذلك بـ  "انهيار المفهوم"- في الطريق إلى قصور 7 أكتوبر- الذي تبنّته إسرائيل بمستوياتها الأمنية- العسكرية والسياسية على مدار سنوات، عن حركة حماس وفصائل المقاومة في قطاع غزة وحزب الله في لبنان بشكلٍ خاص، وعن المسألة الفلسطينية والصراع بشكلٍ عام.

إسرائيل وحزب الله وفخّ "المفهوم/ التصور" المتبادل!

حتى 7 أكتوبر 2023، ظلّت العلاقة بين إسرائيل وحزب الله محكومة بنتائج حرب تموز 2006. أفرزت هذه الحرب ما يُمكن وصفه بمعادلة "الهدوء المعزّز بالردع المتبادل"، إذ عدّها حزب الله نصرًا عسكريًا أفشل هدفها المُعلن بالقضاء عليه واستعادة الأسيرين إلداد ريغف وإيهود غولدفاسر، في المقابل، عدّتها لجنة التحقيق "فينوغراد" بوصفها "فشلًا ذريعًا" ترتّب عليه استقالات لوزير الدفاع ورئيس أركان الجيش وشخصيات أخرى، وقد شهدت هذه الفترة مجموعة اختراقات كان أبرزها سلسلة الاغتيالات التي نفّذتها إسرائيل بحق قادة عسكريين بارزين في الحزب في سورية كان أبرزها اغتيال قائد أركان حزب الله عماد مغنية العام 2008، ورغم هذه الخروقات، ظلّت العلاقة محكومة بهذه المعادلة.

منذ العام 2006، تبنّت إسرائيل "تصورًا" عن حزب الله دفعها لوضعه في مقدّمة قائمة المخاطر المُهدّدة للأمن القومي الإسرائيلي تارة، وثانيًا بعد إيران تارة أخرى. في المقابل، تبنّى حزب الله "تصورًا" عن إسرائيل يستند بشكلٍ أساس على نتائج "نصر تموز". وخلال ذلك، بدأ كل من إسرائيل وحزب الله بمراكمة عناصر القوة العسكرية والاستخباراتية- الأمنية والتكنولوجية والصاروخية (الدفاعية والهجومية) تحضيرًا لمواجهة محتملة، خاصة أن إسرائيل لا تزال تحتّل 7 قرى في جنوب تعهّد الحزب بتحريرها على الدوام.

بالتزامن مع هجوم 7 أكتوبر الذي نفّذته حركة حماس وفصائل المقاومة في قطاع غزة، باغت حزب الله إسرائيل بشن هجمات صاروخية على الجبهة الشمالية، وقد حدد المواجهة في نطاق "جبهة إسناد" لفصائل المقاومة في قطاع غزة فقط. في المقابل، ووفقًا للتسريبات الإسرائيلية، كانت إسرائيل على وشك توجيه ضربة عسكرية شاملة للحزب واغتيال قيادته العسكرية والأمين العام للحزب بعد أيام، وتحديدًا يوم 11 أكتوبر، لكنها أوقفت ذلك في اللحظات الأخيرة (عُزي ذلك لموقف الإدارة الأميركية التي كانت تخشي من اندلاع حرب إقليمية مع إيران ومحور المقاومة تجبرها على التدخّل). أنتجت المواجهة على هذه الجبهة بالتزامن مع حرب الإبادة على قطاع غزة حتى منتصف أيلول 2023 "وضعًا ناشئًا" جديدًا وغير مسبوق بالنسبة لإسرائيل في الجبهة الشمالية منذ العام 2006.

ظلّ هذا "الوضع" محصورًا بقواعد اشتباك مضبوطة، نسبيًا، استنادًا إلى "المفهوم" القائم على وجود ردع متبادل، وقد أُضيف إلى المعادلة الجديدة التالي: بالنسبة لحزب الله: لم يسعَ للمواجهة الشاملة وعمل جاهدًا على الإبقاء على المواجهة كجبهة إسناد لغزة. أما بالنسبة لإسرائيل: الأولوية هي القتال في قطاع غزة وتحقيق أهداف الحرب المعلنة: القضاء على حركة حماس واستعادة الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين، مع استمرار الضغط على حزب الله عسكريًا، ودبلوماسيًا من خلال الولايات المتحدة وفرنسا، لفصل الجبهتين وإبعاد قوات الحزب عن الحدود من خلال تسوية سياسية. ورغم أن "الوضع الناشئ" ظلّ مضبوطًا بقواعد اشتباك ضمنية؛ فإن نزوح قرابة مائة ألف إسرائيلي من البلدات الحدودية (بعضها أُخليت بأوامر إخلاء رسمية، وبضعها الآخر بشكل طوعي)، واستمرار ربط الحزب مصير المواجهة بمصير الحرب على غزة خلّف حالة من الاستنزاف الاستراتيجي لإسرائيل.

 على مدار أشهر المواجهة وحتى منتصف أيلول 2024، وصل الاشتباك بين إسرائيل والحزب إلى حافة الحرب الشاملة في أعقاب حوادث مهمة كان من أبرزها: 1) استهداف الضاحية الجنوبية في بيروت واغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحماس صالح العاروري؛ 2) اتهام إسرائيلي رسمي لحزب الله بالمسؤولية عن حادثة مجدل شمس؛ 3) اغتيال القيادي العسكري الأول في الحزب فؤاد شكر. في أعقاب هذه الحوادث أبدى حزب الله انضباطًا عاليًا في الرد متجاوزًا المعادلة التي كان قد أرساها حتى 8 أكتوبر (استهداف المدنيين يقابله استهداف مدنيين، واستهداف الضاحية الجنوبية لبيروت سيُقابل باستهداف تل أبيب). عكس هذا الانضباط رغبة الحزب في تجنّب الحرب الشاملة واستمرار جبهة الإسناد. ينطبق هذه الحال على حليفته إيران؛ إذ تجنّبت بدورها الرد على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية في طهران رغم التهديدات المتكرّرة حتى منتصف أيلول، خلافًا للمعادلة التي حاولت إرساءها في هجوم الصواريخ والمسيرات يوم 14 من نيسان 2024 في أعقاب استهداف مقرّ قنصليتها في دمشق.

من جهة أخرى، أظهر السلوك الإسرائيلي المنضبط، نسبيًا، في المواجهة (رغم الخروقات الإسرائيلية المتكرّرة للمعادلة) أنها بالفعل لا تريد الحرب الشاملة، وقد ساهم هذا السلوك في تعزيز تقدير الحزب وإيران لإسرائيل، ولمسار المواجهة الحالية، مما أنتج "مفهومًا/ تصورًا" جديدًا مبنيًا على: 1) إسرائيل مردوعة استنادًا لمعادلة الردع التي أنتجتها حرب تموز 2006 وهذا يحول دون قدرتها على شنّ الحرب الشاملة؛ 2) الجيش الإسرائيلي مُرهق جسديًا بسبب الحرب الطويلة على غزة، ومعنويًا بسبب التعثّر في تحقيق أهدافها الاستراتيجية المعلنة وهو غير قادر على مواجهة قوات حزب الله؛ 3) الجبهة الداخلية الإسرائيلية لا تحتمل حربًا مفتوحة مع حزب الله وستكون منكشفة أمام ترسانة صاروخية ضخمة ودقيقة؛ 4) الخشية من اندلاع مواجهة مفتوحة على جبهات عدّة تدفع إسرائيل لإعادة النظر في شنّ الحرب؛ 3) الإدارة الأميركية ترفض المواجهة الشاملة مع حزب الله وهي منشغلة في الانتخابات الرئاسية، وإسرائيل بالضرورة لن تستطِع بدون دعمها الكامل القيام بذلك؛ 5) مطلب إسرائيل بإعادة النازحين إلى الشمال وإبعاد قوات حزب الله عن الحدود يؤشّر إلى أن وجهة إسرائيل ليست الحرب وإنما زيادة الضغط وحدّة الاشتباك من أجل الدفع لتسوية سياسية. 6) نتنياهو مقيّد في اتخاذ قرارات الجبهة الشمالية، يعيش في أزمة داخلية، والخلافات بينه وبين المستوى العسكري- استنادًا لقراءة مسار الحرب من خلال الخارطة السياسية- الحزبية في إسرائيل والتقدير وفقًا لها.

على الجهة المقابلة، يبدو أن استمرار إسرائيل في تصنيف الحزب في قائمة المخاطر المهدّدة للأمن القومي دفعها لمراكمة وتعزيز قدراتها التقنية والعسكرية والاستخبارية مقابل الحزب، ومراكمة بنك أهداف ومعلومات وبيانات ضخمة منذ العام 2006، وانعكس ذلك في المبالغة أحيانًا في قدرات الحزب وترسانته الصاروخية وتهديده لإسرائيل. منذ 7 أكتوبر، يبدو أن إسرائيل بدورها قد أنشأت "تصورًا" جديدًا مبنيًا على: 1) حزب الله حسّاس جدًا تجاه المدنيين والبنية التحتية في لبنان ويخشى من أن تتحول لبنان لغزة جديدة؛* 2) رد الحزب المتواضع وغير الواضح على تجاوز إسرائيل للمعادلة القائمة في أعقاب اغتيال العاروري وشكر عكس رغبته في منع الانجرار للمواجهة الشاملة مهما كان التجاوز الإسرائيلي؛ 3) الضغط الإيراني على حزب الله يحول دون إمكانية انخراطه الشامل في الحرب أو حتى الرد بشكل يوجع إسرائيل ويمنحها فرصة لإعلان الحرب على لبنان كما غزة؛ 4) الإدارة الأميركية منشغلة في الانتخابات الرئاسية ولا تمارس ضغطًا كبيرًا على إسرائيل، وكذلك فرنسا؛ 5) عدم استجابة الحزب للضغوط الدبلوماسية للقبول بتسوية سياسية. كل ذلك دفع إسرائيل للدفع قدمًا إلى تصعيد الاشتباك بشكل مفاجئ وتوجيه ضربات قوية للحزب وبيئته في الضاحية وصولًا إلى جنوب لبنان بهدف تغيير واقع الجبهة الشمالية الذي كان محكومًا بمعادلة "ردع متبادل" لصالح "ردع إسرائيلي واضح": تدمير قدرات الحزب العسكرية والسياسية الصاروخية.

إسرائيل وحزب الله: التسوية، "الحسم" وغسيل المصطلحات؟

منذ 17 أيلول الماضي، أنشأت إسرائيل معادلة جديدة من خلال المخاطرة في إحراز تقدّم أمام الحزب مع الاستعداد لتحمّل المخاطر، تمثّل ذلك في سلسلة العمليات المفاجئة التي نفّذتها بدءًا بتفجير أجهزة النداء (البيجر) وأجهزة اللاسلكي، استتبع ذلك تنفيذ اغتيالات طاولت قيادة الحزب العسكرية كان أبرزها إبراهيم عقيل (رئيس قسم العمليات في الحزب)، وسلسلة اغتيالات في قيادة قوات النخبة (الرضوان)، وسلسلة المجازر التي ارتكبتها في الضاحية الجنوبية وبلدات جنوب لبنان بحق المدنيين وتهجير أكثر من مليون مدني من حاضنة الحزب وتدمير واسع النطاق، وصولًا إلى اغتيال الأمين العام السيد حسن نصر الله وإعلان نتنياهو عن اغتيال خليفته المحتمل هاشم صفيّ الدين، وبدء "مناورة برية محدودة" في لبنان. إن هذا السيناريو كان يُنظر إليه بخطورة بالغة على المستويين الإقليمي والدولي وليس فقط في إطار العلاقة بين إسرائيل وحزب الله.

إن المعادلة الجديدة تأسست وفقًا لـ "التصور/ المفهوم" الذي طورّته إسرائيل على مدار أشهر الحرب (حتى 17 أيلول)، وكذلك الرغبة الحديدية التي عكسها الحزب في تجنّب الحرب الشاملة، وكذلك الأمر بالنسبة لإيران، وهو ما منح إسرائيل "أفضلية" تُمكّنها من شنّ هجمات مباغتة وغير متوقعة. استفادت إسرائيل من عملية التضليل التي مارستها أمام حزب الله وإيران منذ بداية الحرب من خلال: 1) التركيز على إبراز تراجع إسرائيل عن توجيه ضربة 11 أكتوبر من العام الماضي بهدف تعزيز الاطمئنان الذاتي لدى الحزب وإيران وتقديراتهما لمسار المواجهة؛ 2) التركيز على هدف إبعاد قوات الرضوان إلى شمال الليطاني وإعادة سكان الشمال إلى بلداتهم مع تجنّب التركيز على "الحسم" مع حزب الله كما هو الحال مقابل حماس؛ 3) تضخيم الخطاب الإعلامي حول الخلاف مع الإدارة الأميركية بخصوص المواجهة الشاملة مع حزب الله.

في الحقيقة، تعكس المعادلة الجديدة التي تسعى إسرائيل لتثبيتها رغبتها في التخلّص من طوق النار حولها، وتغيير الواقع الأمني على الجبهة الشمالية بشكلٍ دائم، يتأتّى ذلك من قرار عدم العودة إلى الواقع الأمني الذي كان قائمًا على الجبهة الشمالية في 6 أكتوبر 2023 وحسم الصراع مع حزب الله على الرغم من عملية التضليل والمراوغة وغسيل المصطلحات. تُشكّل العمليات المفاجئة والاغتيالات الأخيرة والغزو البرّي الذي تدّعي إسرائيل محدوديته بداية عملية هذا التغيير، حيث يتضح جليًا أن أهدافه أكبر من ذلك بكثير، فهي ترى أن هناك فرصة للقضاء على قدرات حزب الله العسكرية والسياسية ونزع سلاحه من جهة، تغيير الواقع السياسي في لبنان لصالح القوى المعارِضة للحزب ومساعدتها في تعيين رئيس جديد بصلاحيات كبيرة من جهة ثانية، تثبيت معادلة جديدة تفرض على حزب الله الاستسلام للشروط الإسرائيلية من جهة ثالثة، وذلك بالاستفادة من الأجواء العربية والدولية واللبنانية الداخلية، وكذلك من الضربات السياسية والعسكرية والأمنية الكبيرة التي وجّهتها للحزب منذ منتصف أيلول الماضي.

في ضوء حالة "الشعور بالتفوق النسبي" و"الأفضلية المتحققة" أمام حزب الله في أعقاب الضربات القوية الأخيرة، تُسارع القيادة العسكرية- الأمنية والسياسية في إسرائيل لمحاصرة نفسها بـ "تصور/ مفهوم" جديد استنادًا إلى الشعور بالتفوق العسكري وحالة النشوة. من ناحية، هناك مبالغة إسرائيلية في حجم الضرر الذي ألحقته بقدرات الحزب الصاروخية والعسكرية تعيد للذاكرة المبالغة المشابهة في الأيام الأولى لحرب تموز 2006، حيث يُقابل ذلك استمرار الحزب بتوجيه ضربات صاروخية بشكل منهجي متصاعد وملحوظ التأثير في الأيام الماضية وسط تأكيده على عدم تضرّر ترسانته الصاروخية واستمرار إسناد غزة. من ناحية ثانية، تكشف "المناورة البرية" وتطورها عن صعوبة المواجهة البرية مع قوات حزب الله التي تُقدِم أداء يناقض المبالغة في ضعف الحزب في أعقاب الضربات رغم كونه دون المتوقع. من ناحية ثالثة، يعكس تطور المواجهة المتسارع مع إيران ليس فقط انهيار "التصور" الإسرائيلي في أعقاب تأخر ردّها على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس حتى مطلع أكتوبر؛ وإنما أيضًا عن جدّية إيران في عدم التخلّي عن حزب الله في مواجهة إسرائيل، وهذا عامل حاسم يزيد من تعقيد المواجهة وإمكانيات "الحسم". من ناحية رابعة، رغم "المنجزات المتحقّقة"، يبدو أن هدف إعادة سكان الشمال بعيدًا وغير قابل للتطبيق في ظل المعطيات الحالية، خاصة وأن توسيع نطاق القصف ليشمل حيفا وعكا وصفد بشكل يومي يفرض معادلة جديدة وغير متوقّعة وقد يوسّع من دائرة الإخلاء بدلًا من تقليصها، كل ذلك ينعكس في حالة التخبّط في إسرائيل: بين دعوات إقامة "منطقة عازلة" أو "حزام أمني" إلى دعوات "الاستيطان" في جنوب لبنان. بكلمات أخرى، يعكس هذا التعقيد كلّه صعوبة ترجمة "الإنجازات المتحقّقة" التي ساقها المستويان السياسي والأمني العسكري في إسرائيل في الأسابيع الأخيرة إلى "إنجاز سياسي" أو "نصر" واضح ومُقنع بالنسبة للجمهور وخاصة في الشمال. إن هذه المواجهة معقّدة ومرتبطة بكثير من العوامل والفاعلين ليست إسرائيل الفاعل الوحيد فيها، يتعزّز هذا التعقيد مع الأخذ بعين الاعتبار التجربة التاريخية للمواجهة المستمرّة بين إسرائيل وحزب الله منذ العام 1983 التي لا تزال حالة النشوة الإسرائيلية تطغى عليها وتضعها جانبًا، حتى الآن، حيث تبدو ديناميكيتها ودروسها وعبرها غير مرئية.

 

* أقيمت هذه اللجنة برئاسة رئيس قضاة المحكمة العليا شمعون أغرانات للتحقيق في القصور الإسرائيلي في حرب 1973.

*  هي شعبة الاستخبارات العسكرية داخل الجيش الإسرائيلي، وتتمتع بصلاحيات كبيرة وواسعة تشبه صلاحيات جهاز مستقل، يقع في مقدّمة وظائفها "التحذير" أو "الإنذار" الذي يُعد واحدًا من أهم مرتكزات العقيدة الأمنية- العسكرية.

* يتم الاستناد بذلك إلى تصريحات الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في أعقاب حرب تموز 2006.

المصطلحات المستخدمة:

فرقة غزة