انعقد المؤتمر الأول للاستيطان في غزة في كانون الثاني 2024، ثم مرة أخرى في تشرين الأول 2024، حيث دعا المشاركون إلى إنشاء "غزة الجديدة" كجزء من رؤية استيطانية موسّعة في كل قطاع غزة. وُصفت هذه الرؤية بأنها "ليست وهمًا، بل خطة عمل"، مع توزيع خرائط متخيَّلة حول المشروع. شارك نحو 11 وزيرًا و15 نائب كنيست في المؤتمر وقدموا الاستيطان على أنه ضرورة أمنية وأيديولوجية، وربط بعضهم بين الاستيطان وتهجير الفلسطينيين. وأعلنت دانييلا فايس، رئيسة حركة "نحالا" التي تبادر بنشاط في إنشاء المستوطنات في الضفة الغربية، أنها "زارت" قطاع غزة مرات عدّة خلال الحرب، وأن الحركة طلبت تجهيز 40 مبنى لنقلها إلى غزة، وأنه تم تجنيد نحو 700 نواة استيطانية للانتقال الفوري إلى القطاع.
تستعرض ورقة تقدير الموقف الحالية مشروع الاستيطان اليهودي في قطاع غزة بعد حرب 2023، قاعدته السياسية-الاجتماعية، وإمكانيات تحقيقه. القسم الأول يقدم لمحة تاريخية عن تطور الاستيطان في قطاع غزة وصولًا إلى تفكيكه والانسحاب في العام 2005. القسم الثاني يستعرض المؤسسات والمنظمات التي تنشط بشكل متصاعد منذ 7 أكتوبر 2023، وتعمل على البدء الفعلي بالاستيطان. القسم الثالث والأخير يناقش مآلات هذه المشاريع في ظلّ عوامل تعزز من إمكانيات الاستيطان وأخرى تقلل منها.
أولًا، تاريخ الاستيطان في قطاع غزة
في عام 1946، أُنشأ الصندوق القومي اليهودي 11 مستعمرة جديدة في منطقة النقب وقطاع غزة.[1] واحدة من هذه المستوطنات هي "كفار داروم" التي أقيمت بالقرب من خان يونس قبل أن تستعيد القوات المصرية الأرض وتطرد المستوطنين خلال معارك النكبة (1948-1949).
بعد احتلال إسرائيل قطاعَ غزة وسيناء في العام 1967، بدأت الحكومة الإسرائيلية ببناء الاستيطان اليهودي وتوسيعه في قطاع غزة، والذي استمر حتى عام 2005، حيث تم إخلاء 21 مستوطنة، يسكنها نحو 8600 مستوطن، وكانت معظمها ذات هوية أيديولوجية-دينية لكنها أيضًا كانت مستوطنات "نموذجية" من الناحية الاقتصادية الزراعية، حيث كانت تصدّر بقيمة 200 مليون دولار سنويًا، ما يعادل 15% من الصادرات الزراعية الإسرائيلية، وقُدّرت أصول الاستيطان اليهودي في القطاع بنحو 23 مليار دولار.[2]
تطور الاستيطان في قطاع غزة وفق خطة وضعها أريئيل شارون، قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي (1969-1973)، تحت عنوان "خطة الأصابع الخمس". هدفت الخطة إلى تعزيز السيطرة الإسرائيلية على قطاع غزة عبر تقسيمه إلى أربعة أجزاء (انظر/ي اللون البني في الخارطة 1)، وذلك باستخدام خمس كتل استيطانية (أصابع) تمتد من الخط الأخضر إلى البحر المتوسط. بدأ تنفيذ الخطة عام 1970 بقرار حكومة غولدا مائير التي كانت أول ما بدأت به هو إعادة إنشاء مستوطنة "كفار داروم" (1970). و"الأصابع الخمسة" شملت:
1. التكتل الشمالي: ضم ثلاث مستوطنات شمال غزة لتوسيع منطقة عسقلان وتقليص التجمعات الفلسطينية في بيت حانون، وهي: مستوطنة آيلي سيني (أقيمت عام 1982 واستوعب المستوطنين الذين تم إخلاؤهم من مستوطنات سيناء)، مستوطنة نيسانيم (1984)، ومستوطنة دوجيت (1990). كما وضم التكتل منطقة إيريز الصناعية (1970) التي في ذروة عملها ضمت نحو 210 مصانع.
2. محور نتساريم: شكّل المحور الإصبع الثاني شمالًا، حيث فصل مدينة غزة عن منطقتي النصيرات ودير البلح جنوبًا. في عام 1972، خلال حكومة غولدا مائير، أُنشئت مستوطنة نتساريم وهي المستوطنة الوحيدة في هذا الممر (مع أن التخطيط كان يشمل إنشاء ثلاث مستوطنات)، وارتبطت المستوطنة بمعبر كرم أبو سالم عبر "ممر نتساريم"، الذي كان الشريان الرئيس للمستوطنة. منذ إخلاء مستوطنات قطاع غزة عام 2005، احتلت إسرائيل محور نتساريم مرتين: الأولى كانت سيطرة جزئية خلال عدوان 2008-2009، والثانية سيطرة شاملة على طول المحور خلال حرب العام 2023-2024.
3. ممر كيسوفيم: وهو ممر يفصل دير البلح عن خان يونس ويقطع قطاع غزة عرضًا. بعد توقيع اتفاقية أوسلو، أصبح الممر هو الطريق الوحيد المؤدي إلى باقي مستوطنات غوش قطيف في الجنوب الغربي من قطاع غزة.
4. ممر سوفا: فصل خان يونس عن رفح وشمل عددًا من المستوطنات، كان أبرزها "موراغ". بعد اتفاقية أوسلو، لم تتمكن إسرائيل من الحفاظ على ممر داخلي يربط مستوطنات الممر، مما أجبر السكان على استخدام طريق كيسوفيم كمدخل وحيد للمستوطنات.
5. محور صلاح الدين (بالعبرية: محور فيلادلفي): تم رسم محور فيلادلفي عام 1982 مع انسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء (والتي ضمت نحو 16 مستوطنة ومدنية إسرائيلية).
الخارطة (1): خارطة الأصابع الخمسة حسب خطة شارون 1970
المصدر: نقلا عن وكالات إسرائيلية، بتصرف[3]
منذ اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، كانت مستوطنات غوش قطيف والطرق المؤدية إليها هدفًا لمئات الهجمات الفلسطينية. ومع بداية الألفية الجديدة، تطورت أساليب المقاومة الفلسطينية وبدأت تشمل القصف بالهاون وتطوير صواريخ القسام. طريق كيسوفيم، الطريق الوحيد الذي يربط المستوطنات بإسرائيل، كان محورًا للهجمات، وخلال الانتفاضة الثانية وحدَها (2000-2004) قُتل 97 جنديًا إسرائيليًا في قطاع غزة.[4]
الخارطة (2): مواقع المستوطنات الإسرائيلية (باللون الأزرق) قبل الانسحاب عام 2005
المصدر: نقلًا عن موقع متراس، بتصرف[5]
ما بعد فترة الانسحاب الإسرائيلي من غزة 2005
على الرغم من تفكيك المستوطنات في قطاع غزة خلال خطة الانفصال عام 2005، بقيت قضية الاستيطان في غزة حاضرة في خطاب اليمين الإسرائيلي، حيث ظل المستوطنون السابقون وأنصارهم ينادون بالعودة إليها. تم إنشاء العديد من مشاريع التذكير لتخليد ذكرى المستوطنات وسكانها. في عام 2008، أُسس متحف غوش قطيف في القدس لتوثيق حياة المستوطنين في القطاع، بما في ذلك عرض تاريخ اليهود في غزة منذ الحقبة الحشمونية. كما أُنشئ في مستوطنة نيتسان مركز لإحياء تراث غوش قطيف وشمال الضفة، يضم مركز أبحاث وأرشيفًا وينظم فعاليات وندوات لإبقاء القضية حيّة. وأصبحت ذكرى غوش قطيف جزءًا من الثقافة العامة في إسرائيل، حيث تم إصدار كتب، وأغانٍ، وطوابع بريدية تخليدًا لها. وأطلقت أسماء المستوطنات على شوارع في مدن مثل أشكلون والقدس ونتيفوت، كما تم تحديد يوم خاص في التقويم الإسرائيلي لإحياء ذكرى هذه المستوطنات.
كان للانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005 تأثير هيكلي عميق على تطور الصهيونية الدينية، وعلى العلاقة بين الحركة الصهيونية الدينية والدولة الإسرائيلية، حيث فُسِّر الإخلاء باعتباره تقويضًا للرؤية المسيانية التي تعد بضم الأرض وتهويدها. أدى هذا الإدراك إلى تبني استراتيجية سياسية جديدة تتمثل في تعزيز النفوذ داخل مؤسسات الدولة العميقة، بما في ذلك القضاء، والجيش، والجهاز البيروقراطي، لتجنب تكرار ما اعتبره أنصار الحركة "كارثة وطنية".
ثانيًا، رؤية الاستيطان اليهودي بعد 2023- المنظمات
تسعى إسرائيل لترسيخ وقائع جديدة في قطاع غزة تمهد لاستيطان مستقبلي، رغم النفي الرسمي لذلك. كشفت تحقيقات إعلامية أن الجيش الإسرائيلي استولى خلال تسعة أشهر من الحرب على 26% من أراضي القطاع، حيث دُمرت منازل الفلسطينيين، وجُرفت الأراضي الزراعية، وأقيمت بنى تحتية عسكرية تشمل قواعد جديدة وطرقًا استراتيجية. تعيد هذه الخطوات إلى الأذهان نمط الاستيطان الذي شهدته الضفة الغربية بعد عام 1967. في أواخر كانون الثاني 2024، كشف ضابط في الجيش الإسرائيلي، طلب عدم الكشف عن هويته، أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومسؤولين آخرين في الحكومة طلبوا من أعضاء الجيش البدء في إنشاء "قواعد دائمة" في قطاع غزة. يتجاوز اليمين الديني في إسرائيل، مدعومًا من سياسيين وعسكريين، الأهداف العسكرية المعلنة مثل إسقاط حماس واستعادة الأسرى ويقود نشاطًا بارزًا في الحيز العام الإسرائيلي من أجل الاستيطان في غزة، وتشمل جهوده:
تشكيل"لوبي" داخل الكنيست للعودة للاستيطان في قطاع غزة
في حزيران 2024، تأسس لوبي جديد في الكنيست يهدف إلى إعادة تعزيز الاستيطان اليهودي في قطاع غزة، كجزء من رؤية أوسع تشمل توسيع السيطرة الإسرائيلية بين نهر الأردن والبحر المتوسط، وحتى أجزاء من جنوب لبنان. قاد إنشاء اللوبي عضوا الكنيست تسيبي سوكوت ولِمُور سون هار ملك، وهما ينتميان إلى الصهيونية الدينية. يضم اللوبي في عضويته وزراء وأعضاء كنيست ونشطاء استيطانيين، إضافة إلى أكاديميين وممثلين عن حركات استيطانية. خلال الاجتماع الأول للوبي، تم عرض خطة لاستيطان غزة، حيث أُعلن عن تسجيل أكثر من 600 عائلة (نحو 2500 فرد) أبدوا استعدادهم للانتقال إلى القطاع. دعا المشاركون إلى العمل بشكل سريع وعملي على إعادة الاستيطان في غزة، مع الإشارة إلى استخدام نماذج سابقة مثل استيطان الضفة الغربية. كما ربط بعض المشاركين بين الاستيطان وتشجيع "هجرة" الفلسطينيين إلى الخارج كجزء من تحقيق الأمن الإسرائيلي.[6]
الصورة (1): اجتماع لوبي تجديد الاستيطان اليهودي في قطاع غزة، بتاريخ 18 حزيران 2024
مؤتمر الاستيطان في غزة
بحلول تشرين الثاني 2023، انطلقت حملة تعرف باسم "العودة إلى الوطن" تدعو إلى التفكير في الاستيطان في قطاع غزة. وفي 22 من الشهر نفسه، انعقد مؤتمر في مدينة أشدود جمع منظمات قاعدية متعددة، حيث ألقت عضو الكنيست عن حزب "عوتسما يهوديت" ليمور سون هر-ميلخ كلمة وأشارت إلى نية "الحراك نحو الاستيطان في كل قطاع غزة وليس فقط مستوطنات "غوش قطيف" سابقًا التي تعتبر صغيرة ومحدودة. من جانبها، دعت غوتليف إلى بناء "برج وسور" في الجزء الشمالي من قطاع غزة على الفور. كما تحدث في المؤتمر يوسي داغان، الذي يعتبر عضوًا بارزًا في اللجان المركزية في الليكود وهو رئيس مجلس مستوطنات شمال الضفة الغربية وأجبر سابقًا على ترك مستوطنته في الضفة ضمن خطة الانسحاب عام 2005.
وقبل بدء عام 2024، أطلقت 11 منظمة يمينية بارزة "ائتلاف المنظمات للعودة إلى قطاع غزة وجميع مستوطنات شمال السامرة" خلال سلسلة من الاجتماعات السرية. ويهدف هذا الائتلاف الجديد إلى دعوة الإسرائيليين للانضمام إلى نوى استيطانية لإعادة بناء المجتمعات اليهودية السابقة في غوش قطيف، بدءًا من شمال قطاع غزة. وفي كانون الأول 2023، اجتمع مئات من نشطاء الاستيطان في وسط إسرائيل لحضور الدورة الأولى من المؤتمر العام للعودة للاستيطان في قطاع غزة.
الصورة (2): من الدورة الأولى لمؤتمر الاستيطان في غزة، القدس 28 كانون الثاني 2024
في كانون الثاني 2024، شارك 12 وزيرًا و15 عضو كنيست في مؤتمر الاستيطان في غزة (الدورة الأولى) بعنوان "الاستيطان يجلب الأمن والنصر"، حيث دعا إيتمار بن غفير علنًا إلى تشجيع "الهجرة" للفلسطينيين وإعادة استيطان مناطق مثل غوش قطيف وشمال الضفة الغربية. عُقد المؤتمر كجزء من حملة منظمة، برعاية حركة "نحالا" بدعم سياسي كبير من حزب الليكود وأحزاب اليمين المتطرف. تمحور المؤتمر حول رؤية لإعادة بناء مدينة غزة كمدينة حديثة، خضراء، ومزدهرة، بهدف تحقيق "أمن إسرائيل" وتعزيز المشروع الصهيوني. حزب الليكود، الحزب الحاكم في إسرائيل، أصبح داعمًا رئيسًا لمبادرات الاستيطان في غزة، ونظم مناسبات عديدة للترويج لهذه الفكرة، بما في ذلك دعوة عامة لحضور مؤتمر داخل "سقيفة الليكود"، بمشاركة نشطاء وأعضاء من اليمين المتطرف.[7] في تشرين الأول 2024، انعقد المؤتمر في دورته الثانية، وشاركت شخصيات بارزة من الليكود، مثل ماي جولان، أفيخاي بوارون، وأوسر شاكيد، إلى جانب وزراء مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. أُعلن خلال المؤتمر عن بدء تنفيذ المشروع بشراء 40 منشأة ستُقام في غزة فور توافر الظروف. كما شملت الفعالية فعاليات تسويقية، مثل بيع منتجات تحمل شعارات داعمة للاستيطان، وعروض للأطفال.
وزراء إسرائيليون يتصدرون الدعوة للاستيطان في غزة
شهدت المؤتمرات والمحافل التي تدعو إلى العودة للاستيطان في قطاع غزة حضورًا بارزًا من المستوى السياسي والوزراء العاملين، مما يشير إلى تحول حركة الاستيطان من الهامش السياسي إلى موقع بارز في المشهد السياسي. من بين المشاركين، ألقى كل من إيتمار بن غفير (وزير الأمن القومي، عوتسما يهوديت) وبتسلئيل سموتريتش (وزير المالية، الصهيونية الدينية) كلمات رئيسَة، بينما كان من بين المتحدثين إسحق غولدنوف (وزير البناء، يهدوت هتوراة الموحدة).
الجدول (1): أسماء الوزراء الإسرائيليين من الحكومة الـ 25 والذين ينظمون مؤتمر الاستيطان غزة ويشاركون فيه
الحزب |
الوزير |
|
الليكود |
شلومو قرعي |
وزير الاتصالات |
حاييم كاتس |
وزير السياحة |
|
ايديت سيلمان |
وزيرة حماية البيئة |
|
ماي غولان |
وزيرة المساواة والمرأة |
|
عميحاي شيكلي |
وزير الشتات والمساواة الاجتماعية |
|
يهدوت هتوراه |
إسحق غولدنوف |
وزير البناء والإسكان |
قوة يهودية |
ايتمار بن غفير |
وزير الأمن القومي |
إسحق وسرلوف |
وزير تطوير النقب والجليل |
|
عميحاي الياهو |
وزير التراث |
|
الصهيونية الدينية |
بتسلئيل سموتريتش |
وزير المالية ووزير ثانٍ في وزارة الأمن |
أوريت ستروك |
وزير الاستيطان والمهمات القومية |
منظمة الاستيطان "نحالا" تبادر بالاستيطان
تعد منظمة "نحالا" إحدى أبرز الحركات الاستيطانية الإسرائيلية، وتهدف إلى توسيع الاستيطان في الأراضي المحتلة، بما في ذلك غزة، بدعوى "استعادة السيطرة اليهودية". تحقق المنظمة أرباحًا كبيرة عبر جمع التبرعات محليًا ودوليًا، حيث تجمع ملايين الشواكل لشراء أراضٍ فلسطينية وبناء مستوطنات غير قانونية. دانييلا فايس، رئيسة حركة "نحالا" الاستيطانية، تُعد واحدة من أبرز الشخصيات التي تقود مخطط إعادة الاستيطان في غزة. وفقًا لتقرير على قناة "كان 11"، تعمل فايس على تنفيذ خطة استيطانية خمسية أُطلق عليها "خطة الارتباط"، والتي تهدف إلى استعادة السيطرة اليهودية على قطاع غزة بحلول عام 2025. تتضمن الخطة خطوات عملية تشمل إقامة مستوطنات مؤقتة على حدود غزة، تعزيز البنية التحتية السياسية، والتغلغل في الحزب الحاكم لتسهيل تنفيذ المشروع. تعتبر فايس الاستيطان في غزة جزءًا من رؤية أوسع لتحقيق "الخلاص اليهودي". بدأت بتنفيذ الخطة على الأرض عبر إقامة تجمعات استيطانية مؤقتة قرب الحدود، حيث استقرت مئات العائلات بالفعل في هذه المناطق بتكلفة تُقدر بعشرات ملايين الشواكل، في انتظار الوقت المناسب للتوسع داخل القطاع. تُشير تصريحات فايس إلى أنها تعتبر تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول "عدم واقعية" استيطان غزة مجرد رسائل لطمأنة الأميركيين، في حين أن العمل جارٍ فعليًا على تنفيذ الخطة. تعتمد فايس وحركتها على استخدام نماذج استيطانية سابقة، مثل مستوطنة "أفيتار"، كأساس لتكرار النجاح في غزة. أبرز التقرير أيضًا البعد الأيديولوجي للمخطط، حيث ترى العائلات المشاركة أن استيطان غزة "تكليف ديني"، وتشجع على تهجير الفلسطينيين إلى دول أخرى. تأتي هذه الخطوات وسط دعم سياسي من أحزاب اليمين المتطرف وتحالفات داخل الليكود لتحقيق الهدف الاستيطاني.[8]
"إلي عزة"- بؤرة استيطانية جديدة على مشارف القطاع في وضع التأهب
في حزيران 2024، أقام المستوطنون بؤرة "إلي عزة" بالقرب من كيبوتس إيريز بهدف الاستعداد للانتقال لإقامة مستوطنات يهودية في قطاع غزة. نشأت هذه المبادرة من خلال دعم شخصيات بارزة مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، على الرغم من معارضة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي وصفها بأنها "غير واقعية". لا تزال البؤرة مقامة حتى اليوم على "أراضٍ يهودية خاصة" على مشارف قطاع غزة، وفيها حضانة، ومرافق حيوية، وخيم.[9]
الصورة (3): صور من بؤرة "إلي عزة" المقامة على مشارف القطاع، أيلول 2024
خارطة مقترحة للاستيطان في قطاع غزة
في كانون الثاني 2024، عُرضت خريطة في مؤتمر لإعادة توطين غزة، توضح خطط إقامة مستوطنات جديدة على أنقاض المدن والبلدات الفلسطينية بعد عملية تطهير عرقي. تشمل الخطة إعادة إنشاء 15 مستوطنة كانت قائمة قبل الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005، بالإضافة إلى 6 مستوطنات جديدة. ستُبنى المستوطنات الكبرى في مواقع مدن غزة الرئيسة: مدينة غزة، خان يونس، ورفح. أسماء المستوطنات الجديدة هي مستوطنة نواة مدينة غزة؛ يشاي بالقرب من بيت حانون، بوابات منطقة غزة في خان يونس، حِسِد للألوف جنوب رفح للمستوطنين الحريديم، معوُز على الساحل الجنوبي لغزة.
كما تضمنت الخريطة أسماء جديدة للأحياء الفلسطينية بترجمة عبرية تحمل دلالات تاريخية ودينية مثل "عودة صهيون" و"أبطال غزة"، مع التركيز على استبدال الأسماء العربية بأسماء عبرية. يظهر في الخريطة رموز مثل نجمة داوود في مراكز المدن، بينما ظلت المناطق المحيطة غير محددة، مع ترويج الوزراء لفكرة الضغط على الفلسطينيين لمغادرة البلاد.
الصورة (4): منشور عبري يعرض خارطة متخيلة لشكل الاستيطان في كل قطاع غزة، تموز 2024
ثالثًا: امكانيات الاستيطان الإسرائيلي في قطاع غزة؟
تحمل نشاطات إحياء الاستيطان في غزة تهديدًا حقيقيًا، هناك عوامل عدة تزيد من احتمالية تحققه، مثل الدعم الأيديولوجي والمؤسساتي لحركة الاستيطان والبنية التحتية العسكرية المتطورة والترتيبات النشطة التي يقوم بها المستوطنون، بالمقابل هناك عوامل أخرى، كالعبء الأمني والإداري الذي يشكّله الاستيطان واستمرار الحرب ومآلاتها التفاوضية، تعرقل تحقيقه.
- عوامل تعزز مشروع الاستيطان في قطاع غزة
يتطلّب تحقيق مشروع استيطاني في قطاع غزة وجود سلطتين إسرائيليتين متكاملتين: الأولى ذات طابع أمني عسكري، تضمن السيطرة الأمنية الصارمة، والثانية ذات طابع مدني، على غرار الإدارة المدنية أو أي كيان إداري مستحدث يضطلع بتنظيم الشؤون اليومية للمستوطنين. في هذا السياق، يُعد محور نتساريم مثالًا على إمكانية إنشاء منطقة حدودية تستقطع جزءًا من قطاع غزة لتمكين هذه السلطات من العمل. منذ بداية الحرب، طورت إسرائيل بنية تحتية عسكرية على طول محور نتساريم (7 كم عرضًا و8 كم طولًا)، ما يشير إلى نيات تتجاوز الاعتبارات الأمنية التقليدية. باتت هذه المنطقة تُستخدم كخط حدودي يمنع عودة السكان الفلسطينيين إلى شمال القطاع، حيث أقيمت عليها 6 معسكرات ونقاط مراقبة، مما يعكس تحولًا في طبيعة السيطرة الإسرائيلية على الأرض.
من جهة ثانية، تُظهر حركة الاستيطان الإسرائيلي قوة متزايدة بسبب توفر ثلاثة عوامل. سياسيًا، انهيار مفهوم حل الدولتين واستبعاده من الأجندة السياسية الإسرائيلية، ما يمنح المستوطنين أرضية أيديولوجية قوية للتوسع دون ضغوط إسرائيلية داخلية جادة. سلطويًا،وجود حكومة يمينية ودينية تضم وزراء ومسؤولين في مواقع قيادية ينتمون إلى دوائر الاستيطان، ما يدعم المشروع الاستيطاني لأسباب أيديولوجية وأمنية على حد سواء. تنظيمًا، النمو المتسارع لحركة الاستيطان في العقد الأخير، حيث باتت تضم منظومة شاملة من المؤسسات تشمل منظمات تمويلية، مدارس ما قبل العسكرية، منصات إعلامية، أكاديميين، حركات شبيبة، صناديق تمويل، ولوبيات داخل الكنيست. تمكن هذه الأذرع المختلفة الحركة من تحويل رؤيتها إلى برامج عمل فعالة على الأرض، مما يزيد من قدرتها على تحقيق أهدافها الاستيطانية.
- عوامل تستبعد/تعرقل مشروع الاستيطان في قطاع غزة
- رغم العوامل التي تدعم الاستيطان، فإن هناك عوائق جديّة تعرقل تحقيقه، على الأقل في المستقبل القريب. الاستيطان الإسرائيلي في غزة مرهون بنتائج الحرب التي لم تُحسم بعد. مفاوضات إنهاء الحرب تشمل مطالب جوهرية مثل الانسحاب الإسرائيلي الكامل، وهي مطالب قد تعيق أي محاولة لتثبيت استيطان جديد إذا ما واجهت ضغوطًا دولية أو مقاومة فلسطينية قوية.إضافة إلى ذلك، من وجهة نظر الجيش الإسرائيلي والمؤسسات الأمنية، الاستيطان ليس مكسبًا، بل عبء إداري، ومالي، وأمني. ستتطلب حماية المستوطنات الجديدة استنزافًا للموارد والقدرات العسكرية، بالإضافة إلى التصدي للاحتجاجات الدولية والمحلية الناتجة عن عمليات التهجير القسري للفلسطينيين.
- يعارضالمجتمع الدولي فكرة إعادة الاستيطان الإسرائيلي في غزة الأمر الذي قد يشكل عنصر ضغط على إسرائيل تجاه منع تهجير الفلسطينيين وإنشاء مستوطنات يهودية مكانهم.[10] فعلى الصعيد الأميركي، واجهت إسرائيل انتقادات حادة من إدارة بايدن التي سبق وأكدت التزامها بحل الدولتين ورفضها التوسع الاستيطاني باعتباره عائقًا أمام السلام (وكانت قد فرضت عقابات على مستوطنين ومنظمات استيطانية في الضفة الغربية خلال 2024). أما في ما يخص الإدارة الأميركية الجديدة، فقد أعلن ترامب عن نيته إنهاء الحرب بأسرع وقت الأمر الذي يقلص حظوظ إسرائيل في البقاء داخل قطاع، مع الإشارة إلى أن خطر إدارة ترامب قد يكون أكثر تجاه تسهيل عمليات ضم الضفة الغربية وليس الاستيطان في قطاع غزة. من جانبها، أعربت ألمانيا عن قلقها إزاء خطط إعادة توطين اليهود في غزة، مؤكدة رفضها القاطع لأي خطط تهدف إلى بناء مستوطنات هناك.[11]
- أما على المستوى الإقليمي، فإن هذه السياسات تهدد جهود التطبيع مع السعودية ودول عربية أخرى، التي ترى في مثل هذه التحركات تقويضًا للمبادرات الدبلوماسية وتجاهلًا للقضية الفلسطينية. إضافة إلى ذلك، فإن التوجهات الحالية تعمق العزلة الدولية لإسرائيل، حيث تُواجه بإدانات واسعة من المجتمع الدولي الذي يعتبر التهجير القسري والاستيطان في الأراضي المحتلة انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، مما يزيد من تعقيد علاقاتها الخارجية ويضعها تحت ضغوط سياسية وقانونية متزايدة.
[1] في حينها لم يكن اسم "قطاع غزة" مستخدماً، ولم يكن منفصلًا عن باقي فلسطين الانتدابية.
[2] Barbra Sopher, “A thousand brides”, The Jerusalem Post, January 30, 2014. See: https://www.jpost.com/Opinion/Columnists/A-thousand-brides-339848.
[3] وليد حباس، " طريق 749 الإسرائيلي يشق قطاع غزة إلى نصفين: ما الهدف؟"، ملحق المشهد الإسرائيلي، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلي- مدار، بتاريخ 4 آذار 2024. الرابط: https://short-link.me/PgUt.
[4] بتسيلم، "العناصر الإسرائيليون الذين قتلوا من قبل الفلسطينيين- قطاع غزة"، قاعدة بيانات على موقع مركز بتسيلم. الرابط: https://statistics.btselem.org/he/stats/before-cast-lead/by-date-of-incident/israel-sec-by-pal/gaza-strip?tab=overview.
[5] سعد الوحيدي، "غزة، كيف نقرأ جغرافيا المعركة؟"، متراس، بتاريخ 30 تشرين الأول 2023. الرابط: https://short-link.me/MSNK.
[6] نوعا شبيغل، "في لوبي الكنيست الجديد للاستيطان في غزة، كان التوطين في قطاع غزة هو الأكثر اعتدالا بين الأفكار"، هآرتس، بتاريخ 20 حزيران، 2024. الرابط: https://www.haaretz.co.il/news/politi/2024-06-20/ty-article/.premium/00000190-30b9-d39e-a999-76ff61540000.
[7] نوعا شبيغل، "في مؤتمر الاستيطان، إن إنشاء "غزة الجديدة" ليس سرابا، بل خطة عمل "، هآرتس، بتاريخ 21 تشرين الأول، 2024. الرابط: https://www.haaretz.co.il/news/politics/2024-10-21/ty-article-magazine/.premium/00000192-af02-d049-a3db-bf76397e0000.
[8] ياسمين ليفي، "لا تقللوا من شأن دانييلا فايس، تم إطلاق خطة الاستيطان في غزة"، هآرتس، بتاريخ 21 تشرين الثاني، 2024. الرابط: https://www.haaretz.co.il/gallery/television/tv-review/2024-11-26/ty-article/.highlight/00000193-6747-d193-addf-6f472d0f0000.
[9] شاني ليطمان، "المستوطنة في غزة تختمر. وقد تم بالفعل إنشاء موقع استيطاني جديد بالقرب من الحدود"، هآرتس، بتاريخ 4 أيلول، 2024. الرابط: https://www.haaretz.co.il/magazine/2024-09-04/ty-article-magazine/.highlight/00000191-bccd-db99-a1d1-bdff2a770000.
[10] Crispian Blamer, “Former Israeli defense minister Yaalon warns of ethnic cleansing in Gaza”, Reuters, December 1, 2024. See: https://www.reuters.com/world/middle-east/former-israeli-defense-minister-yaalon-warns-ethnic-cleansing-gaza-2024-12-01/?utm_source=chatgpt.com.
[11] Oliver Towfigh Nia, “Germany concerned over illegal Israeli resettlement plans in Gaza”, AA, Nov 29, 2024. See: https://www.aa.com.tr/en/europe/germany-concerned-over-illegal-israeli-resettlement-plans-in-gaza/3408645?utm_source=chatgpt.com.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, الخط الأخضر, بتسيلم, بتسلئيل, كيبوتس, هآرتس, الإدارة المدنية, الليكود, الكنيست, بنيامين نتنياهو