المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

استطاع رئيس الحكومة الإسرائيلية أريئيل شارون أن يحوّل خطة فك الارتباط إلى مركز النقاش السياسي الدائر في إسرائيل، وأصبحت "يهودية" الدولة ذريعة مركزية لقبول الخطة مقابل الرأي الإسرائيلي النقيض لها ومقابل بؤرته الأساسية وهي عدم التنازل عن أرض إسرائيل الكبرى.

وقد قسّمت خطة شارون الانفصالية من جانب واحد الشارع الإسرائيلي إلى قسمين، مؤيد ومعارض، وانعكست آراء الشارع حتى داخل مركز حزب الليكود الذي أصبح مهددا بالانشقاق إلى ليكودين، ليكود شارون وليكود بنيامين نتنياهو الذي يقود الجناح الأكثر تطرفا في الليكود.

واجتهد كتاب الرأي في تعداد وتحليل أهداف وأبعاد "خطة الانفصال"، فتحمس لها الكثيرون وحذرت منها قلة قليلة، واختلفوا فيما بينهم على أسباب إطلاق الخطة منذ أن طرحها لأول مرة في مؤتمر هرتسليا في ديسمبر 2003 ومنذ أن عدّد بنودها لأول مرة أمام يوئيل ماركوس الصحفي في "هآرتس" في فبراير 2004، وقد اعتبرها البعض تنفيذا "لعالمه السياسي" وشكك البعض الآخر بها واعتبرها تغطية لفضائح الرشاوى والفساد المتعلقة بالجزيرة اليونانية.

وبرغم انتصار شارون في التصويت على رفض تقديم الانتخابات التمهيدية في "الليكود"، تبقى خطة الفصل مهيمنة على "البولموس" أو النقاش السياسي داخل الليكود والشارع الإسرائيلي. وسيتضح لنا أن هذا الجنرال العسكري الذي شغل حيزا لا بأس به في حياة الإسرائيليين وثقافتهم السياسية منذ مجزرة قبية الفلسطينية وملاحقة الفدائيين الفلسطينيين في غزة ودوره في حروب الاستنزاف وأكتوبر ولبنان، مرورا بحياته السياسية التي شهدت هزّات ونكسات وصلت أسهمه خلالها إلى الحضيض الإسرائيلي، وبعناد ومثابرة وبقدرة أميركية تحوّل البولدوزر باني "المستوطنة الحديثة" إلى "رجل السلام"، سيتضح لنا أنه ليس مجرد رجل دولة أو جنرال عادي اشترك في الحروب وأنه تعلم من أخطاء الماضي، لذلك تجده متابعا ولاعبا يتقن اللعبة أفضل بكثير من اللاعبين في الحلبة السياسية في المنطقة.

صدرت في أوائل أيلول 2005 عن دار "يديعوت أحرونوت" طبعة ثانية مزيدة من كتاب "الحرب السابعة" للصحافيين الإسرائيليين آفي يسسخاروف، مراسل الشؤون العربية في الإذاعة الإسرائيلية وعاموس هارئيل، المراسل العسكري في صحيفة "هآرتس". ويستعرض الكتاب "كيف انتصرنا ولماذا خسرنا الحرب مع الفلسطينيين". وأهمية هذه الطبعة الجديدة التي صدرت بعد سنة من صدور الطبعة الأولى أنها تحوي فصلا جديدا بعنوان "حكاية موت عرفات".

ما يهمنا الآن وفي سياق هذا الكتاب استعراض تسلسل الأحداث بشكل مثير للإعجاب لخطة الفصل الشارونية حتى أن صحيفة "الجروزاليم بوست" اعتبرته "بحثا صحفيا شاملاً". يراجع الكتاب تسلسل الأحداث كما يلي:

1- في 2 شباط 2004 شارون يعلن رسميا خطة الفصل بعد خطاب هرتسليا في كانون الأول 2003.

2- في 22 آذار 2004 إسرائيل تغتال الشيخ أحمد ياسين .

3- في 17 نيسان 2004 إسرائيل تغتال القيادي في حركة حماس عبد العزيز الرنتيسي .

4- في 12 أيار 2004 تبدأ عملية عسكرية "قوس قزح" في رفح واستشهاد 129 فلسطينيا .

5- في 6 حزيران 2004 الحكومة الإسرائيلية توافق على خطة الفصل المعدلة وعلى دفع تعويضات للمستوطنين .

6- في 30 أيلول 2004 عملية عسكرية إسرائيلية سميّت "أيام الرد" تسفر عن قتل
أكثر من مائة فلسطيني .

7- في 11 تشرين الثاني 2004 رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في باريس .

8- في 9 كانون الثاني 2005 انتخاب "أبو مازن" رئيسا للسلطة الفلسطينية .

9- في 8 شباط 2005 عقدت قمة شرم الشيخ واتفق "الأطراف" على "التهدئة".

بعد ستة أشهر وبالتحديد في 15 آب 2005 بدأت عملية إخلاء المستوطنات في غزة وشمال الضفة.

ووفق الفصل الجديد من الكتاب الإسرائيلي المعدّل ووفق خطة شارون كان لا بد أن يختفي ياسر عرفات من الحلبة السياسية لتنفيذ خطة الفصل.

ويكشف كتاب إسرائيلي آخر بعنوان "بوميرانغ" أو السهم المرتد لعوفر شيلح ورفيف دروكر أن رحيل "الدومينو" الفلسطيني سهّل المهمة في الداخل الإسرائيلي، فقد نزل بنيامين نتنياهو عن الشجرة التي اعتلاها بضرورة التخلص من ياسر عرفات فورا، ولم يبق له حجة أمام شارون، إلى أن احتدم النقاش حول خطة الفصل واختار أن يكون معارضا لها لمطامحه الشخصية والانتهازية بالعودة إلى رئاسة الليكود ومن ثم الحكومة.

ويكشف "بوميرانغ" عن مدى تدخل جهاز الأمن العام (الشاباك) والجيش في عمليات التصفية والاغتيال بقيادة موشيه يعالون، قائد الأركان الإسرائيلي، دون الأخذ بالحسبان انعكاسات هذه العمليات ونتائجها، من ردود فعل فلسطينية ومن ثم استمرار حمام الدم.

وينتقد الكتاب عملية اتخاذ القرار في القيادة العسكرية الإسرائيلية لتنفيذ اغتيال قيادات فلسطينية دون الرجوع للقيادة السياسية. وقد جاء في الكتاب أن الجيش نفّذ اغتيالات لقيادات من حماس والجهاد الإسلامي دون أخذ موافقة الحكومة الإسرائيلية، وكانت الحكومة الإسرائيلية قد رحبّت بالعمليات ولم يشر أحد من أعضائها لخلل ما في عملية اتخاذ القرار، وقد أراد "بوميرانغ" أن يقول للقراء إن هناك تياراً في قيادة الجيش تصرف وفق مزاجه ومعتقداته دون اعتبار أن هناك سلطة تنفيذية مسؤولة عن الجيش.

ويكتب بنيامين نتنياهو في مقالته المنشورة في كتاب "تقسيم البلاد" للصحافي الإسرائيلي آري شفيط الصادر عن دار "كيتر" قبل ثلاثة شهور "في الانسحاب الأحادي الجانب دون مقابل يوجد خطر وجودي، وإذا تم تنفيذ عملية الفصل "أ" وتبعها فصل "ب" وفصل "ج" سنقف أمام تهديد بالقتل لذلك الثمن أو المقابل الذي يجب أن نأخذه هو أساس حيوي".

وكان آري شفيط، "صاحب" الكتاب المذكور والذي يعرّف نفسه على أنه ابن اليسار الإسرائيلي سابقا وأحد المتحمسين لخطة الفصل الشارونية، قد شجع شارون في مقالة في "هآرتس" يوم 29-9-2005 بعنوان" ليكودستان تبقى ليكودستان" أن يقيم حزبا جديدا برغم "الانتصار المفاجىء" داخل حزبه محذرا أن لا ضمان لاستمرار خطته المستقبلية مع مركز يعارض مبدأ "تقسيم البلاد" وفق ما يريد شارون، لذلك لا بد من الانشقاق وإقامة حزب مركز تعقد عليه الآمال لأنه لا يعقل أن يستمر في الخطة "تحت رحمة أعضاء مركز الليكود".

وفي مقالة أخرى ذكر يسرائيل هارئيل في "هآرتس" في اليوم نفسه أسباب نجاح شارون في الانتخابات الداخلية على منافسه بنيامين نتنياهو كما يلي "الضغوط الجدية على أعضاء مركز الليكود بفقدان الوظيفة، واعتزال شارون سيكون سبب خسارة الليكود الحكم في إسرائيل، أن لا تكون حجة لشارون أن ينظم صفوف مؤيديه لتشكيل حزب جديد، وفضيحة المايكروفون وعدم سماع كلمته أمام مؤتمر الليكود".

لذلك تبقى مسألة الزمن حاسمة في مستقبل شارون السياسي، كيف سيسلك مع أعضاء حكومته، أم أنه ذاهب إلى الانشقاق الحزبي والتخطيط المؤامراتي والبحث عن صيغة مشتركة مع أبناء حركة العمل التاريخية خاصة أنه ترعرع فيها.

ولتأكيد هذا الكلام لا بد من العودة مرة أخرى إلى كتاب آري شفيط "اليساري" الذي يفسّر حماسه لشارون ولا ننسى أن اليسار الإسرائيلي تحمس لخطته.

يقول شفيط :

" النزاع العربي الإسرائيلي هو نزاع بين شعب واقع تحت الاحتلال وشعب مهدد بالخطر، وبناء على هذين الأساسين يتحول النزاع إلى خاص، الاحتلال والتهديد، لا يوجد شعب في العالم موجود تحت الاحتلال المستمر مثل الشعب الفلسطيني ولا يوجد شعب في الدنيا موجود تحت وطأة التهديد الوجودي مثل الشعب اليهودي الإسرائيلي، لذلك لا حل للنزاع الصعب بين الإسرائيليين والفلسطينيين بدون علاج مواز للاحتلال والتهديد بالخطر. ليس الاحتلال هو الذي أوجد التهديد بالخطر بل التهديد بالخطر هو الذي أوجد الاحتلال".

هذا هو ملخص كتاب الصحفي الإسرائيلي آري شفيط "تقسيم البلاد" الذي صدر مؤخرا كما ذكرت أعلاه ونشرت صحيفة "هآرتس" فصله الأخير في حزيران الماضي وقامت بترجمته عدة صحف عربية لتوضيح رؤية شارون.

وشهدت الصحف في أعقاب التلخيص المنشور نقاشا إسرائيليا داخليا حادا حول نوايا شارون الحقيقية، حتى أن بعض الصحافيين المعدودين على اليسار الإسرائيلي أمثال عكيفا الدار استهجنوا ما كتبه شفيط خاصة وأنه انتقل من مواقع اليسار الإسرائيلي إلى أشد المتحمسين لخطة شارون الانفصالية. ونذكر في الصدد وكي لا تختفي بوصلة القارئ أن اليسار الإسرائيلي برمته أيّد "خطة فك الارتباط" أو "خطة الفصل"، وكان عكيفا الدار ودانيال بار طال، وهو بروفسور في علم النفس السياسي في جامعة تل أبيب، قد كتبا ردا مشتركا في "هآرتس" بتاريخ 1.7.2005 بعنوان "عودة إلى المشروع القومي الفاشل" قالا فيه "إن البعد بين الإدعاء أن إسرائيل تواجه تهديدا وجوديا وبين الواقع هو كبعد السماء عن الأرض، وإذا كان الاحتلال على حد قول شفيط نتاج التهديد الوجودي لدولة إسرائيل لماذا لا نعتبره نتاج النية بتوسيع حدود الدولة وتطبيق فكرة أرض إسرائيل الكبرى".

وقد كتب آري شفيط في مقدمة كتابه "طوال السنين التي مرت، عشت داخل صورة عالم حادة، اعتقدت أن المستوطنين هم الأعداء، الفلسطينيون هم الضحية، الاحتلال مصدر الشر، لا يمكن تحقيق السلام بسبب أن الكل تشوش بعد أن اخترقنا حدود الرابع من حزيران، الكل سيرجع إلى ما كان عليه في حالة سلام عندما نعود إلى حدود الرابع من حزيران، إذا الكل متعلق بنا، وفقط بنا. يشعياهو ليفوفيتش كان بالنسبة لي هو النبي، لوبا الياف، إسحاق بن أهرون ويوسي سريد هم كهنة الحقيقة، وإذا طردنا الروح الشريرة القومجية من بين ظهرانينا وتقيأنا من داخلنا أريك شارون وغوش ايمونيم ونخرج في النهاية من الضفة الغربية وقطاع غزة، وإذا عدنا إلى الخط الأخضر، سيتحقق السلام".

يواصل شفيط "هذه كانت الأمنية، بعد جيل في البلاد وبعد جيل الدولة جاء جيل الاحتلال، كنت من هذا الجيل الأخير، جيل لم ير في عينيه غير الاحتلال، جيل لم يفكر في الواقع السياسي دون أن يرتبط بالاحتلال، اعتقد هذا الجيل بسذاجة أن النزاع هو الاحتلال، الجيل الذي حوّل الوقوف ضد الاحتلال لمركز حق تقرير مصيره، جيل كان مخلصا للأمنية الطاهرة والأحادية الجانب- الحياة ضد الاحتلال.

"عشت هذه الفترة، من العرائض ضد غولدا مئير حتى المظاهرة الكبرى ضد شارون، من الهامش المتمثل بـ"سيح - اليسار الإسرائيلي الجديد" إلى قلب حركة السلام الآن .. في البداية "موكيد" وبعدها "راتس" وبعدها "ميرتس"، في البداية كانت أسبوعية "هعولام هزيه" وبعدها "كوتيرت راشيت". وطوال هذه الفترة كنت من مجموعة الإسرائيليين الذين عاشوا ينتظرون الانسحاب ومنذ ذلك الوقت الذي أتذكر نفسي، كنا ننتظر الانسحاب، وكلما أتذكر نفسي أتذكر أننا ننتظر الانسحاب، نتمناه ونؤمن به ونعتبره تطلع الجميع".

يضيف آري شفيط : "هذا ما كنت أؤمن به إلى أن اندلعت الانتفاضة الفلسطينية في كانون الأول 1987 اكتشفت عندها أن التمسك بالانسحاب، أي انسحاب، لا يقل خطورة عن التمسك بأرض إسرائيل الكاملة".

ويتابع قائلا : "قمت بنشر مقالة في 24 فبراير 1988 عن أطروحتين إسرائيليتين قد فشلتا وأعلنتا الإفلاس بسبب الانتفاضة، أطروحة الصقور التي تقول إنه يمكن أن تحكم شعب غريب أو أجنبي (وفق الترجمة العبرية) إلى الأبد، والأطروحة الحمائمية التي تعتقد أن الاحتلال هو بؤرة النزاع العربي الإسرائيلي. الصقور لا يريدون الاقتناع أن هناك أبعاداً أخلاقية وعسكرية وسياسية للاحتلال، والحمائم يرفضون الاعتراف أن الخط الأخضر لا يلزم قسما كبيرا من الحركة الوطنية الفلسطينية، لذلك فالإدعاء القائل من قبل اليمين الإسرائيلي "اليوم نابلس وغدا يافا" هو إدعاء جدي جدا، حتى لو سمعناه من الديماغوغيين. وهذا لا يعني أنه يجب أن نبقى في المناطق ولكن علينا الاهتمام أن لا يولد الانسحاب من المناطق تأثيرا سلبيا، ومن يؤمن أن الانسحاب إلى حدود 1967 هو أمر حياة بالنسبة لنا، عليه أن يقترح طرقا تضمن أن هذا الانسحاب هو الأخير. وفي هذه الظروف يجب أن تكون "عملية مزدوجة" تنقذ إسرائيل من الحالة التي سببتها لنفسها، عودة إلى حدود 1967 مع "تغييرات بسيطة"، على الصقور أن يفهموا أنه لا حياة لنا إلا بحدود إسرائيل الصغيرة وعلى الحمائم أن يفهموا أيضا أنه في المستقبل المنظور لا حياة لنا إلا من وراء الحائط الحديدي".

وختم "بعد مرور سبع عشرة سنة من المقالة، هذا هو موقف الأكثرية الإسرائيلية اليوم بعد أوسلو وكامب ديفيد وأربع سنوات من حرب الإرهاب، الانسحاب حيوي لكن الانسحاب خطير وهو شبيه بعملية قلب مفتوح. وإذا لم تنفذ إسرائيل عملية تقسيم البلاد فإن مستقبلها في خطر وإذا لم تنفذ إسرائيل عملية التقسيم وفق الشروط فسينزف دمها في غرف العمليات".

من هنا جاء الانفصال، من هنا جاء جدار الفصل، "انسحاب قبل السلام" كما يفسره آري شفيط. هل الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة وشمال الضفة هو عملية صحيحة، وهل تقترح خطة شارون لإسرائيل انسحابا صحيحا؟ ..

الجواب يتعلق بالإجابات على الأسئلة التالية: هل سيحدث الانشقاق داخل الليكود؟ هل يؤسس شارون حزبا جديدا؟ هل يفكر قادة حزب العمل بإنقاذ شارون من ورطته؟ ومن ينقذ خطوات شارون القادمة؟.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات