لم تكن الادعاءات التي تناقلتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، سواء عن ألسن محللين أمنيين أو مسؤولين سياسيين إسرائيليين، بشأن "عجز الشرطة" عن مواجهة ومعالجة ووقف ما وصفته بـ "الاضطرابات وأعمال خرق النظام" التي شهدتها القرى والبلدات الفلسطينية في داخل إسرائيل، وفي مقدمتها المدن التي تسمى "مدناً مختلطة" وقد أصبح اليهود يشكلون فيها أغلبية السكان في أعقاب النكبة الفلسطينية - لم تكن تلك الادعاءات سوى ذر للرماد في العيون ضمن مسعى تعتيميّ على قرار الشرطة الواضح، والمتجسد بصورة لا يشوبها أي غموض في ممارساتها الميدانية التي ألقت الحبل على غاربه لقطعان المستوطنين المنقولين، في سفريات منظمة، من الضفة الغربية إلى داخل المدن الإسرائيلية ليعيثوا فيها اعتداءً وتخريباً ضد المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم، تحت أبصار الشرطة وأسماعها دون أن تبذل الحد الأدنى من محاولة ردعهم، منعهم أو الحؤول دون تنفيذ اعتداءاتهم الإجرامية.
اندلعت المواجهات الإسرائيلية- الفلسطينية بدءا من أواسط شهر نيسان الماضي على جميع الجبهات التي يمكن تصوّرها، في المواجهات الميدانية، وفي الحقل الدبلوماسي وفي شتى وسائل الإعلام، وتحت قباب الكونغرس ومعظم برلمانات العالم، كما في شوارع العواصم والمدن وساحاتها الرئيسة، وكل ذلك انطلق من بؤرة المواجهات في القدس، وامتد لسائر مدن الضفة وقطاع غزة وفي مناطق 1948 وصولا للشتات والمهجر، في مشهد استثنائي توحد فيه الفلسطينيون في كافة أماكن تواجدهم مجمعين على رفض نتائج النكبة وآثارها. ومع تميز كل تجمع فلسطيني بنمط المواجهة وفق خصوصياته وأدواته المتاحة وعناوينه "المحلية" الساخنة، ولأسباب عملية ستركز هذه المقالة على الحرب التدميرية على قطاع غزة، وارتباطها بسائر جوانب القضية ومستقبل الصراع.
كانت مساعي تشكيل حكومة جديدة في إسرائيل حتى مطلع الأسبوع الجاري ما تزال تراوح في مكانها. ومن المفترض بعد أن عادت طائرات الاحتلال إلى قواعدها، وسكتت فوهات المدافع، في عدوانها على قطاع غزة، أن يشهد الحراك وتيرة أسرع، خاصة وأنه ما زال أمام المكلف الحالي، يائير لبيد، أسبوعان فقط ليبلغ الرئيس الإسرائيلي عن تشكيل حكومة، إلا أن كل المعادلات التي تعيق تشكيل الحكومة ما زالت على حالها. في المقابل، فإن ترشيحين وحيدين فقط لمنصب رئيس الدولة، وليسا من أعضاء الكنيست، كان مفاجئا من حيث برودة المنافسة، بعد أشهر طويلة تحدث فيها حزب الليكود عن تنافس شديد على منصب رئيس الدولة، الذي حسب مؤشرات أولية، قد يكون من نصيب رئيس الوكالة اليهودية الصهيونية إسحاق هيرتسوغ، ولكن كل مفاجأة قد تكون واردة.
يتفق جلّ المحللين الإسرائيليين على أن أكثر صفة تليق بجولة الكفاح الفلسطينية الحالية التي انطلقت من مبدأ حماية القدس وأهلها وممتلكاتهم، وسرعان ما استقطبت كلا من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي 48، هي كونها جولة مفاجئة، وبالذات فيما يتصل بتدحرجها ووصولها إلى داخل إسرائيل.
وبمتابعة سريعة يمكن أن نستشف من هذه التحليلات أن ما استدعى الالتجاء إلى هذه الصفة هو واقع أن إسرائيل تعاملت مع قضية فلسطين في الآونة الأخيرة كما لو أنها قضية منسية لا من طرفها فقط إنما من جهة أطراف أخرى كثيرة ذات صلة بينها أطراف عربية، بالإضافة إلى أطراف دولية، وكل ذلك في وقت كانت الساحة العالمية عرضة لمواقف إدارة أميركية (سابقة) متماهية مع سياسة اليمين الإسرائيلي وروايته التاريخية ورمت بكل ثقلها لجرّ أطراف كثيرة لتسوية قضية فلسطين وفق خطة هي إلى تصفيتها أقرب، عرفت إعلامياً باسم "صفقة القرن". وأمكن ملاحظة هذا التعامل الإسرائيلي مع قضية فلسطين أيضاً، من خلال الأزمة السياسية غير المسبوقة التي تشهدها إسرائيل منذ أكثر من عامين وتتسم أكثر شيء بما يشبه غياب الجدل السياسي حيال موضوعات كانت تحضر بقوة في الأزمات السياسية السابقة ولا سيما في جولات الانتخابات، وفي مقدمها قضايا الاحتلال والاستيطان والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني ومستحقات عملية التسوية.
الصفحة 207 من 859