المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

* الدكتور أمنون راز- كركوتسكين، المحاضر في جامعة بئر السبع والمتخصص في التاريخ اليهوديّ، في لقاء مطوّل مع "المشهد": اليهود أتوا إلى البلاد بسبب كونهم ضحايا أوروبا لكن بدل أن يطوروا موقفا نقديا ضد أوروبا طوروا موقفا مطلقا في تماثله مع الغرب * إسرائيل ترفض إجراء مفاوضات جادة وحقيقية مع الفلسطينيين اليوم *

أجرى اللقاء: بلال ضاهر

يعتبر الدكتور أمنون راز- كركوتسكين، المحاضر في جامعة بئر السبع والمتخصص في التاريخ اليهوديّ، واحدًا من أكثر المثقفين الإسرائيليين تضامنا مع الشعب الفلسطيني وقضيته ومعارضة للاحتلال.

في هذا اللقاء المطوّل مع "المشهد الإسرائيلي" قال راز- كركوتسكين إنه في أعقاب الأحداث الأخيرة في قطاع غزة والاقتتال الفلسطيني الداخلي "أشعر بالذنب، لأن هناك مقاطعة كاملة ضد الشعب الفلسطيني منذ الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة. وما حصل هو أننا، وأقصد معسكر اليسار في إسرائيل والعالم وفي فلسطين أيضا، لم نفعل شيئا ولم نطالب بإلغاء المقاطعة على السلطة الفلسطينية والاعتراف بالحكومة، وبصمتنا أفسحنا المجال لما حدث في القطاع مؤخرًا. والمفارقة هنا هي أن الجميع يندّد بمقاطعة نقابات ومنظمات بريطانية لإسرائيل، لكن لا أحد يتحدث عن المقاطعة الفعلية والخطيرة ضد الشعب الفلسطيني".

(*) "المشهد الإسرائيلي": كيف ينظرون في إسرائيل إلى ما يحدث في الأراضي الفلسطينية؟

راز- كركوتسكين: "ما يمكن قوله في هذا الصدد هو أننا نرى اليوم كل المحللين الإسرائيليين سعداء، ويعتبرون أن هذا الوضع سيبقى في المستقبل أيضا. لكننا ندرك ما هي مشكلتهم حيال شعار انسحاب إسرائيل إلى حدود العام 1967. فهناك فرق بين المطالبة بقيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع وبين الانسحاب لحدود 67. لأنه حتى الآن، وعلى الأقل في السنوات الأخيرة، لم يطرح أحد في إسرائيل تنفيذ انسحاب والعودة لحدود 67. البعض يعتقد أنه قبل الاحتلال في حرب الأيام الستة كان الوضع جيدا وهذا غير صحيح. فقبل هذه الحرب كان الشعب الفلسطيني مفرقا وأجزاؤه منفصلة عن بعضها البعض. وبعد الاحتلال جرى ربط أجزاء الشعب الفلسطيني مجددا، باستثناء اللاجئين طبعا، فهناك الفلسطينيون داخل إسرائيل والفلسطينيون في الضفة والفلسطينيون في القطاع وجميعهم داخل فلسطين التاريخية. وما يجري الآن هو محاولة متجددة لتفكيك الفلسطينيين كشعب بشكل كامل، من خلال فصل القطاع عن الضفة. وهذه محاولة إسرائيلية بارزة".

(*) هل هذه سياسة إسرائيلية مقصودة لتفكيك الشعب الفلسطيني؟

راز- كركوتسكين: "هذا حلم ولا أعرف إذا تم التخطيط له، فأنا لا أعتقد أنهم أذكياء لهذا الحد. رغم ذلك فإن هذا ما هو حاصل في نهاية المطاف. ونحن نرى الآن توجها إسرائيليا لإحداث فصل تام. بل إن هذا الفصل بين القطاع والضفة قائم منذ سنوات، والفلسطينيون لا يمكنهم التنقل بين الضفة والقطاع. وهناك سجن كبير في القطاع، وهناك غيتوات في الضفة. والاعتبار الأساس بالنسبة لإسرائيل هو نفي وجود قومية فلسطينية. إسرائيل مستعدة لمنح حقوق محدودة لمجموعات فلسطينية مختلفة وغير مترابطة، شرط ألا يتحدثوا عن حقوق الفلسطينيين الجماعية. ولذلك فإن ثمة أهمية للنضال الوطني الفلسطيني، وبرأيي هو هام ليس للفلسطينيين فحسب وإنما ليهود إسرائيل أيضا".

(*) لماذا؟

راز- كركوتسكين: "لأنه لا يمكنك الحديث عن الحقوق في هذه البلاد للمدى البعيد إلا إذا اعترفنا بوجود كيانين قوميين من خلال المساواة والعدل، رغم أنهما ليسا متجانسين بأي شكل. ولذلك فإني اعتقدت طوال الوقت أن الإطار لأي حوار وأي اتفاق، بما في ذلك قيام دولتين وهو حل يبدو أبعد ما يكون عن الواقع، هو إطار التفكير الثنائي القومية. ونحن نتحدث عن إسرائيل وكأنه لا يوجد احتلال ونفرق بين إسرائيل والاحتلال. وكأن هذين هما موضوعان مختلفان. وعندما نراجع الوثائق الأخيرة التي طرحها الفلسطينيون في إسرائيل نرى أنها، باستثناء وثيقة حيفا، تتحدث وكأن الاحتلال انتهى أو يمكن الحديث عن إسرائيل بمعزل عن الاحتلال. وهذه مفارقة. الحقيقة هي أنه منذ نهاية الحكم العسكري، الذي كان مفروضا على الفلسطينيين في إسرائيل، في نهاية العام 1966 وحتى حرب 67، وهي فترة ستة أشهر، كانت الأشهر الوحيدة في الستين سنة الأخيرة التي لم تمارس إسرائيل فيها قوة عسكرية مباشرة ضد فلسطينيين".

قيام الدولتين يعني نهاية الاحتلال وليس نهاية الصراع

(*) هل الصراع الإسرائيلي- فلسطيني، والصراع الإسرائيلي- العربي عموما، قابل للحل؟

راز- كركوتسكين: "بالتأكيد قابل للحل. لكن السؤال هو ما الذي يجب أن يحدث للتوصل إلى اتفاق يستند إلى اعتراف متبادل".

(*) أنت تتحدث عن تسويات وليس عن حلول.

راز- كركوتسكين: "أنا كمؤرخ لا أحب الحديث عن حلول. وهناك سجال دائر الآن بين مؤيدي حل الدولة الواحدة ومؤيدي حل الدولتين. وهذا السجال دائر في الوقت الذي فيه كلا الحلين غير قابل للتنفيذ. وبرأيي أنه يمكن التوصل لحل من خلال الاعتراف بالمساواة بين الإسرائيليين والفلسطينيين وبحقوق الفلسطينيين. نحن ننشغل عادة بحقوق الفلسطينيين وهذا أمر طبيعي لأن هناك اعتداءات على حقوق الفلسطينيين. لكن فكرتي تقول إنه من أجل التوصل إلى حل يجب التحدث عن حقوق اليهود. لكن لا أحد يبحث في حقوق اليهود في البلاد. ولا أحد يبحث أيضا في التعريف الأساس لإسرائيل الذي يستند إلى نفي القومية الفلسطينية. وهذا يعني رفض الهوية والرواية والحقوق الفلسطينية، رغم أنه لا يتوجب أن تكون محل اعتراض. فلا يمكن لأحد رفض حقوق الشعب الفلسطيني في وطنه بما في ذلك حق العودة. لكن من أجل تطبيق هذه الحقوق يتوجب عليك البحث في حقوق اليهود، لأنه توجد هنا مجموعة سكانية يهودية. وليس لدى هذه المجموعة اليهودية مكان آخر تذهب إليه. ولذلك فإن السؤال هنا هو كيف يمكننا أن نعرف من جديد الوجود اليهودي".

(*) وما هي حقوق اليهود؟

راز- كركوتسكين: "حتى لو أننا نتحدث عن مجموعة سكانية قامت على أساس استعماري، فإنه توجد لليهود هنا حقوق. لكن من أجل تطبيق هذه الحقوق، فإنه يتعيّن على المجموعة السكانية اليهودية أن تسير في اتجاه معاكس للاتجاه الذي تسير فيه اليوم. المجموعة اليهودية تؤسس حقوقها الآن إما على حق ديني غيبي أو على المحرقة، وفي كلتا الحالتين تعتمد المجموعة اليهودية على الغرب، مثل وعد بلفور والقوى الاستعمارية... والوحيدون الذين يمكنهم منح اليهود حقوقا بشكل ملموس هم الفلسطينيون".

(*) لكن الفلسطينيين لا يمكنهم منح حقوق لليهود؟

راز- كركوتسكين: "صحيح أنه يتعيّن على الفلسطينيين أن يناضلوا اليوم من أجل الحصول على حقوقهم. لكن من الناحية النظرية، ومن أجل أن يكون هناك حل فإنه يتوجب منح حق تقرير المصير لليهود الإسرائيليين. وهذا يعني أن نطلب نحن اليهود حقوقنا من سكان وأصحاب هذه البلاد. وهنا علينا تحمل المسؤولية الكاملة عن دمار فلسطين. وعندها يمكن طرح السؤال حول كيف يمكن أن يتواجد كلا الشعبين في هذه البلاد على أساس المساواة المدنية. وهذا تنازل من وجهة النظر الفلسطينية، لأنه يلزم بالاعتراف بالوجود الإسرائيلي".

(*) ما هي حقوق اليهود الإسرائيليين؟

راز- كركوتسكين: "إن التسوية التي على الفلسطينيين الموافقة عليها، بنظري، هي الاعتراف بوجود مجموعة سكانية يهودية. غير أن الفلسطينيين والإسرائيليين يعيشون في قطبين متنافرين. وهذا يعني إما التسليم بإسرائيل كما هي، أي دولة عظمى إقليمية، أو أن على إسرائيل أن تزول. وعلينا أن نجد الحيز بين هذين القطبين. أي أن يكون هناك وضع ندرك فيه أن إسرائيل قائمة فعلا، وأنه يوجد هنا كيان يهودي، قسم من سكانه جاؤوا إليه كلاجئين، وهذا بحد ذاته لا ينتقص من حقوق آخر لاجئ فلسطيني. لكن لا يمكن قبول التعريف الحالي لإسرائيل ومطالبتها بسيادة كاملة على البلاد. ويكون للكيان اليهودي حق بالوجود فقط في حال اعترف بالحقوق القومية للشعب الفلسطيني. وهذه الحقوق تشمل اللاجئين الفلسطينيين وأيضا سكان مدينة سديروت".

(*) لكن الفلسطينيين اعترفوا بإسرائيل؟

راز- كركوتسكين: "لقد اعترف الفلسطينيون أكثر مما ينبغي بإسرائيل. وهذه هي مشكلة أوسلو. وأنا لا أوافق على ذلك، لأن أساس اتفاق أوسلو افتقر للأمر الأهم وهو الاستناد إلى مساواة قومية. لذلك أقول إن الفلسطينيين اعترفوا بأكثر مما ينبغي، أي اعترفوا بإسرائيل من دون شرط. فقد وافقوا على أنه مقابل حكم ذاتي محدود في الأراضي الفلسطينية يتنازل الفلسطينيون عن الرواية الفلسطينية. هكذا نظر الإسرائيليون إلى أوسلو. وأنا أتحدث عن ثنائية القومية ليس من خلال دولة واحدة حصرا، بل أتحدث عن ثنائية القومية كمبدأ للمساواة. ومبدأ المساواة، القومية والمدنية، هو الأساس لأي إطار قد يتم الاتفاق عليه، حتى لو كان ذلك من خلال دولتين. فقيام الدولتين يعني نهاية الاحتلال وليس نهاية الصراع. وإذا كنا نتحدث عن دولتين يفصل بينهما السور فإن هذا أسطع دليل على أننا لسنا بصدد حل، كذلك الأمر إذا كنا نتحدث عن انفصال. والوهم الذي يعيش فيه اليسار الإسرائيلي، بأن يتم تنفيذ انسحاب جزئي من الأراضي الفلسطينية المحتلة، هو أمر لا يمكن للعقل أن يقبله. إن وهم اليسار الإسرائيلي هو أنه يتوجب الانسحاب من الأراضي الفلسطينية من أجل التخلص من الفلسطينيين. لذلك فإننا نسمع يوسي بيلين يتحدث عن وجوب التوصل إلى اتفاق من أجل الحفاظ على الأغلبية الديمغرافية اليهودية في إسرائيل. أي أن السبب الوحيد للسلام في نظر إسرائيل هو عنصري. وهذا يعني أن مفهوم السلام لدى إسرائيل يحوّل الفلسطينيين إلى أعداء. وهذه حالة مستحيلة. وكل حديث اليسار الإسرائيلي عن السلام عبر الفصل بين الشعبين يقود إلى انفجار. علينا أن نلتفت إلى أن هذا طرح اليسار وليس اليمين. ومن يحرض ضد الجمهور العربي هم من اليسار. ومن يميز بين العرب الجيدين والعرب السيئين هم من اليسار. والشخصيات اليسارية هي التي بدأت حملة التحريض ضد عزمي بشارة وحزب التجمع الوطني الديمقراطي. من جهة أخرى فإن الإسرائيليين يعتبرون أي حديث عن مساواة وثنائية قومية على أنه حديث ضد وجود إسرائيل، ولذلك يعارض الإسرائيليون مبدأ المساواة وثنائية القومية".

لا مكان لدولة يهودية

(*) أنت إذًا ترفض فكرة وجود دولة يهودية؟

راز- كركوتسكين: "بالتأكيد. لا مكان لدولة يهودية. يمكن الحديث عن حق تقرير المصير لليهود الإسرائيليين في سياق شامل. يمكن الحفاظ على سيادة يهودية معينة، لكن الموافقة على فكرة دولة الشعب اليهودي تعني الموافقة على رفض وجود حقوق للشعب الفلسطيني وعلى أن لكل يهودي في العالم حقًا في البلاد أكثر من أي فلسطيني يعيش في هذه البلاد. وهذا غير مقبول بتاتا. وبرأيي يمكن الموافقة على هجرة يهود إلى إسرائيل لكن هذا يجب أن يتم بعد تطبيق حق العودة للفلسطينيين. الآن، وبعد كل ما قلته، فإن إسرائيل تواجه أزمة. فمن جهة هي الأقوى في المنطقة... قوة عظمى تعتمد على سلاح نووي، لكنها، من الجهة الأخرى، تخاف من عدم استمرار وجودها".

(*) في هذه الأيام تصادف الذكرى السنوية الأربعون لحرب 67 واحتلال الأراضي الفلسطينية والسورية. كيف ترى تأثير هذه الحرب ونتائجها على إسرائيل؟

راز- كركوتسكين: "لا توجد إسرائيل خارج سياق الاحتلال... أي لا توجد إسرائيل أخرى. هذه هي إسرائيل. بعد حرب 67 لم يطرأ تغير كبير على إسرائيل. وبنظرة تاريخية فإن 67 كانت استمرارا لما جرى في العام 1948. ومنذ العام 67 تنظر إسرائيل إلى الأراضي الفلسطينية نظرة مزدوجة متناقضة. فعندما يتم الحديث فقط عن الأراضي الفلسطينية، فإن هذا يساعد إسرائيل على تطبيع أراضي ال48، لأنه إذا كانت القضية هي حل ما جرى في العام 67 فقط فإن هذا يبرر ما جرى في العام 48. وحتى لو انسحبت إسرائيل من كل الضفة والقطاع، فإنها عززت مكانتها في أراضي ال48. وهذا ما تطالب به إسرائيل في عملية سلام. وهي مستعدة للاعتراف بحكم ذاتي فلسطيني ولكن ليس بسيادة مطلقة. وعلينا أن نذكر أنه منذ الاحتلال في 67 وحتى سنوات التسعين، وخصوصا حتى اتفاق أوسلو، شمل نظام الاحتلال نوعا ما من المسؤولية. أي أنه لم يكن بإمكانه تقييد حقوق الفلسطينيين بالكامل، وكان بإمكان الفلسطينيين من الضفة والقطاع العمل في إسرائيل والتجول فيها وكانت البلاد مفتوحة. بالطبع كان هناك نضال ضد الاحتلال وكان هناك قمع إسرائيلي وكانت هناك مصادرة أراض وبناء مستوطنات، لكن كانت للفلسطينيين حقوق تحت الاحتلال. لكن منذ العام 1993 بدأ العمل بموجب نظام جديد، هو نظام السلام. ونظام السلام هذا أسوأ بكثير لأنه يشمل حصارا مطلقا وحظرًا للحركة. كما أن إسرائيل سمحت لنفسها، بعد أوسلو، باستخدام وسائل وحشية مضاعفة لقمع النشاط الفلسطيني، لأن الفلسطينيين ليسوا تحت الاحتلال وإنما أصبح تعريفهم على أنهم دولة عدو منذ الانتفاضة في العام 2000. وبالنسبة لإسرائيل فإن الاحتلال انتهى. هكذا فهموا أوسلو في إسرائيل".

(*) من جهة أخرى يبدو الوضع الآن وكأننا جميعا، العرب واليهود، نعيش في كيان ثنائي القومية واحد بين النهر والبحر، لكنه كيان يحكمه نظام تفرقة عنصرية ضد الفلسطينيين.

راز- كركوتسكين: "تماما. الآن نحن دولة أبرتهايد واحدة. وهذه دولة توجهها نقطة أساسية وهي التمييز بين اليهود والعرب. وواضح أن التمييز حاصل في الأراضي المحتلة وفي كل المجالات. والمطالبة بحقوق اليهود أصبحت تعني رفض وجود حقوق للفلسطينيين. ولذلك فإن هذه ليست مجرد دولة أبرتهايد وإنما هي دولة أبرتهايد لا تعترف بالقومية الفلسطينية. ومن هذا الوضع نبدأ بالتحرك بالمطالبة بوقف نظام الأبرتهايد. لكن ثمة فروق بين جنوب أفريقيا وفلسطين، وأحد أهم هذه الفروق هو أنه في جنوب أفريقيا كانت هناك رؤيا بشأن وجود أمة واحدة مشتركة. لذلك فإن النضال ضد الأبرتهايد كان نضالا من أجل الديمقراطية. في فلسطين لا توجد رؤيا لدولة مشتركة ولذلك فإن رؤيا ديمقراطية لا يمكنها أن تصمد الآن. ولذلك فإننا ملزمون في فلسطين بإدخال مبدأ الثنائية القومية، أي المساواة القومية، وبعد ذلك يكون بالإمكان التوصل لاتفاقات متنوعة. والمسألة الآن هي شكل النضال وليس الحل. والحلول التي يطرحها أكاديميون وسياسيون هي هراء. مثلاً منذ توقيع اتفاق جنيف (المقصود مبادرة جنيف التي وقعها سياسيون إسرائيليون وفلسطينيون) أصبح العالم يتعامل مع الصراع وكأن هناك حلا".

(*) هل تتوقع حلا وفق شعار "دولتين للشعبين"؟

راز- كركوتسكين: "إذا كان الحديث عن حل الدولتين جديا فإن الفرق بين قيام دولتين أو دولة واحدة ثنائية القومية ليس جديا. حتى الدولتان هما أمر واحد. فلنفترض أنه ستكون هناك دولتان. عندها سيتحتم عليهما التوصل لاتفاقيات حول المياه، وهذا اتفاق ثنائي القومية. لا يمكن هنا بناء دولتين يفصل سور بينهما. وعندما ندرك أن النظام هنا هو نظام أبرتهايد فإنه يتحتم أن نفهم بأن علينا معارضة المبدأ الأساس لعملية السلام وهو مبدأ الفصل. ولذلك فإن ثنائية القومية ليست بالضرورة ضد الدولتين ولكنها ضد الفصل. من جهة ثانية نشأت هنا كراهية كبيرة بين اليهود والعرب. وربما الوضع يحتم فصلا معينا في مرحلة أولى".

(*) أنت تعتبر إذن أن جدار الفصل العنصري الذي تبنيه إسرائيل في الضفة ومحاصرة الفلسطينيين داخل غيتوات في الضفة والحصار على القطاع لن يعود بأية فائدة على إسرائيل في المستقبل.

راز- كركوتسكين: "نعم. لكن من أجل ألا تنجح كل هذه المشاريع والممارسات يتوجب محاربتها. ربما هذه الممارسات لن تنجح ولكنها قد تؤدي أيضا إلى دمار مشترك. ولهذا فإن الدمار أيضا قد يكون ثنائي القومية. وعلينا أن نذكر أن أحد التهديدات التي تشعر بها إسرائيل منذ تأسيسها هو وجود خراب. هذه إحدى مميزات إسرائيل. فهي تشعر بأنها مهددة دائما. وبقدر ما تنفي ذلك فإن ذاكرة إسرائيل تشمل لاجئين. وعندما أعلن ايهود باراك في كامب ديفيد 2000 بأنه لا يوجد احتمال للتوصل إلى حل مع الفلسطينيين، بدأ الإسرائيليون فورًا يتخيلون وصول أربعة ملايين لاجئ فلسطيني إلى البلاد. إنهم يموتون خوفا من هذا وإسرائيل موجودة في حالة ذعر. لكن المشكلة أن إسرائيل تملك قنبلة نووية. وليس هذا فحسب، فالإستراتيجية النووية الإسرائيلية تسمى بإستراتيجية شمشون، أي عليّ وعلى الفلسطينيين (المثل يقول: علي وعلى أعدائي). أي أنه واضح لإسرائيل بأن استخدام سلاحها النووي سيؤدي إلى القضاء على الذات أيضا، لكن هذا يتم بعد أن تقضي على المنطقة كلها. ولذلك فإن الوضع خطير، وعندما نتحدث عن إلغاء نظام الأبرتهايد فإنه يجب أن يترافق ذلك مع نزع سلاح إسرائيل النووي وفي الوقت ذاته الاعتراف بإسرائيل".

لدى إسرائيل وعي ومنظور استعماريان حتى اليوم

(*) لقد قُلت إن إسرائيل لا تعترف بالحركة الوطنية الفلسطينية. هل ترى أن الحركة الصهيونية هي حركة استعمارية وأن إسرائيل هي وليدة استعمار؟

راز- كركوتسكين: "لا شك في ذلك، لكن هذا ليس كافيا. فقد قامت إسرائيل على أساس استعماري بريطاني، أي وعد بلفور، وليس بموجب طلب من سكان البلاد. ولو أن إسرائيل قامت وفقا لمفاوضات مع القيادة الفلسطينية التي كانت في البلاد، ربما لم تكن استعمارية. ولدى إسرائيل وعي ومنظور استعماريان حتى هذا اليوم. وهذا يستند إلى تماثل الإسرائيليين الكامل مع أوروبا ضد الشرق والإسلام والعالم العربي. وإسرائيل تعرف نفسها على أنها قوة استعمارية. وإسرائيل هي ظاهرة استعمارية. وهذا برأيي أمر لا يمكن أن يكون محل خلاف. لكن من داخل هذه الظاهرة الاستعمارية انبثقت مجموعة سكانية، جزء منها هم لاجئون. والمفارقة هنا هي أن هذه الحركة الاستعمارية ناشئة عن مجموعة- أي اليهود - كانت تتعرض للقمع في الغرب، وهو قمع استعماري في جوهره. لقد جاء اليهود إلى البلاد بسبب كونهم ضحايا أوروبا، لكن بدلا من أن يطوروا موقفا نقديا ضد أوروبا طوروا موقفا مطلقا في تماثله مع الغرب. واليوم تقف إسرائيل في مقدمة جبهة الاستعمار الأميركي الحديث في صراعه ضد الشرق. والسؤال برأيي هو كيف يمكن تصفية احتلال اليهود في إسرائيل. لأن تصفية الاحتلال في حالتنا هي ليست فقط انسحاب إسرائيل من الضفة والقطاع، وإنما هي أيضا تغيير الهوية الإسرائيلية واستحداث هوية يهودية تستند ليس إلى الاعتراف بحقوق الفلسطينيين فحسب وإنما تتطلع لأن تكون جزءا من المنطقة، وليس ضد المنطقة بكل تأكيد. وطالما أن إسرائيل تعتبر نفسها قاعدة للغرب ضد العالم العربي فإنه لن يكون هناك أي تغير. وبالمناسبة، أنا أعتقد أن على إسرائيل تصفية الاحتلال من دون أي شرط، أي من دون مطالبة الفلسطينيين بأن ينفذوا أي شيء وأية خطوات. وبعد تصفية الاحتلال يمكن لإسرائيل أن تطالب الفلسطينيين بالاعتراف فيها".

(*) فلنعد إلى واقعنا اليومي وما يسمى بـ"العملية السياسية". هل تعتقد أن إسرائيل ستترك مسار المفاوضات أو الاتصالات مع الفلسطينيين لصالح مسار مفاوضات مع السوريين؟

راز- كركوتسكين: "أعتقد أنه لا يمكن التنبؤ بما ستفعله إسرائيل في هذا السياق لأن الأمور تتغير كل يوم. لكن الحقيقة هي أن إسرائيل تركت المفاوضات مع الفلسطينيين. وجدير بنا أن نتذكر هذا. لقد خرجت إسرائيل من المفاوضات مع الفلسطينيين بشكل فعلي منذ العام 2000. والمفاوضات الوحيدة الجارية مع الفلسطينيين هي في إطار مطالبة الفلسطينيين بأن يتحملوا مسؤولية النظام والأمن على الإسرائيليين. لا توجد مفاوضات مع الفلسطينيين. ولم تكن هناك أية مفاوضات مع الفلسطينيين لدى تنفيذ فك الارتباط من قطاع غزة، التي شكلت أساسا لما يحدث اليوم. بل إن إسرائيل ترفض إجراء مفاوضات جادة وحقيقية مع الفلسطينيين اليوم. من جهة ثانية فإني أعتقد أن إسرائيل ليست جاهزة وليست ناضجة لإجراء مفاوضات مع سورية. وأعتقد أنه علينا أن نكون متشائمين في المدى القريب. وإسرائيل في الوقت الراهن، وخصوصا لأنها ضعيفة، لن تتجه لإبرام اتفاقيات سلام. وهناك حاجة لإجراء مفاوضات مع سورية لكني لا أرى، الآن، وضعا تنسحب فيه إسرائيل من هضبة الجولان. فأنا لا أرى القيادي الإسرائيلي القادر على الانسحاب من الجولان. ربما (رئيس حزب الليكود) بنيامين نتنياهو سيكون قادرا على الانسحاب من الجولان. لأنه إذا قرر اليمين الانسحاب فإنه يمكنه تنفيذ ذلك ولا أحد غير اليمين. من جهة أخرى، ثمة مصلحة إسرائيلية بالتقارب مع سورية. لكني اليوم، وخلافا للماضي، لا أرى أن سورية ستقدم على إجراء مفاوضات منفصلة مع إسرائيل. ومطلب إسرائيل اليوم للتفاوض مع سورية غايته نفي وجود قومية فلسطينية. لذلك فإن المصلحة الإسرائيلية اليوم لإجراء مفاوضات مع سورية هي دمج سورية في النظام العالمي الأميركي الجديد".

حرب لبنان الثانية هي مبادرة إسرائيلية أميركية

(*) هل الإدارة الأميركية قادرة على إرغام إسرائيل على تنفيذ خطوات سياسية؟

راز- كركوتسكين: "نعم، بالتأكيد. إن الإدارة الأميركية قادرة على إرغام إسرائيل على تنفيذ خطوات سياسية وغير سياسية. وقد سمعنا في العام الأخير الكثير من الأصوات تتعالى في إسرائيل وتطالب بالتفاوض مع سورية، أكثر من الأصوات في الولايات المتحدة. ولا أرى إمكانية للتوصل لاتفاق لا يكون شاملا".

(*) هل قرارات إسرائيل فيما يتعلق بالسلام والحرب هي قرارات إسرائيلية صافية أم أن هناك تأثيرا أميركيا عليها؟

راز- كركوتسكين: "في هذه الفترة، أي في فترة حكم بوش، يكاد لا يكون هناك فرق. وإسرائيل الآن هي إحدى السلطات في الولايات المتحدة، خصوصا في النقاش الحاد الدائر بين وزارة الخارجية الأميركية والبنتاغون. ومن هنا أرى أن حرب لبنان الثانية هي مبادرة إسرائيلية أميركية. فالولايات المتحدة تسعى للقضاء على حزب الله وإسرائيل تؤدي دورا هاما في هذا الخصوص. وهذا واضح للغاية لدى القيادة الإسرائيلية. ولذلك يريدون حربا أخرى من أجل إعادة رفع أسهم إسرائيل التي انخفضت أثناء الحرب. وقد تحولت إسرائيل إلى ذراع أميركي واضح".

(*) وهذا يفسر سبب إعلانها الحرب على لبنان من دون أن يكون الجيش الإسرائيلي مستعدا للقتال؟

راز- كركوتسكين: "نعم، لكن إسرائيل اعتقدت أيضا أن مستوى جهوزية جيشها كاف لضرب حزب الله. فقد اعتقدوا أنهم سيدمرون قوة حزب الله من الجو وخلال ثلاثة أيام. ولذلك سمحوا لأنفسهم باقتراف جرائم الحرب الأكثر وحشية. وقد ساعد على تنفيذ هذه الجرائم، وبهذه الشدة، التقارير التي نشرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية قبل الحرب حول تزايد قوة حزب الله وأنه يخزّن أسلحة وما شابه. ولا أحد حذر قبل حرب لبنان من أن إسرائيل غير قادرة على هزم حزب الله. وحقيقة هي أنه عندما شنّت إسرائيل هذه الحرب جرى ذلك بحماس بالغ من جانب قادة الجيش ووسائل الإعلام. وبعد انتهاء الحرب بدأ الإسرائيليون ينتظرون الحرب المقبلة، إذ أنه لا توجد توقعات في إسرائيل باستثناء انتظار الحرب المقبلة، خصوصا أن الحرب الأخيرة كانت فاشلة. وهذا التوجه يسري أيضا على الساحة الفلسطينية. فعندما يقولون في إسرائيل إن قوة حماس تتعاظم وكذلك قوة الجهاد الإسلامي، وعندما يقولون إن عناصر من تنظيم القاعدة دخلت للقطاع، فإن إسرائيل تهدف من وراء تقارير كهذه لأن تبرر هجوما كاسحا ضد قطاع غزة في الفترة المقبلة".

(*) أنت تتوقع إذا اندلاع حرب أخرى في المنطقة.

راز- كركوتسكين: "أعتقد أنه من أجل منع وقوع حرب أخرى يجب أن يحدث تغيير عميق في إسرائيل. من جهة أخرى فإن إسرائيل لا تريد حربا شاملة، لأنه لا توجد لديها قدرة على الصمود. إذا تمت مهاجمة سورية فسترد هذه بمهاجمة تل أبيب. وهذه الفقاعة المسماة تل أبيب تسير الحياة فيها كما لو أنها تقع في قلب أوروبا، علما أنها المدينة الوحيدة في الغرب التي لا يوجد فيها عرب. وفي حال تمت مهاجمة تل أبيب فإن ما سيحدث عندها هو نزوح إلى خارج البلاد بما في ذلك لرؤوس الأموال. إسرائيل تخشى هذا السيناريو ولذلك فإنها ستفعل كل ما في وسعها لمنع نشوب حرب شاملة".

(*) هل يمكن لمبادرة السلام العربية، التي رحب بها رئيس الحكومة الإسرائيلية، ايهود أولمرت، أن تشكل مخرجا لإسرائيل من وضع كهذا؟

راز- كركوتسكين: "لا. لأن إسرائيل تريد أن تجري تعديلات على المبادرة. فهي تريد أن يتنازل الفلسطينيون عن حق العودة للاجئين وأن يقبلوا بالمستوطنات وأن يعترفوا بإسرائيل على أنها دولة الشعب اليهودي. وهذا مستحيل طبعا. وإسرائيل تتفحص هذه المبادرة لكنها تريد إفراغها من مضمونها. لكن إذا وافقت إسرائيل على المبادرة من دون شروط مسبقة فإننا ربما نرى بداية عملية سياسية جديدة. في هذا السياق بودي القول إن هناك الكثير من الإسرائيليين الذين يرون أن إسرائيل قوية اليوم ولكنها لن تبقى كذلك في المستقبل وإذا لم تحظ إسرائيل باعتراف العرب فإنها لن تبقى".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات