المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

هل في الإمكان اعتبار التصويت لحزب "كديما"، الذي أفرزته الانتخابات الإسرائيلية للكنيست الـ17 في 28 آذار 2006 كحزب أول (29 مقعدًا)، تصويتًا للوسط ونهجه؟.

يبدو من المحبّذ، هنا والآن، طرح التساؤل أعلاه في صيغة أخرى: هل يعكس التصويت لكديما تبرّمًا بالطريقين التقليديين اللتين عرفتهما إسرائيل إلى الآن، وهما الطريقان اللتان ارتسمتا في الذهنية العامة بكونهما طريقي اليسار واليمين، ذواتي المقاسات الإسرائيلية المخصوصة؟.

الجواب ببساطة هو نعم.

ومن خلال الاستعانة بتحليل خبير عالمي في علم النفس السياسي يمكن القول إن "المعسكر اليميني"، الذي يطلق عليه تسمية "القومي/ الوطني"، جبري، منقاد خلف شعار: لا حل للنزاع في الشرق الأوسط. إنه يركّب "نظارة سوداء" ويرى عبرها أن المستقبل ينذر بأعظم الشرور. أما "المعسكر اليساري"، الذي يطلق عليه تسمية " الحمائمي"، فهو مضغوط، هستيري، لكونه يشعر بأنه عاجز وليس في مقدوره التأثير على مجريات الأمور. كلا المعسكرين يهرب من الواقع، في التحصيل الأخير. "المعسكر اليميني" يفعل ذلك بواسطة التنكر لعلائم السلام. "والمعسكر الحمائمي" يعيش في وضعية تنصّل من المسؤولية وهروب من الواقع إلى عالم الخيال (اسكيبزم). وهو مقطوع من الأحداث، منعزل عن الواقع، أشبه بمن هاجر دون أن يترك البلاد فعلياً. هذا المعسكر الأخير فقد الدافعية لتغيير الوضع، بينما "المعسكر القومي" لا يرغب البتة في التغيير!

وهل دافع هذا التبرّم هو سياسي محض، إلى ناحية الاستئناف أساسًا على جوهر التعاطي مع القضايا الخارجية الذي ميّز اليسار الإسرائيلي، من جهة وميّز اليمين الإسرائيلي، من الجهة الأخرى.

النتائج النهائية للانتخابات لا تقول هذا الأمر تحديدًا، وإن كانت تلمّح إليه.

ولعل ما ينبغي الانشغال به لتدعيم هذه الفكرة هو ما يلي:
◾تراجع نسبة التصويت. فهذا التراجع يكمن موقفًا لاأباليًا من قدرة الانتخابات في التأثير على مجريات الأمور في إسرائيل.
◾النجاح المفاجئ وغير المتوقع، على الأقل طبقًا لاستطلاعات الرأي، لقائمة "المتقاعدين" (سبعة مقاعد) التي جرفت أعدادًا كبيرة من الناخبين الشباب.

لماذا يشكل هذان المعطيان مؤشرًا بالغ الدلالة؟ لأن فيهما، بدايةً، عنصر التغيير الأبرز الذي انطوت عليه هذه الانتخابات الإسرائيلية.

فالمعطى الأول ينطوي على عدم وصول، وبالأحرى على فشل الرسالة التي جرى بثها بشأن مصيرية هذه الانتخابات، على الصعيد السياسي، إلى قطاعات واسعة من الشارع الإسرائيلي. في حين ينطوي المعطى الثاني على اتجاه "الأمور المصيرية" التي يعتقد هذا الشارع بأنه ينبغي أن تكون لها أولوية على ما عداها من أمور.

سنبدو كالأذكياء بعد وقوع الحدث حين نقول إن هذه المحصلة كانت شبه حتمية، قبيل الانتخابات، حتى إذا ما دققنا في معطيات استطلاعات آراء الناخبين الإسرائيليين.

ففي المسألة الثانية تحديدًا سبق لـ"مؤشر السلام" لشهر شباط 2006 أن أبان أن الجانب الاقتصادي- الاجتماعي قد تغلب على المسألة الأمنية كعامل حاسم في التصويت في تشرين الثاني 2005 مع انتخاب عمير بيرتس لرئاسة حزب "العمل"، حيث كانت النسبة 53 في المائة للعامل الاقتصادي ـ الاجتماعي مقابل 35 في المائة للعامل الأمني. ومع أنه في كانون الأول أصبحت النسبة 43 في المائة للعامل الأمني مقابل 37 في المائة للعامل الاقتصادي. وارتفعت النسبة في شباط لتصبح 47 في المائة للأمن مقابل 37 في المائة للاقتصاد، فقد أشار توزيع التقديرات حسب اتجاهات التصويت إلى أن أغلبية ناخبي حزب "العمل" يقدرون أن المسألة الاقتصادية ـ الاجتماعية ستكون أهم بالنسبة لقرار الناخبين- 58 في المائة. أما بالنسبة لناخبي الليكود فقد كانت النسبة 36 في المائة وكديما 31 في المائة. وبطبيعة الحال لا يمكن التقليل من أهمية عامل فوز "حماس" في التأدية إلى هذه المعطيات الأخيرة.

غير أنه بموجب معطيات "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، التي تتعاطى مع السنوات، عندما سُئل مواطنو إسرائيل في العام 1969 عن رأيهم في المشكلة الهامة التي يتوجب على الحكومة أن تعالجها قال 80 في المائة إنها المشاكل الخارجية، بينما قال 20 في المائة إنها القضايا الداخلية. وفي العام الأخير كان التوزيع: 38 في المائة للقضايا الخارجية، و62 في المائة للقضايا الداخلية. وبحسب المعطيات ذاتها فإنه قبل 37 سنة قال 98 في المائة من ناخبي الليكود إن الأمن و/ أو السلام هو المسألة الأساسية في اعتباراتهم الانتخابية، بينما كانت النسبة 60 في المائة قبل ثلاث سنوات. أما عند ناخبي العمل فكانت النسبة: 80 في المائة في عام 1969، و50 في المائة في 2003.

ووفق المعلق الصحافي عوزي بنزيمان فإن هذا مؤشر يعكس، من جهة، مدى مثابرة الميل للانعتاق من العبء الأمني النابع بدرجة كبيرة من استمرار السيطرة على المناطق (الفلسطينية)، ويعكس من جهة أخرى مدى مثابرة الميل للتمحور حول تحسين جودة الحياة داخل حدود الدولة، بمقدار ما يعكس كم أن هذا الميل بطيء جدًا. علمًا بأن هذا البطء يعزى أساسًا إلى إصرار المؤسسة السياسية الإسرائيلية على تكريس "فك الارتباط" بين الميلين رغم أنهما يكملان بعضهما البعض، وأكاد أقول إنه لا يمكن تحقيق أحدهما دون توفر الثاني، وفقما عبّر عن ذلك الزعيم الجديد لحزب "العمل" عمير بيرتس بتساؤله: ما هي الفرصة التي ستتاح أمام الاقتصاد دون وجود عملية سياسية؟!..

ولدى استعادة ماهية المشهد الحزبي- السياسي الإسرائيلي التي تراءت لجمهور المقترعين قبل الانتخابات لا بدّ من الإشارة إلى ما يلي: عند تشكيل الحزب الجديد "كديما" بات النظام السياسي الإسرائيلي قائمًا على ثلاثة أعمدة حزبية رئيسية: "كديما" يمثل اليمين الوسط، وحزب العمل يمثل اليسار ويحاول التمايز عن "كديما" سياسيا ويرفع راية القضايا الاجتماعية عاليا، وصار حزب الليكود ممثلا لليمين ويطالب بمزيد من القمع ضد الفلسطينيين وبعدم التفريط بالضفة الغربية. غير أن التدقيق في مواقف الأحزاب الثلاثة وبرامجها يبين تآكل الفروق السياسية والأيديولوجية بين "كديما" و"العمل". وينحصر الخلاف بينهما حول مساحة الأرض التي بالإمكان الاستغناء عنها لقيام دولة فلسطينية فوقها. وتتقاطع مواقف زعيم حزب العمل عمير بيرتس مع مواقف أريئيل شارون وخليفته إيهود أولمرت في التصوّر لحل النزاع. فبيرتس، مثله مثل أولمرت، يصرّ على أن القدس ستبقى عاصمة إسرائيل "الأبدية"، ويشدّد على تنفيذ المشاريع الاستيطانية بهدف تهويد المدينة، إلى جانب تمسكه، مثل شارون وأولمرت، بضم التجمعات الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية. ناهيك عن تماثل المواقف بشأن رفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

على صلة بهذا، إذا كان التصويت لكديما عديم الجدة سياسيًا فإن التصويت السياسي الأكثر جدة انعكس أكثر في الهزيمة النكراء التي مني بها حزب الليكود سوية مع زعيمه القديم- المتجدّد بنيامين نتنياهو، الذي كانت له يد طولى أيضًا في دهورة الأوضاع الاجتماعية.

ومع قليل من التفاؤل الحرج بشأن التصويت الاجتماعي ننتظر أن يكون المستقبل مفتوحًا على أفق سياسي ما.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات