المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • على هامش المشهد
  • 1339

 

عن الملاحقات البوليسية والقضائية ضد ناشطي حملة الاحتجاج الشعبية في إسرائيل

 

 

"ثمة يدٌ عليا تحرّك الأشياء...

 

وهي ليست خفيّة"!!

 

 

 

*"ملاحقات تنطوي على قمع للحريات الشخصية والديمقراطية وترمي إلى بث رسالة ردع وتخويف لكل مَن ينوي التظاهر والاحتجاج ضد السياسات الحكومية الرسمية"!*

 

 

كتب سليم سلامة:

 

هل يقرر المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية، يهودا فاينشتاين، وضع حد ونهاية لـ "مهزلة" المحاكمات الجنائية بالجملة التي تخوضها الشرطة ضد عشرات الناشطين الاجتماعيين اليهود، وقد تجاوزت خطوطا حمراء خطيرة في منزلق القمع السلطوي للحريات الشخصية والديمقراطية في إسرائيل؟؟ وهل جاء تحرك المستشار القانوني الأخير والمتأخر جدا لتجنيب الشرطة، والحكومة كلها من خلفها، فضيحة قضائية وسياسية وشعبية قد تنتهي إليها أبرز هذه المحاكمات؟؟

 

هذا هو السؤال الذي تترقب أوساط إسرائيلية واسعة، إعلامية وقضائية وسياسية وشعبية، صدور الجواب عنه خلال الأيام وربما الأسابيع القليلة القادمة بعد القرار المرحلي الذي أعلن أن فاينشتاين أصدره أواخر الأسبوع الماضي ويقضي بـ "تجميد النظر في الملفات الجنائية التي قدمت بحق متظاهرين لا ماض جنائي لهم و/ أو العنف المنسوب إليهم ممارسته لا يتعدى سقفا متدنيا" و"إعادة فحص الموضوع، مجددا"!

 

وكان القرار الأخير هذا قد صدر في ختام جلسة خاصة للنظر في هذه القضية عقدت أواخر الأسبوع الماضي في مكتب المستشار القانوني للحكومة في وزارة العدل، بمشاركة ممثلين عن قسم الادعاء في الشرطة وعن النيابة العامة للدولة. ويدور الحديث حول نحو 30 ناشطة وناشطا من اليهود شرعت الشرطة في إعداد وتقديم لوائح اتهام جنائية بحقهم على خلفية مشاركتهم في مظاهرة صاخبة جرت في مدينة تل أبيب يوم 23 حزيران 2012، في إطار محاولة لإعادة نصب الخيام لإحياء "حملة الاحتجاج الشعبية والمطلبية" التي كانت شهدتها إسرائيل في صيف العام 2011. وخلال المظاهرة تلك، وقعت صدامات بين المتظاهرين وقوات الشرطة بعدما أقدمت الشرطة على اعتقال عدد منهم، في مقدمتهم الناشطة دافني ليف، المبادرة إلى حملة الاحتجاج المتجددة.

 

ويقضي قرار فاينشتاين بتجميد وإعادة فحص 30 لائحة اتهام جنائية قدمها قسم الادعاء في الشرطة ضد ناشطي حملة الاحتجاج، وسط معارضة شديدة من جانب الشرطة. وإذا ما استمر تجميد هذه الملفات لمدة سنة واحدة، فسيتم ـ بموجب القانون ـ إغلاقها من دون توفر إمكانية استئناف النظر فيها من جديد.

 

وعلى الرغم من أن لوائح الاتهام هذه قد قدمت قبل أكثر من سنة كاملة، إلا أن المستشار القانوني لم يتدخل بشأنها سوى مؤخرا فقط، بعيد بدء محاكمة الناشطة دافني ليف في أوائل كانون الثاني الأخير في محكمة الصلح في تل أبيب، إذ أعلن فاينشتاين أنه "طلب الاطلاع على مستجدات هذه الملف". وأوضح بيان صدر عن مكتبه، في حينه، أنه فعل ذلك "في أعقاب توجهات تلقاها حول الموضوع"! وفي أعقاب ذلك، عقد فاينشتاين جلسة خاصة مع المفتش العام للشرطة، يوحنان دانينو، فطالبه الأخير بـ "التريث وعدم اتخاذ قرار، ريثما يقوم هو شخصيا بفحص الأمر".

 

ولكن، حين رأى المستشار القانوني للحكومة أن المفتش العام للشرطة "يماطل ويحاول كسب الوقت" ـ كما نقلت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية ـ بادر هو إلى عقد الجلسة الأخيرة، أواخر الأسبوع الماضي، وأصدر قراره المذكور بشأن تجميد النظر في الملفات وإعادة فحصها مجددا. وأشارت وسائل إعلام إسرائيلية إلى أن فاينشتاين "قد ينوي إغلاق هذه الملفات، استمرارا للسياسة الرسمية التي اعتمدت حيال معارضي خطة الانفصال عن غزة"، علما بأن الكنيست الإسرائيلي كان قد سنّ، العام 2010، قانونا خاصا يقضي بشطب وإلغاء أية أحكام جنائية صدرت بحق ناشطي اليمين والمستوطنين الذين تصدوا، بعنف شديد، لعملية "الانفصال عن قطاع غزة".

 

وكان قسم الادعاء في الشرطة قد قدم ما يزيد عن 40 لائحة اتهام بحق ناشطي حملة الاحتجاج الشعبية، لكنه اضطر إلى إغلاق بعض منها في أعقاب نقد لاذع وجهته المحكمة، فيما شطبت من جزء آخر منها بعض بنود الاتهام وأنهتها بصفقات تقضي بـ "عدم الإدانة الجنائية وفرض عقوبة العمل في خدمة الجمهور" على المتهمين فيها. وقد شملت بنود الاتهام في تلك الملفات: الإخلال بالنظام العام، المس بسلامة الجمهور، الاعتداء على رجل شرطة، إهانة رجل شرطة.

 

أما قائدة الحراك الاجتماعي المتجدد، دافني ليف (27 عاما)، فقد وجهت إليها تهم: المشاركة في أعمال شغب، استخدام القوة والتهديد لمنع الاعتقال وإعاقة عمل رجال الشرطة. وهذا، بينما كانت ليف قد تعرضت لعنف رجال الشرطة لدى محاولة اعتقالها ما أسفر عن إصابة في يدها استدعت نقلها لتلقي العلاج الطبي.

 

وكان قسم الادعاء في الشرطة قد حاول التوصل إلى "صفقة" مع ليف تقضي، على غرار ما توصل إليه مع ناشطين آخرين، بفرض عقوبة الخدمة لصالح الجمهور عليها مقابل عدم إدانتها جنائيا، لكن ليف رفضت هذا "العَرض" وأصرّت على مطلبها بشطب لائحة الاتهام وإلغائها، جملة وتفصيلا، وهو ما رفضته الشرطة، بالمطلق. وهكذا، بدأت محاكمة ليف في أوائل كانون الثاني الأخير، وشرعت المحكمة، الأسبوع قبل الماضي، في سماع طعون الطرفين وشهودهما. وقد حددت المحكمة يوم غد الأربعاء لمواصلة النظر في الملف، لكن قرار المستشار القانوني الأخير قد يؤدي إلى تجميد النظر في الملف كليا، حتى صدور القرار النهائي.

 

وادعى ممثلو الشرطة، في معرض عرض لائحة الاتهام وتسويغها أمام المحكمة، بأن دافني ليف "شاركت في أعمال شغب، قادت المتظاهرين الغاضبين وشجعتهم على التصدي لمراقبي البلدية ولرجال الشرطة"!! وبأن "أفراد الوحدة الخاصة لاحظوا أن ليف تقوم بدفع أحد رجال الشرطة فقرروا اعتقالها"، وبأن "المتظاهرين الآخرين، وحين رأوا أفراد الوحدة يقتادون ليف إلى سيارة الشرطة، تصرفوا بهمجية وانقضوا على رجال الشرطة"!! كما ادعت الشرطة، أيضا، بأن ليف والمشاركين الآخرين في المظاهرة الصاخبة في تل أبيب "انتهكوا أمن الجمهور وسلامته على نحو يثير الرعب" بمشاركتهم في مظاهرة ونصب خيام بصورة غير قانونية ومن غير تصريح السلطات المخولة وبأنهم "هاجموا مراقبي بلدية تل أبيب الذين حضروا إلى المكان لتفكيك الخيام، ألقوا عليهم زجاجات فارغة وأغراضا أخرى وانهالوا عليهم بالضرب"!! وأضافت الشرطة، في ادعاءاتها، أن دافني ليف "دفعت شرطيا حين أبلغها بأمر اعتقالها"، ثم "جلست على الأرض وانضم إليها متظاهرون آخرون محاولين منع اعتقالها"!!

 

وفي المقابل، أنكرت دافني ليف هذه الادعاءات، جملة وتفصيلا، وقالت للمحكمة إنه تم اعتقالها "دون أي سبب أو مبرر، ودون أية مقاومة من طرفها"، بل هي التي تعرضت للدفع والضرب من جانب رجال الشرطة "الذين انتهكوا الأصول المرعية في اعتقال النساء"! وقبيل دخولها إلى قاعة المحكمة، قالت ليف: "ينبغي ألا تخيفنا بلطجية شرطة إسرائيل والإجراءات التي تحاول المؤسسة السلطوية اعتمادها لقمع حرية التعبير. إنها محاولة لجعل هذا الحدث عِبرة رادعة لكل من ينوي الخروج إلى التظاهر مستقبلا"!

 

وتكشف ادعاءات الشرطة المذكورة أعلاه عن مدى هشاشة موقفها وروايتها من الناحيتين الجماهيرية والقضائية، وهو ما تبدى، أيضا، في الملاحظات النقدية التي وجهها إليها القاضي، شماي بيكر، خلال المداولات،وخاصة بشأن "جودة البينات والقرائن" التي قدمها ممثلو الشرطة إلى المحكمة. فحين عرضت ممثلة الشرطة أمام المحكمة، مثلا، شريطا مصورا من المظاهرة التي تم اعتقال ليف خلالها يظهر فيه ناشطو حملة الاحتجاج يهتفون: "ديمقراطية"، بينما ليف نفسها لا تظهر فيه، أعرب القاضي عن استهجانه للأمر متسائلا: "لماذا تعرضون هذا الشريط بينما لا تظهر المتهمة فيه إطلاقا؟"!! وأكثر منذ ذلك، تكشف أشرطة مصورة أخرى عرضها ممثلو الشرطة أمام المحكمة تناقضا عميقا وصارخا بين ادعاءات رجال الشرطة وشهودها وبين الوقائع الميدانية، إذ يُظهر أحد هذه الأشرطة انقضاض رجال الشرطة على ليف وإلقاء القبض عليها وسط ممارسة عنف شديد ضدها، خلافا لرواية الشرطة وما تضمنته لائحة الاتهام.

 

ويتعزز هذا التقييم على خلفية ما كانت اعترفت به الشرطة، بعد أيام معدودة من المظاهرة إياها، من أن "اعتقال دافني ليف والناشطين الآخرين، وخاصة العنف البوليسي أمام الكاميرات، كان خطأ عملياتيا"! ونقلت بعض وسائل الإعلام في إسرائيل، يومها، عن "مصادر في الشرطة" قولها إن "الشرطة لم تكن مهيأة لمواجهة ما حصل. فقد فوجئت به ولم تكن لديها تقديرات مسبقة بشأن حجم النشاط ومدى عزيمة المحتجين"!

 

لكن ما ينبغي الانتباه إليه هو أن اعتراف الشرطة هذا ـ ورغم أهميته ـ صدر اضطرارا وتحت ضغط الضجة الواسعة، إعلاميا وشعبيا وسياسيا، التي أثارتها ممارسات الشرطة القمعية ضد المتظاهرين الشباب وفي محاولة منها (الشرطة) لامتصاص الغضب وتنفيس الاستياء. فبالتزامن مع ذلك، طلبت الشرطة من المحكمة تمديد اعتقال بعض الشبان المتظاهرين حتى انتهاء الإجراءات القضائية بحقهم، وهو إجراء استثنائي في تشدده وحدته. غير أن القاضي الذي نظر في الطلب لم يكتف برفضه فقط، بل عمد إلى "التحذير من مغبة المس بحرية التعبير والحق في التظاهر"، مشددا على أن "حرية التعبير والحق في التظاهر هما من الحقوق الأساسية وينبغي الحرص على عدم المس بهما"!

 

ويبدو، من تطورات هذه القضية حتى الآن، أن الشرطة قد تورطت في مسعاها الانتقامي هذا، في محاولتها التعويض عن إخفاقها وترميم هيبتها، من خلال الإصرار العنيد على مواصلة الإجراءات الجنائية بحق ليف، وخاصة بعد فشل محاولات "إقناعها" بالتوقيع على "صفقة" كانت ستشكل، بالنسبة للشرطة، انتصارا لها ولروايتها ولأهدافها، مثلما فعلت مع آخرين من الناشطين الذين قدمت لوائح اتهام بحقهم. وحين فشلت محاولتها تلك، أصرت الشرطة على المضيّ في تقديم لائحة الاتهام، سعيا منها إلى الحصول على الحُكم القضائي الذي تريد ليشكل برهانا على صدق ادعاءاتها ومصداقية ممارستها، من جهة، ورسالة تحذير واضحة ورادعة لكل مَن ينوي الخروج إلى الشوارع للتظاهر مستقبلا، من جهة أخرى.

 

وهذه الرسالة، التي يبدو تماما أن الشرطة تسعى إلى بثها، لا تغيب عن أعين وأذهان أي من المهتمين بهذه القضية وتفاعلاتها وإسقاطاتها، سواء على الصعيد السياسي الداخلي، القضائي والحقوقي، الإعلامي أو الجماهيري. ويجمع هؤلاء جميعا على أن هذه الملاحقات القضائية ضد المشاركين في حملة الاحتجاج، وفي مقدمتهم دافني ليف نفسها، وعلاوة على ما ذكر آنفا بما يتعلق بصورة الشرطة نفسها، مكانتها وهيبتها، ترمي إلى تحقيق أهداف سياسية ـ سلطوية تنسجم تماما مع رؤى وتوجهات الحكومة اليمينية في إسرائيل. ويعتبرها هؤلاء "محاولة سلطوية محمومة لخنق حرية التعبير وتحيل كل مَن يجرؤ على الاحتجاج على السياسات الاقتصادية ـ الاجتماعية الرسمية إلى مجرم"، وتشكل ممارسات الشرطة ـ في إطار الرؤية هذه ـ "محاولة لردع وتخويف المتظاهرين المحتملين مستقبلا"!

 

ورأت إحدى الشابات المشاركات في حملة الاحتجاج، ليئات بيرون (28 عاما)، التي قدمت الشرطة لائحة اتهام بحقها انتهت بـ "صفقة" فرضت عليها في إطارها عقوبة العمل لصالح الجمهور، أنها وزملاءها خرجوا للتظاهر "من أجل دولتنا ومستقبلها، وهذا ما تكافئنا به حكومة إسرائيل... يجعلون الناشطين الاجتماعيين مجرمين، ثم يجرجروننا في المحاكم أشهرا طويلة، بل سنة وأكثر، وحين يبلغون طريقا مسدودا ولا يعرفون كيف ينزلون عن الشجرة التي تسلقوا عليها عاليا، يفرضون علينا عقوبة العمل في خدمة الجمهور، بينما كل ما فعلناه ونفعله هو الخدمة الحقيقية للجمهور... إنه وضع غير معقول ومحزن. وعلى أية حال، نحن لا ننوي الاستسلام، بل سنواصل طريقنا حتى تصبح هذه الدولة أكثر تعقلا"!

 

أما دافني ليف نفسها، فتقول إنه لا يساورها أدنى شك في أن "المسألة هنا هي مسألة الجهاز السلطوي بمجمله" وأن "ثمة يداً عليا تحرّك الأشياء، وهي ليست خفيّة حتى"! وتضيف: "إن نضالنا هذا يخلق شعورا قويا بأننا نكافح هنا من أجل أمور أساسية جدا. إننا نناضل من أجل البقاء ومن أجل الحرية... والأمر الأكثر أهمية الذي أريد إيصاله لجميع أبناء الجيل الشاب، أولئك الذين يراقبون ما يجري لنا، هو: لا تخافوا ولا ترتدعوا عن التعبير عن آرائكم. عليكم أن تحاربوا من أجل مستقبلكم، مهما حاولوا كسركم وحشركم في الزاوية"!

 

أما محامية الدفاع عن ليف، غابي لاسكي، المتخصصة في مجال حقوق الإنسان، فاعتبرت هذه المحاكمات الجنائية، وبضمنها محاكمة ليف، "فضيحة"! مؤكدة أنها لن ترضى بشيء "غير شطب لائحة الاتهام وإلغائها وإغلاق هذا الملف، تماما ونهائيا... فإما أن تقر المحكمة براءة ليف، براءة مطلقة، وإما أن تتراجع الشرطة عن لائحة الاتهام. ولن نقبل بأي تجميد لهذا الملف. لأن أية نتيجة أخرى، خلاف ما ذكر، ستعني عجز أذرع تطبيق القانون في كل ما يتعلق بحماية حرية التعبير والحق في التظاهر"!

 

 

 

 

 

 

 

المصطلحات المستخدمة:

المستشار القانوني للحكومة, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات