لطالما شكّل مبدأ السرية العمود الفقري والمبدأ الناظم للعمل الأمني والاستخباراتي الناجح والفعّال، كونه عملاً سرياً بطبيعته. وهو المبدأ الذي نراه بشكل مُضاعف لدى إسرائيل وأجهزتها الاستخباراتية المُختلفة التي تؤدّي أدواراً تتجاوز الدور الأمني والاستخباراتي لتُسهم في صوغ وتحديد طبيعة السياسات الداخلية والخارجية والموقف من القضايا والملفات الإقليمية والدولية، كما وتحدّد طبيعة العلاقة مع اللاعبين الإقليميين والدوليين. وخلافاً لما كان عليه الحال في السابق، نشهد اليوم حضوراً متزايداً للنقاشات والمعلومات الأمنية والاستخباراتية في المجال العام الإسرائيلي، وخاصّة في العقد الأخير، أي منذ تسلّم بنيامين نتنياهو لمقاليد الحكم والسلطة، وهي النقاشات التي لم تكن حاضرة يوماً بنفس القوة والوتيرة قبل عدّة سنوات.
مستوى القمع الذي تمارسه الشرطة الإسرائيلية ضد المتظاهرين المطالبين بتنحي رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بسبب التهم الجنائية التي يواجهها وفشله في إدارة أزمة كورونا صحيا واقتصاديا، يثير تساؤلات وجدلا حول تحويل اليمين الإسرائيلي خاصة نتنياهو وحزب الليكود لسلطات إنفاذ القانون إلى أداة لتنفيذ أجندتهم السياسية اليمينية، في مواجهة من يعارضهم، وكذلك استغلال قيود كورونا لممارسة القمع السياسي ضد المعارضة. ويعمق جدية هذه التساؤلات مستوى "التسامح" وأحيانا "التواطؤ" الذي مارسته الشرطة الإسرائيلية تجاه ومع التيار الحريدي الذي تحدى قيود الإغلاق بشكل سافر، رغم أن معطيات وزارة الصحة الإسرائيلية تؤكد أن نسبة تفشي كورونا بين اليهود الحريديم المتشددين دينياً هي الأعلى في مكونات المجتمع الإسرائيلي.
أظهرت تقارير جديدة أن السوق الإسرائيلية مقبلة على موجة غلاء في أسعار المواد الغذائية، لتنضم إلى ارتفاع طرأ على أسعار الخضراوات والفواكه في الشهر الماضي. إلا أن هذا الغلاء لا ينعكس بصورة حقيقية في تقارير التضخم المالي الذي تراجع في الأشهر التسعة الأولى من هذا العام بنسبة 0.7%. في حين دلت تقارير على أن الجمهور الإسرائيلي قلق من المستقبل، وبات يفضل تكديس الأموال في البنوك على صرفها. وفي المقابل، قال تقرير جديد لوزارة المالية إن شهر أيلول الماضي، أظهر تراجعا في عدد متلقي الرواتب بنحو 100 ألف شخص، وهؤلاء يشكلون قرابة 2.5% من القوة العاملة في إسرائيل.
بالرغم من أن أزمة جائحة كورونا في إسرائيل ما زالت في ذروتها يمكن ملاحظة أن هناك سعياً محموماً لاستخلاص عدة تبصرّات تتعلق بما ستمسي عليه الصيرورة الإسرائيلية فيما بعد هذه الأزمة غير المسبوقة، يؤكد بعضها أنها لن تكون كما كانت قبلها. وهي تبصرّات غير مرتبطة فقط بالأزمتين الصحية والاقتصادية، إنما أيضاً بالشروخ الاجتماعية، ومستقبل نظام الحكم. من هذه التبصرّات بالوسع أن نشير الآن إلى ما يحيل على قطاع اليهود الحريديم المتشددين دينياً، وعلى ما سيترتب على سلوك أقطاب اليمين الجديد بالنسبة إلى مستقبل "الديمقراطية الإسرائيلية"، وهو ما سنتوقف عنده هنا وإن بنظرة طائر، على أن نتابعه بقدر أكبر من التفصيل في قادم الأيام.
الصفحة 254 من 859