المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
جنود احتياط على مشارف غزة. (عن: واي نت)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 327
  • سليم سلامة

"أنا أسميّ هذه الخطوة رفضاً للخدمة العسكرية وتمرّداً عليها، وإن لم تكن بشكل منظم وضمن إطار معيّن. بعد سنة كاملة من الحرب، يمكن القول إن التآكل والشعور باستنزاف القوى، الجسدية والنفسية، قاصرٌ عن التعبير الحقيقي عن الجنود في لواء الناحَل... فعلى مدى 11 شهراً كانت الروح القتالية تملؤهم، جولة إثر أخرى، حتى الجولة الأخيرة التي تغيّر فيها شيء ما في العمق والجوهر. فمن أصل 30 جندياً في هذه الوحدة، لم يمتثل للخدمة في الجولة الثانية عشرة سوى ستة جنود فقط. أما الباقون، فقد استصدروا جميعاً شهادات إعفاء لأسباب صحية ـ طبية".

قد يبدو من الصعب تصديق أن الحديث يدور هنا حول حرب الإبادة المتواصلة التي لا تزال إسرائيل ماضية في شنّها ضد أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والتي دخلت شهرها الثالث عشر / سنتها الثانية على التوالي في التاسع من تشرين الأول الجاري. الحديث حول صعوبة التصديق، المذكورة هنا، مردّه هذا الإجماع الإسرائيلي ـ الصهيوني شبه المطلق تماماً، الذي حظيت به هذه الحرب الانتقامية منذ يومها الأول، ولا تزال تحظى به حتى يومنا هذا، رغم ما تخللها حتى الآن من فيض جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها الدولة الإسرائيلية، بحكومتها وبرلمانها (الكنيست) وجيشها وأذرعها الأمنية المختلفة، وسط التفاف داعم، شامل، من جانب وسائل إعلامها وأحزابها السياسية وجمهور مواطنيها اليهود الذين اجتمعت رغبتهم، كلهم، في الانتقام من الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وتكبيده أثماناً غير مسبوقة في تاريخ الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني من حيث حجم ونطاق القتل والتدمير والتهجير.

الكلام الوارد في الاقتباس الذي يستهل هذه المعالجة هو لمواطنة إسرائيلية هي والدة أحد الجنود الثلاثين المذكورين الذين يخدمون في تلك الوحدة العسكرية. ورغم أن الدافع لهذا الكلام ليس معارضة الحرب من منطلقات سياسية و/ أو أخلاقية ـ ضميرية، فإنه يبقى رفضاً، على قدر عالٍ من الأهمية، لإحدى أكثر الحروب إجرامية وبشاعة في العصر الحديث، على الأقل. وقد ورد ضمن تقرير أعدّته الصحافية رفيطال حوفيل ونُشر على موقع "المكان الأشدّ حرّاً في الجحيم" تحت عنوان "رفضٌ صامِتٌ ومُخرَسٌ: مقاتلون في الجيش النظامي ليسوا مستعدين لمواصلة القتال بعد"، مع التنويه إلى أن التقرير هو "الأول ضمن سلسلة تقارير تعالج إسقاطات القتال المستمر والثمن النفسي الذي يوقعه على المقاتلين وأفراد عائلاتهم". وعلى ذلك، يشكل هذا التقرير، وما سيتبعه من تقارير أخرى ـ بدون أدنى شك ـ استثناءً لافتاً في هذا التوقيت تحديداً، لا سيما وأن الحرب على قطاع غزة لم تنته بعد، بل تم توسيعها و"إسنادُها" (!!) بحرب أخرى على جبهة أخرى ـ هي الحرب التدميرية الإجرامية على لبنان.  

"لا نفهم ماذا نفعل هنا"!

تشير معدّة التقرير، بداية، إلى أنه "من لواء الناحَل ("ناحَل"، بالعبرية: اختصار لـ "الشبيبة الطلائعية المحاربة") حتى لواء الكوماندوس، من لواء جفعاتي حتى لواء المظليين ـ أعداد متزايدة، باستمرار، من المقاتلين من جميع وحدات المشاة، يصرّحون بأنّ التآكل والبلادة في الجيش الإسرائيلي لم يتركا لهم أي خيار آخر غير الرفض". واللافت جداً في سياق الحديث عن هذه الظاهرة، ضمن هذا التقرير والتقارير الأخرى التي ستليه، أن مكتب الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي رفض الإدلاء بأي تعقيب للموقع حول ما ورد في هذا التقرير.

تؤكد الوالدة المذكورة آنفاً، التي يُطلق عليها في التقرير اسم مستعار (مثل جميع الآباء والأمهات الآخرين المشاركين في التقرير "خشية أن ينتقم الجيش من أبنائهن/م"، كما يؤكد التقرير!)، أن ما يفعله هؤلاء الجنود هو "حالة من الرفض والتمرّد، بكل وضوح" ـ رفض لأسلوب إدارة الحرب، الذي ينمّ عن عشوائية فاضحة، وتمرّد على الأوامر العسكرية التي لا هدف لها ولا مبرر، رغم أنها تعرّض حياة الجنود للخطر، ليس إلّا. وتوضح: "إنهم يعودون إلى المباني ذاتها التي سبق أن نظّفوها تماماً من قبل. يعودون إليها، يزرعون فيها الألغام والعبوات والناسفة، كل مرة من جديد. إلى حي الزيتون في مدينة غزة، على سبيل المثال، عادوا ثلاث مرات حتى الآن، رغم أنهم يدركون تماماً أن لا غاية لهذا ولا فائدة منه، على الإطلاق"!

ورغم أن عددهم لم يكن يتجاوز خُمس العدد الكلي للجنود في الوحدة العسكرية العينية (عشرين بالمائة!)، فإن قائد الوحدة أصرّ على أن يدخلوا إلى غزة. "لكن، نظراً لأنّ عديدهم كان قليلاً جداً، لم يكونوا قادرين على الخروج في أية مهمات عسكرية. ظلوا قاعدين هناك ينتظرون الوقت كي يمرّ. كان ذلك عديم المنطق وعديم الجدوى، إطلاقاً". وتضيف الوالدة، التي يبدو من مشاركتها في التقرير أنها مطلعة تماماً على أدق التفاصيل في تلك الوحدة التي يخدم فيها ابنها، بل على تفاصيل أخرى كثيرة تتعلق بوحدات عسكرية أخرى مختلفة، في هذا السياق: حدّثني ابني عن "محادثة صريحة جرت بين المقاتلين الذي قالوا، بكل بساطة، إنّ على كلّ من يستطيع الابتعاد عن القتال ـ أن يبتعد"، إذ إنه "ليس هنالك ما يكفي من القوات لتنفيذ المهمات التي يضعها الجيش. وبسبب هذا النقص في القوات، فإن الأمور تجري بصورة جزئية وبصورة غير كافية. والجنود لا يشعرون بأنهم محميّون فعلاً. الوحدات العسكرية فارغة. كل مَن لم يمُت ولم يُصَب إصابات جسدية، أصيبَ نفسيّاً. لم يبق سوى عدد قليل جداً من الجنود الذين عادوا إلى ساحة القتال، لكن هؤلاء أيضاً غير سليمين تماماً"! ثم تضيف: "كان هذا قبل الاغتيالات التي جرت في لبنان. ومنذ ذلك الوقت، يقول ابني: أنا لا أعلم حقاً بأي جيش يفكرون باجتياح لبنان، لكن الحقيقة أنه ليس هنالك جيش. أنا، وكثيرون آخرون غيري، لن نعود إلى الكتيبة".

"ليست حركة منظّمة، لكن التسرب الخفيّ لا يتوقف"!

 تُؤكد المقابلات التي أجرتها معدّة التقرير مع ما يزيد عن 20 شخصاً من أهالي الجنود ما أشارت إليه في بداية تقريرها عن أن هذه الظاهرة لا تقتصر على وحدة بعينها، بل أصبحت منتشرة في العديد من الألوية، ومنها الأبرز في جيش الاحتلال، وخاصة ألوية المظليين وجفعاتي والكوماندوس. ورغم كونها ظاهرة "صامتة" و"يتم إخراسها"، إلا أنها آخذة في الاتساع أكثر فأكثر. وثمة أعداد متزايدة من الجنود يرفضون مواصلة المشاركة في الحرب في قطاع غزة.

"إن الشعور الذي كان يغمر الجنود بأنهم متراصّون ويؤدون رسالة وطنية خلال الأشهر الأولى من الحرب، يأخذ في التبدد الآن. لقد حاربوا حتى الرمق الأخير وبلغت بهم الأمور حدّاً لم يعودوا قادرين على الاستمرار"، تقول إحدى الأمهات لأحد الجنود من لواء الكوماندوس. وتضيف: "كل واحد منهم يفعل ذلك بشكل منفرد وبصمت. هذه ليست حركة منظمة. يذهب كل منهم إلى قائده المباشر ويبلغه بأنه لم يعد يستطيع فيُخرجونه من دائرة القتال ويرسلونه إلى مهمة أخرى. الأمور كلها تنتهي في داخل الوحدة وهذا يحدث كل الوقت باستمرار. ثمة تسرب خفيّ لا يتوقف من المهمات القتالية. هذا ليس رفضاً بالمعنى المعروف، لكنه تسرّب بسبب التآكل".

يشير التقرير إلى أنّ أمهات الجنود يُطلقن على هذه الظاهرة اسم "الرفض الصامت" أو "الرفض الرمادي". وتروي الأمهات أن "الكسر المعنوي" لدى أبنائهن الجنود بدأ في منتصف شهر نيسان تقريباً، أي في الشهر السادس من الحرب، "مع بدء تخبط الجيش في غزة ومع اهتزاز الشعور بالرضى وبأنّه بالإمكان تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، حقاً". وتوضح إحدى الأمهات فتقول: "عندما بدأ الجيش يعود إلى الأماكن ذاتها التي كنّا قد نظّفناها، مثل جباليا وحي الزيتون وحي الشجاعية في غزة، حصل انكسار الجنود المعنوي. فتلك هي الأماكن نفسها التي فقد فيها الأبناء أصدقاءهم وزملاءهم. كانت المنطقة قد أصبحت نظيفة وكان يجب المحافظة على ذلك، ولكن ما حصل دبّ في نفوسهم شعوراً قوياً بالإحباط... ما كان يقتلهم هو ظروف القتال ومدّته في المكان نفسه من دون أي أفق لأية نهاية. لم يعودوا يعرفون متى من الممكن أن يخرجوا من هناك، إن كان من الممكن أصلاً. وهذا ناهيك بالطبع عن فقدان الأصدقاء والزملاء وعن المشاهد المرعبة التي كانوا يصطدمون بها هناك".

بعد مضيّ 12 شهراً متتالياً على حرب الإبادة "التي لا تسير إلى أي مكان ولا أحد يعرف إلى أين تتجه، متى ستكون نهايتها وكيف"، حسبما تقول إحدى الأمهات، أصبح الجنود يصفون أنفسهم بأنهم "سود"، ومعنى ذلك في اللغة العسكرية المتداولة أنهم "أصبحوا في حالة اكتئاب، تآكل معنوي ونفسي وعديمي الدافعية، تماماً"، كما توضح.  

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات