في أعقاب قرار المحكمة بشأن وجود خطوط تشابه بين مبادئ حركة إم ترتسو وبين الفاشية
هل يتخلى اليمين الإسرائيلي عن خيار "دعاوى كم الأفواه"؟
*أحد مؤسسي حركة "إم ترتسو" اليمينية المتطرفة وقادتها في السابق: "احتمال قيام قاض في المحكمة المركزية في القدس بإصدار قرار مناوئ لأجندة حقوق الإنسان يضاهي احتمال اعتراف حاخام من غفعات شموئيل (مدينة في وسط إسرائيل تنتمي غالبية سكانها إلى تيار المتدينين الوطنيين اليهود، الذي يشكل تيارا مركزيا بين اليمين المتطرف الإسرائيلي وبين المستوطنين في المناطق الفلسطينية) بزواج من مثليي الجنس"!!*
كتب سليم سلامة:
هل يرتكب نشطاء وقادة اليمين في إسرائيل، عامة، والأجنحة الأكثر تطرفا منه خاصة، أخطاء "فادحة" تجعل السهام، المتعددة والمتنوعة، التي يطلقونها ضد مناوئيهم ومخالفيهم الآراء والرؤى تفعل فعل "البوميرانج" فترتد إلى نحورهم، تنظيمات ومشروعات أيديولوجية وسياسية؟
هذا السؤال يتردد في إسرائيل منذ سنوات عديدة، في النقاشات العامة، على الصعد الفكرية والسياسية والحزبية، على خلفية تكثيف اليمين نشاطاته المختلفة الأوجه والساحات سعيا إلى تكريس تفوقه البرلماني ـ الحكومي وترجمته في تأثيرات وتغييرات جوهرية تفرض أمرا واقعا في الحياة الإسرائيلية العامة وفي وجهات المجتمع الإسرائيلي المستقبلية. ويتعلق هذا السؤال، بكل تفرعاته وتشعباته، بالمفاعيل التي يترتب عنها سعي اليمين المحموم إلى إعادة صوغ المجتمع الإسرائيلي، أيديولوجيا وسياسيا، بكل ما يقوم به من أفعال وممارسات، سواء السياسية منها، الحزبية، أو الاستيطانية، أو الأمنية، أو التشريعية أو سواها.
وقد عاد هذا السؤال ليحتل رقعة مركزية في النقاش الإسرائيلي العام، مؤخرا، على خلفية الدعوى القضائية (الجزائية) التي تقدمت بها حركة "إم ترتسو" اليمينية المتطرفة ضد مجموعة من المواطنين الإسرائيليين المحسوبين على اليسار الإسرائيلي، بادعاء القذف والتشهير بحقها، وما تمخضت عنه هذه الدعوى من نتائج، سواء على المستوى القضائي، الفكري أو السياسي.
وكان قاضي المحكمة المركزية في القدس، رافائيل يعقوبي، قد ردّ في أوائل شهر أيلول الجاري، دعوى القذف والتشهير التي تقدمت بها هذه الحركة، منذ 3 سنوات، ضد ثمانية مواطنين إسرائيليين أنشأوا على شبكة التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" صفحة خاصة أطلقوا عليها اسم "إم ترتسو ("إن كنتم تريدون"، بالترجمة الحرفية) حركة فاشية، فثمة كهذه"!، وهم: روعي يالين، يوفال يالين، عيدان رينغ، نوعام فينر، دافيد ريمز، نوعام ليفنه، طال نيف وآري ريمز. وطالبت "إم ترتسو" المحكمة بتغريم المدعى عليهم وإلزامهم بدفع تعويضات مالية لها بقيمة 6ر2 مليون شاقل.
ويستدل من قراءة في قرار الحكم الصادر عن المحكمة في هذه الدعوى أن الاسم الرسمي الكامل لهذه الحركة اليمينية المعروفة جماهيريا باسم "إم ترتسو" هو: "إم ترتسو ـ إما الصهيونية وإما الفناء"، وهي جمعية مسجلة في إسرائيل، تعرّف نفسها ـ كما ورد في نص القرار، نقلا عن كتاب الدعوى ـ بأنها "حركة مركز لا برلمانية، تنشط لنشر وتعزيز قيم الصهيونية الكلاسيكية في إسرائيل، بروح التيار المركزي في الحركة الصهيونية على مر تاريخها وتعاقب أجيالها، منذ بنيامين زئيف هرتسل. وهي تسعى إلى تجدد الحوار، الفكر والأيديولوجيا الصهيونية المميزة، من أجل ضمان مستقبل الشعب اليهودي ودولة إسرائيل وتعزيز المجتمع الإسرائيلي في مواجهة التحديات الماثلة أمامه".
وقد قرر القاضي رافائيل يعقوبي ردّ الدعوى بخصوص سبعة من الشبان الثمانية (الذين ينتمون، جميعا، إلى اليسار الإسرائيلي)، فيما اعتبر أن ما كتبه الثامن "قد يوحي بأن حركة إم ترتسو تعتمد النظرية العرقية النازية، ولذا يمكن اعتباره تشهيرا" وقرر، بالتالي، تغريم الناشط روعي يالين، الذي أكد أمام المحكمة أنه "يتحمل المسؤولية عن هذا الكلام"!
لكن أبرز وأهمّ ما تضمنه قرار قاضي المحكمة المركزية في هذه الدعوى يتمثل في إقرار المحكمة بأن "ثمة خطوط تشابه معينة بين مبادئ المدّعية (حركة إم ترتسو) وبين الفاشية"! موضحا أن "وجود خطوط تشابه معينة يؤكده، في الواقع، تشديد المدعية على العنصر القومي"، فضلا عما كشفت عنه شهادة تومر بريسكو (الباحث في الديانات، العصر الحديث واليهودية) بشأن المصادر التي ينهل منها مؤسس حركة "إم ترتسو"، رونين شوفال، وتتمثل أساسا في تنظيرات فلاسفة ومفكري الفاشية، كما تصريحات شوفال نفسه، وهو "ما يقدم دليلا على وجود قاسم مشترك معين بين مواقف المدّعية وبين مبادئ معينة في لبّ الفكر الفاشي". ليخلص القاضي، من هنا، إلى القول بأن ما نشر في هذه الصفحة "يندرج في إطار الحقيقة"!
وقد استمعت المحكمة، في إطار النظر في الدعوى، إلى عدد من شهود الدفاع من المفكرين والمثقفين الإسرائيليين البارزين، من بينهم البروفسور زئيف شطرنهيل، أستاذ العلوم السياسية في "الجامعة العبرية" في القدس والحائز على "جائزة إسرائيل" عن أبحاث العلوم السياسية والمتخصص، أساسا، في الحركات الراديكالية والفاشية، الذي قال للمحكمة إنه "يمكن العثور على خطوط تشابه بين حركات فاشية في بدايات طريقها وبين حركة إم ترتسو".
وقدم الصحافي والكاتب رؤوبين (روبيك) روزنطال، الباحث في اللسانيات والمتخصص في علوم اللغة العبرية، في شهادته إلى المحكمة، شرحا مستفيضا عن استخدامات تعبير "فاشية" ودلالاته في النقاش الإسرائيلي العام راهنا، بوجه عام، وفي السياقات السياسية بوجه خاص.
أما شهادة الباحث تومر بريسكو فكشفت عن "محادثة علنية" جرت بينه، شخصيا، وبين رونين شوفال، مؤسس حركة "إم ترتسو" ورئيسها، اعترف خلالها الأخير بأنه "نهل أفكاره من مفكرين وفلاسفة فاشيين، في مقدمتهم الفلسوف الألماني يوهان غوتليف فيخته، الذي شكلت نظريته، لاحقا، قاعدة نمو وانطلاق الفاشية في أوروبا.
وخلال المداولات في الدعوى، اعترف شوفال أمام المحكمة بأن حركته شغّلت محققين خصوصيين لتعقب منظمات إسرائيلية ناشطة في الدفاع عن حقوق الإنسان وجمع المعلومات عنها، مصادر تمويلها، علاقاتها وأنشطتها، نظرا لأنها "مصابة بلوثة معاداة الصهيونية الخفية"! كما اعترف بإرسال محققين خصوصيين إلى مكتب المحامي ميخائيل سفراد، الذي يمثل منظمة "يش دين" لحقوق الإنسان، للحصول على معلومات حول علاقاته وأنشطته!
الخيار القضائي والخسائر
المترتبة عليه!
في ختام قراره، أشار قاضي المحكمة المركزية في القدس، رافائيل يعقوبي، إلى أن كلا الطرفين عبرا عن نيتهما نقل القضية إلى المحكمة العليا، من خلال الاستئناف على قرار المحكمة المركزية، وهو ما أكده لاحقا محامي الدفاع عن حركة "إم ترتسو" المدّعية، نداف هعتسني، الذي اعتبر أن قرار المحكمة المركزية "خاطئ من أساسه ومستهجن جدا، لأنها لم تتطرق، إطلاقا، إلى جزء كبير من القضايا التي طرحت أمامها بصورة مستفيضة، بل تجاهلت الجوانب القانونية الأساسية مما قادها إلى مواقف تمثل خطرا جسيما جدا على الديمقراطية الإسرائيلية. وإذا لم تقم المحكمة العليا بإصلاح الضرر الذي ينطوي عليه قرار الحكم هذا، فستعمّ في إسرائيل حرية الإذلال والتحقير والتشهير التي تبيح التحريض وإقصاء مجموعات بأكملها، بل أكثر وأخطر أنها ستتيح اعتبار أي صهيوني بأنه فاشي"!
أما محامي الدفاع عن المدعى عليهم، المحامي ميخائيل سفراد، فعقب على قرار الحكم بالقول إنه "يمثل، من طرفنا، إنجازا كبيرا جدا. فهذه الدعوى استهدفت كمّ الأفواه وآمل أن يشكل هذا القرار رادعا أمام تقديم دعاوى أخرى مماثلة".
وهذا الرأي، تحديدا، هو ما سجله، تأكيدا، قرار المحكمة ذاتها بتوجيهه نقدا صريحا لمجرد تقديم هذه الدعوى، إذ كتب القاضي يعقوبي: "أعتقد بأنه كان من الأفضل الامتناع عن تقديم الدعوى قيد البحث. إنني أرى إنه من الأجدى إتاحة المجال أمام النقاش المتأتي عن الخلافات القيمية والسياسية الحادة بين المدعية وبين المدعى عليهم، من دون تقييدات غير ضرورية. وعلى هذا، فمن المفضل أن لا يكون هذا النقاش مصحوبا بدعاوى قضائية. فلكي يكون النقاش مثمرا ويقود إلى تحديد الخلافات وتوضيحها، بما يفتح إمكانيات التأثير المتبادل، من المفضل أن لا تتم المطالبة بفرض عقوبات جزائية، حتى في الحالات التي تتضمن أقوالا وتصريحات فظة ولاذعة، بروح تلك التي وردت في هذه الدعوى، كي لا يكون ما يُكتب وما يُقال "نباتيا"، "معقما" وفاقد المغزى والقوة"!
ولم يتردد أحد مؤسسي حركة "إم ترتسو" وقادتها السابقين، ويدعى إيرز تدمور، في التأكيد على خطأ الخطوة التي أقدمت عليها حركته في تقديم هذه الدعوى القضائية وما سيترتب عليها من نتائج، قضائية وسياسية ـ جماهيرية، واصفا القاضي يعقوبي الذي أصدر قرار الحكم بأنه "غبي"!
واعتبر تدمور، في مقال نشره على موقع "ميداه" اليميني، أن تقديم الدعوى القضائية كان خطوة مخطوءة "لأن الدعوى وقعت في مكيدة المدعى عليهم، إذ نقلت الصراع بين الطرفين إلى الساحة القضائية، التي تشكل ملعبا مريحا لليسار"! وأضاف قائلا إنه "بدلا من إجراء النقاش العام في الملعب الجماهيري وأمام الجمهور الواسع، حيث هنالك عشرون مؤيدا لحركة إم ترتسو مقابل كل مؤيد واحد لمنظمة بتسيلم أو لميخائيل سفراد (محامي الدفاع عن المدعى عليهم)، تم وضع الحسم بين يدي الجهاز القضائي، حيث يعرف كل قاض فيه أن ترقيته ومستقبله رهن بأيدي لجنة تعيين القضاة التي يشكلها ثلاثة ممثلين عن الأوليغاركية القضائية المسيطرة على المحكمة العليا. ولذا، فإن احتمال قيام قاض في المحكمة المركزية في القدس بإصدار قرار مناوئ لأجندة حقوق الإنسان يضاهي احتمال اعتراف حاخام من غفعات شموئيل (مدينة في وسط إسرائيل يمتاز غالبية سكانها بانتمائهم إلى تيار المتدينين الوطنيين اليهود، الذي يشكل تيارا مركزيا بين اليمين المتطرف الإسرائيلي وبين المستوطنين في المناطق الفلسطينية ـ س. س.) بزواج من مثليي الجنس"!!
ووجه تدمور، في ختام مقالته، نداء إلى رفاقه في "إم ترتسو" بعدم الوقوع في مطب "إصلاح الخطأ بخطأ أكبر" والامتناع عن تقديم استئناف إلى المحكمة العليا على قرار المحكمة المركزية، بل "العودة إلى إجراء النقاش مع يالين (روعي يالين، أحد أعضاء المجموعة المدعى عليها) وسفراد وأمثالهما في الحلبة التي وجهنا لهم فيها ضربات قاصمة وحققنا عليهم انتصارات كاسحة: الحلبة الجماهيرية"!
الترهيب والردع ـ دعاوى كم الأفواه!
لكن تدمور يتجاهل، في مقالته هذه، الأثر الترهيبي الرادع الذي يسعى قادة وممثلو اليمين، عامة، والمتطرف منه خاصة، إلى تحقيقه ـ ويحققونه، بالفعل، ولو جزئيا ـ من خلال هذه "الدعاوى القضائية بالجملة" التي يتولون تقديمها في السنوات الأخيرة ضد كل من يخالفهم الرأي ويحاول تفنيد حججهم وفضح نهجهم وممارساتهم، في خط متواز ومتناغم، بل تكاملي، مع الفعل التشريعي الذي يتولاه ممثلوهم في البرلمان (الكنيست) من خلال سن القوانين المنسجمة مع هذه التوجهات والأهداف.
فمن اللافت أنه إلى جانب القوانين العديدة التي نجح ممثلو اليمين في الكنيست في تمريرها وسنها خلال السنوات الأخيرة، في مختلف مناحي الحياة في إسرائيل، وخاصة على صعيد العلاقة مع المواطنين الفلسطينيين ومكانتهم وحقوقهم وعلى صعيد حقوق الإنسان والحريات الأساسية في إسرائيل، وفي مقدمتها حرية التعبير، تم خلال السنوات الست الأخيرة تقديم ما لا يقل عن عشرين دعوى قضائية بحجة القذف والتشهير على خلفية التعبير عن مواقف وآراء سياسية تضمنت توجيه نقد لهيئات أو أفراد، جميعها قُدّمت من جانب تنظيمات يمينية ضد تنظيمات يسارية - حسبما أفادت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية (10/9).
ويتمثل الخطر الأول والأبرز الكامن في نهج تقديم "الدعاوى بالجملة" من هذا الطراز في ما تشيعه من أجواء الترهيب والردع التي قد تؤدي إلى كم الأفواه، كبت النقاش، بل قمعه واستئصال فاعليته. وهو ما كان تطرق إليه تقرير خاص وضعته جمعية حقوق المواطن في إسرائيل حول الموضوع وأطلقت في على هذه الدعاوى اسم "الدعاوى الكاتمة"، التي يتمثل جوهرها في "كتم النقد الجماهيري العام، بواسطة تنظيمات تجارية أو سياسية"!
ويؤكد سكرتير حركة "السلام الآن"، ياريف أوبنهايمر، الذي كان أحد ضحايا "الدعاوى الكاتمة"، مفعول هذا النهج وتأثيره بالقول إنه "تكتيك واضح جدا..... إنهم يدفعون الإنسان إلى التفكير مرتين قبل أن يجرؤ على البوح برأيه"!