في أعقاب هجوم 7 تشرين أول/ أكتوبر، أطلق رئيس الوزراء الإسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بالإضافة إلى قادة الجيش والمؤسسة الأمنية تهديداتهم العلنية ضدّ قادة حركة حماس وكوادرها متوعدين بالوصول إليهم واغتيالهم في كل مكان داخل فلسطين وخارجها، وقد شكّلوا لهذه المهمة وحدة استخبارية تنفيذية خاصة في جهاز الأمن العام "الشاباك" حملت اسم "نيلي"، وقد دخلت هذه التهديدات حيّز التنفيذ منذ اليوم الأول للحرب، وطالت حتى اللحظة مجموعة كبيرة من القيادات السياسية والعسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، وامتدّت إلى خارجه باغتيال عضو المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري في بيروت مطلع العام 2024، ومن ثم اغتيال رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية في طهران في تموز 2024، وكذلك العديد من الاغتيالات في لبنان وسورية كان أبرزها اغتيال القيادي الكبير في منظمة حزب الله فؤاد شكر في آب 2024.
صحيح أن المشترك في كل هذه الاغتيالات هي وقوف إسرائيل خلفها (حتى لو لم تُعلن مسؤوليتها عن بعضها)، لكن كان من اللافت أن يستخدم الجيش والمؤسسة الأمنية لفظة "سيكول ميموكاد"- (بالعبرية)، أي "إحباط موضعي" بالمعنى الحرفي (بالعربية)، سنطلق عليها في هذه الورقة تعبير "اغتيال سياسي" للإشارة إلى هذه العمليات، كون هذا المصطلح شقّ طريقه في الأدبيات العسكرية- الأمنية، وفي الخطابين السياسي- الإعلامي والقضائي في إسرائيل في الانتفاضة الثانية للدلالة على "تدبير وقائي" يتم تفعيله بهدف "إحباط التهديد ومنعه". هذه الورقة، تحاول الوقوف على جوهر هذا المفهوم وأهدافه، وصولاً إلى ما بعد 7 أكتوبر، والتطورّات التي طرأت على هذا المفهوم، واستعراض عمليات الاغتيال التي يتم تغليفها بهذا المفهوم، في عملية تبدو أنها مستمرّة بدون توقّف، على الأقل، حتى تاريخ كتابة هذه الورقة.
- "الإحباط الموضعي" والجذور التاريخية للاغتيالات
ظهر مفهوم "إحباط موضعي" في الخطابين الإسرائيلي السياسي- الإعلامي والقضائي في بداية الانتفاضة الثانية عام 2000 عندما استخدمه نائب رئيس الشاباك في حينه يوفال ديسكن، لتوصيف الاغتيالات السياسية، التي تختلف في المنظور الإسرائيلي عن غيرها من عمليات القتل والإعدام من حيث: 1) وجود قرار سياسي؛ 2) إحباط "تهديد وشيك" (يُشار إليها بالقنبلة الموقوتة) حيث لا يمكن وقفه بطريقة أخرى؛ 3) الاغتيال يحقّق "الردع" ويعزّزه بمعناه الشامل؛ 4) الاغتيال يؤدّي للإضرار بقدرات المنظمة أو الحزب أو تدميرها ويخدم "الردع" في المنظور الاستراتيجي. وعلى الرغم من أن هذه الشروط إشكالية في جوهرها، وبعضها مضلّل وفضفاض وخاضع لتقييم المستوى الأمني وقيادة الجيش التي تمتلك أصبحت هامشًا كبيرًا في تحديد من ينطبق عليه هذه الشروط بعد تدخّل المحكمة العليا، فإن إسرائيل استمرّت في استخدام هذا الأسلوب على مدار سنوات الانتفاضة بقرار من رئيس الحكومة آنذاك أريئيل شارون ورئيس "الشاباك" آفي ديختر بوصفها سياسية "أخلاقية"، رغم بعض الانتقادات الداخلية والدولية التي واجهتها.
ورغم أن المفهوم المستخدم يعود لزمن الانتفاضة، فإن جذور هذه السياسة ممتدّة في بنية المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية منذ العام 1948. وقد بدأ الخطاب الإسرائيلي يتناول هذه الظاهرة وتمييزها عن عمليات القتل اليومية في أعقاب إصدار رئيسة الحكومة الإسرائيلية جولدا مائير أوامر للمستويين الأمني- العسكري في أعقاب عملية ميونخ 1972، لملاحقة واغتيال المسؤولين عن العملية وقيادة منظمة "أيلول الأسود" حتى في الدول الغربية الحليفة والصديقة لإسرائيل، وقد جاء هذا القرار بعد أن كانت قد رفضت في السابق توصيات من الأجهزة الأمنية لتنفيذ عمليات اغتيال بحق قيادة وكوادر الحركة الوطنية الفلسطينية (م.ت.ف) في الخارج خشية من تضرّر علاقة إسرائيل مع هذه الدول. أسفرت عملية "غضب الآلهة" عن اغتيال أكثر من 15 قياديًا في حركة فتح حول العالم انتهاءً باغتيال "الأمير الأحمر"- أبو علي حسن سلامة قائد القوة 17 في بيروت عام 1979 الذي نُسبت إليه المسؤولية عن المنظّمة.
يُمكن التشكيك في هذا الادّعاء بالاستناد إلى مسألتين، الأولى: قيام تسفي زامير (رئيس الموساد حينها) بتشكيل وحدة خاصة في جهاز الموساد "كيدون" لتتولّى المسؤولية عن عمليات الاغتيال في الجهاز (تابعة لوحدة "قيسارية" وتضم وحدات خاصة "كوماندوز" جلّهم ممن كانوا في عصابات "إتسل" و"ليحي" ولديهم خبرة قتالية وأمنية عالية، ومن الأجيال السابقة التي تخرّجت من وحدات عملياتية كسييرت متكال وغيرها). الثانية: تنفيذ الموساد بالفعل سلسلة من عمليات الاغتيال قبل هذا القرار، حيث تُشير المصادر إلى أن عملية الاغتيال الأولى التي نفّذتها المخابرات الإسرائيلية كانت في العام 1955 استهدفت رئيس المخابرات المصرية في غزة مصطفى حافظ، وكذلك بصمات الموساد الواضحة في اختفاء الناشط السياسي المغربي المهدي بن بركة واغتياله لاحقًا في فرنسا 1965؛ عملية اغتيال غسان كنفاني قبل عملية ميونخ بشهرين في 8 تموز 1972، بالإضافة إلى عدّة محاولات اغتيال باءت بالفشل: مثلاً محاولتا اغتيال سعيد السبع في الجزائر 1966، وفي بيروت 1972، وذلك ضمن ما كان يُطلق عليه السياسيون في إسرائيل: "يد إسرائيل الطويلة تصل إلى أي مكان".
وعلى الرغم من أن المستوى الرسمي في إسرائيل حاول الترويج لمقولة أن هذه العمليات لا تقوم بها إسرائيل بدافع الانتقام؛ وإنما يتم تنفيذها لتحقيق أهداف: "الإحباط والردع" في ضوء مسعى الترويج لـ "طهارة السلاح" للجيش الإسرائيلي وتصويره بأنه "يُحارب فقط من يحاربه"، فإن رونين بيرغمان، يؤكد وبشكل يتناقض مع هذه الرواية، أن سلسلة العمليات التي انطلقت في أعقاب ميونخ لم تستهدف في الحقيقية الذين نفّذوا العملية؛ وإنما القيادة السياسية للمنظمة وحركة فتح في أوروبا والشرق الأوسط، وقد حقّقت هذه الاغتيالات بحسبه أهدافًا استراتيجية مهمة، إلى جانب الانتقام: 1) تعزيز مكانة جهاز الموساد حول العالم في عصر كان يُعير انتباهًا كبيرًا للقدرة على الوصول إلى المعلومة؛ 2) دفع فصائل منظمة التحرير وحركة فتح تحديدًا إلى تجنّب تنفيذ هجمات ضد أهداف وأصول إسرائيلية في ساحة أوروبا وحصر ذلك في الشرق الأوسط حيث يسهل على إسرائيل مواجهتها؛ 3) أرسلت إسرائيل رسالة إلى جميع أعدائها بأن كل العالم ساحة مشروعة لتصفية كل "متورط ويداه مُلطّخة بدماء اليهود"، هذا الأخير، وبالنظر إلى الشخصيات التي تم اغتيالها، يُشير بشكل لا يدع مجالاً للشك إلى أن الانتقام شكّل العصب المركزي في دوافع هذه العمليات.
- "الإحباط الموضعي" بين ميونخ والانتفاضة الثانية والحروب على قطاع غزة
منذ ستينيات القرن الماضي نفّت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية سلسلة من الاغتيالات بحقّ قيادات وكوادر الحركة الوطنية الفلسطينية والعربية حول العالم: البدايات كما تُشير الوثائق الرسمية كانت في إطلاق عملية "غضب الآلهة" لملاحقة واغتيال أعضاء ومسؤولي منظمة "أيلول الأسود"؛ عملية "ربيع الشباب" في العام 1973. وقد امتدت هذه العمليات حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي حيث اغتالت وحدة "سييرت متكال" القائد العسكري الأول في حركة فتح خليل الوزير في تونس في العام 1988؛ اغتيال الأمين العام لحزب الله عبّاس الموسوي بعد استهدافه من الجو في العام 1992، اغتيال فتحي الشقاقي الأمين العام للجهاد الإسلامي في مالطا عام 1995، ويحيى عياش القائد العسكري في حركة حماس عام 1996؛ محاولة اغتيال خالد مشعل الفاشلة في الأردن 1997، وكذلك سلسلة الاغتيالات بحق النشطاء والقيادات السياسية والعسكرية لحماس والجهاد حتى عشية الانتفاضة الثانية.
مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، صاغت المؤسسة الأمنية في إسرائيل قبل نهاية العام نوعًا من "النظرية القتالية"، وقد أطلقت عليها اسم "إحباط موضعي"، وقد أصبحت هذه التسمية تحيل إلى عمليات الاغتيال، وقد انطلقت أولى عمليات "الإحباط الموضعي" في هذه المرحلة باغتيال حسين العبيات القيادي في الجناح العسكري لحركة فتح في بيت لحم، وكذلك القيادي السياسي في تنظيم فتح ثابت ثابت في طولكرم، وصلت ذروتها في اغتيال رؤساء المكتب السياسي لحركة حماس الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي في العام 2004. تُشير المعطيات الصادرة عن الجيش إلى أن إسرائيل اغتالت قرابة 300 من كوادر وقادة الفصائل الفلسطينية حتى العام 2005، إلى جانب قرابة 150 مدنيًا (تم تعريفهم على أنهم "أضرار جانبية"). استمرّت الاغتيالات حتى بعد الانتفاضة الثانية، وقد تركّزت أكثر في قطاع غزة على مدار الحروب والجولات العسكرية التي شنّتها ضد فصائل المقاومة الفلسطينية فيه وتحديدًا بعد العام 2006، بعضها نفّذتها خلال هذه الحروب، والآخر كانت أسبابًا في اندلاعها (اغتيال قائد القسام أحمد الجعبري عام 2012، واغتيال بهاء أبو العطا القيادي العسكري البارز في حركة الجهاد الإسلامي عام 2019). وعلى الرغم من أن إسرائيل نفّذت العديد من عمليات الاغتيال والإعدامات الميدانية بحق النشطاء الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ نهاية الانتفاضة وحتى 7 تشرين أول/ أكتوبر 2023، فإن المعطيات الإسرائيلية تؤكّد أن عملية "الإحباط الموضعي" الأولى التي تُنفّذ في الضفة منذ نهاية الانتفاضة الثانية كانت باغتيال كل من محمد عويس وصهيب الغول وأشرف أبو الهيجا من مخيم جنين منتصف العام 2023، كذلك اغتيال كل من عماد مغنية عام 2008، وسمير القنطار عام 2015 القياديين في حزب الله في سورية.
- "ضربة طفيفة في الجناح": النقاش حول جدوى الاغتيالات وأهدافها!
أثارت الاغتيالات التي طالت مئات الفلسطينيين وما تسبّبت به من ارتقاء مئات المدنيين (الذين كان يتم وصفهم بالأضرار الجانبية) نقاشات صعبة في إسرائيل حول "أخلاقية" هذا الشكل القتالي والجدوى السياسية والعسكرية منه. بحسب المصادر الإسرائيلية، كانت نسبة "الأضرار الجانبية" خلال الانتفاضة عالية وتسبّبت حتى العام 2005 باستشهاد أكثر من 150 مدنيًا فلسطينيًا نتيجة الاغتيالات. في أعقاب ذلك، تقدّمت بعض المنظمات اليسارية أمام المحكمة العليا بالتماسات ضد هذه السياسة التي تبنّتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية كوسيلة رئيسية لمواجهة الانتفاضة. في أعقاب ارتقاء 13 شهيدًا وإصابة 140 آخرين عشرات الشهداء ومئات الإصابات في عملية اغتيال القيادي في حركة حماس صلاح شهادة، وتصريح قائد سلاح الجو في ذلك الحين دان حالوتس بأن شعور الطيار في هذه الحالة يكون مثل "ضربة طفيفة في الجناح"، طالبت إحدى الالتماسات التي تم تقديمها للمحكمة العليا لفتح تحقيق جنائي وحرمان حالوتس من منصب رئيس هيئة الأركان في المستقبل (لم يحصل ذلك). عمليًا، حُسم النقاش حول جدوى هذه السياسة من الناحية الأخلاقية والقانونية، أي بين من اعتبرها جريمة قانونية كونها فعليًا تمثّل "عملية إعدام دون محاكمة"، ومن ناقش "الأضرار الجانبية" المترتّبة عليها (سؤال التناسب بين الميزة التي يحقّقها الاغتيال وعدد المدنيين الذين يتم قتلهم) في قرار المحكمة العليا الإسرائيلية في كانون الأول 2006، الذي شرعن عمليًا هذا النوع من الاغتيالات بوصفه "تدبيرًا وقائيًا" (رغم بعض الشروط التي حدّدها القرار) في أعقاب تقديم التماس ضدّ هذه السياسة من قِبَل منظمتين إسرائيليتين يساريتين.
من ناحية أخرى، دارت العديد من النقاشات حول الجدوى السياسية والعسكرية- الأمنية لعمليات "الإحباط الموضعي" في المنظورين الآني والاستراتيجي. من ضمن الأسئلة مثلاً التي كان يسوقها التيار الداعي لتحصيل أكبر مكاسب استراتيجية عسكريًا وسياسيًا من الاغتيالات- بعيدًا عن نزعات الانتقام والتأثر بالضغط الشعبي الإسرائيلي: هل رحيل الشخص المستهدف سيُلحق بالفعل ضررًا لا يمكن إصلاحه للتنظيم أو الحزب؟ ما إذا كان اغتيال الشخص سيدفع الجهات الفلسطينية الأخرى للمرونة والذهاب نحو الخيارات السياسية؟ والسؤال الأخير الذي ينبغي طرحه هو ما إذا كانت البدائل المحتملة لهذه الشخصية أكثر اعتدالاً ومرونة؟ وهذا من جهة. من جهة أخرى، أُثير النقاش حول المخاطر المترتّبة على سياسة "الإحباط الموضعي" من حيث التسبب بردود فعل دموية كما حدث بعد اغتيال رائد الكرمي في طولكرم خلال التهدئة. (أنظر/ي: الجدول رقم 1).
- ما بعد 7 أكتوبر: بين ادّعاءات "الوقاية" وعمليات الانتقام الممنهج
منذ هجوم طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، بدا وأن هناك سمات جديدة في تفعيل الاغتيالات بذريعة "الإحباط الموضعي" والأهداف المرجوة من تفعيلها. فعلى الرغم من أن هناك اتفاقًا في الخطاب الإسرائيلي بعد عقود طويلة من الاغتيالات التي شكّلت أحد أهم أدوات المشروع على ضرورة أن تكون هذه الأداة "سياسة الإحباط الموضعي" هي الحل الأخير عندما تنعدم بقية الحلول، وأن تفعيلها يجب أن يكون مدروسًا بشكل معمّق وليس كردّة فعل أو انتقام، ويأخذ بعين الاعتبار "البديل المحتمل" للشخصية التي يتم استهدافها، نشهد تفعيلًا لهذه السياسة منذ بداية الحرب على نطاق واسع وبدون أي إعارة للاعتبارات السابقة أو حتى الأهداف المرجوة من تفعيل هذه السياسة.
تتمثّل أولى هذه السمات في انتقال الخطاب إسرائيل بكافة مستوياته من التعامل مع هذه السياسة بوصفها "تدبيرًا وقائيًا لإحباط تهديد ما"، ومن مناقشتها من حيث الجدوى العسكرية- الأخلاقية- القانونية كما كانت تدّعي على مدار العقود الماضية، إلى تفعيلها بوصفها إجراء انتقاميًا ضمن حرب الإبادة الجماعية المُغلّفة بادّعاءات "الحرب الوجودية"، "حرب الاستقلال الثانية" و"حرب الخير والحضارة ضدّ الشر والبربرية". يتأتى ذلك في الدرجة الأولى من هدف إشباع الرغبة في الانتقام التي غلبت على المجتمع الإسرائيلي وقيادته بشكلٍ شامل بعد 7 أكتوبر، ويأتي ذلك في إطار السعي لـ "إغلاق الحساب" كما هو دارج في الثقافة الأمنية- العسكرية الإسرائيلية. ورغم التشابه من حيث المبدأ فقط لهذا التوجّه مع توجّه الحكومة الإسرائيلية في أعقاب عملية ميونخ وخلال الانتفاضة، فإن الاختلاف يظهر في نواحٍ عديد أهمها أن إسرائيل لطالما روجت لعمليات الاغتيال التي نفّذتها بذريعة "الإحباط الموضعي" وأنها حدث استثنائي وليس القاعدة، ما استتبع ذلك من تمييز واضح في أدبياتها بين التصفيات والإعدامات الميدانية بحق الفلسطينيين، وبين هذا الشكل من العمليات.
إلى جانب ذلك، تبرز مسألة "الأضرار الجانبية" بوصفها حدثًا ثانويًا في هذه الحرب، إذ يبدو تفعيل هذه السياسة لا يراعي بالضرورة جوهر "الإحباط الموضعي" والأهداف المرجوة منه، ناهيك عن تجاوزها "التسوية القضائية" التي دعت لحصرها لغايات وقائية: "إحباط ومنع التهديد" مع دراسة كل حالة بشكلٍ منفرد. فعلى الرغم من أنها لم تكن يومًا إلّا قضية ثانوية أثناء مناقشة الاغتيالات السياسية، فإنها حظيت باهتمام ومتابعة جهات معيّنة في إسرائيل (على الأقل على مستوى المنظمات الحقوقية)، وقد أفرز ذلك موجة من النقاشات حول جدوى وأخلاقية هذا الشكل من العمل العسكري وصلت إلى الجهاز القضائي (بصرف النظر عن الأحكام الصادرة). اللافت في هذه الحرب أن إسرائيل الرسمية والمجتمعية متحرّرة حتى من مجرّد نقاش هذه القضية، وعلى العكس، يبدو أن الضغط الشعبي والشعور السائد بـ "الإذلال القومي" الذي أفرزه الفشل الأمني- الاستخباري في 7 أكتوبر، يزيد من الضغط على المستوى الأمني- العسكري الذي يشعر بدوره بمسؤوليته عن الفشل المركّب: 7 أكتوبر، والتعثّر في تحقيق أهداف الحرب الاستراتيجية، كل ذلك يترتّب عليه في المحصّلة تصعيد في تفعيل هذه السياسة بصرف النظر عن كل الاعتبارات "الأخلاقية" أو الجدوى العسكرية. تظهر سياسة "الإحباط الموضعي" في هذه الحرب بوصفها أداة انتقامية، وما يزيد من وحشيتها هو الاعتماد الكبير الذي أظهرته المؤسسة الأمنية- العسكرية على منظومات الذكاء الاصطناعي لتسريع توليد الأهداف، أو معمل الاغتيالات الجماعية، بشكل يتناقض مع كون هذه السياسة تُفعّل في ظروف استثنائية وخاصة وبشكل يخضع لتقييم المؤسسة التي شكّلت وحدة استخبارية- تنفيذية خاصة في جهاز "الشاباك" لملاحقة كل المشاركين والمسؤولين عن أحداث 7 أكتوبر واغتيالهم (نيلي).
لقد خرجت إسرائيل إلى الحرب على قطاع غزة وهي تضع نصب أعينها مسألة إعادة الاعتبار لمكانتها وردعها في المنطقة، وليس أدلّ على ذلك من مقولة "إن كانت إسرائيل تريد العيش في المنطقة، فعليها فعليًا إلقاء جثمان حركة حماس أمام الشرق الأوسط". إن الرغبة المدفوعة بالانتقام، تسعى، من بين أمور أخرى، إلى إبادة الأجيال الحالية لحماس والجهاد في غزة وإحداث تحول في هوية وتفكير هذه الحركات على المدى البعيد، وهو ما يُمكن قراءته في التصريحات الإسرائيلية التي تؤكّد على ضرورة إحداث "تغيير أيديولوجي في أوساط السكّان". من جهة ثانية، يُسهم ذلك في تحقيق هدف وأد التجربة العسكرية- الأمنية في قطاع غزة والحيلولة دون استنساخها أو تكرارها مرة أخرى سواءً في غزة أو خارجها. من جهة ثالثة، يُمكن القول، إن الهدف من تفعيل سياسة "الإحباط الموضعي" التي تظهر في هذه الحرب بوصفها أداة إبادة وقاعدة للسلوك العام، لا في حالات استثنائية، يُراد منها أيضًا قتل الرواية عن أحداث 7 أكتوبر على طريق احتكار إسرائيل "حقيقة" ما حدث، وهو الأساس الذي بنت عليه إسرائيل "شرعية" لإطلاق حرب الإبادة ضد قطاع غزة، ويزيد من حدّة هذه السياسة وآثارها غياب الاستراتيجية الإسرائيلية الواضحة للحرب، بما في ذلك الاغتيالات نفسها.