المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

نظرت المحكمة العليا الإسرائيلية يوم الأحد 11 كانون الأول في قضية الاغتيالات السياسية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي منذ اندلاع انتفاضة الأقصى.

وتأتي هذه القضية على خلفية الالتماس الذي تقدمت به "اللجنة الشعبية ضد التعذيب" وحركة "يوجد حد" اثر عمليات الاغتيال التي نفذتها قوات الاحتلال منذ تشرين الأول 2000، والتي من ضمنها غارة سلاح الجو الإسرائيلي على حي الدرج في مدينة غزة منتصف ليلة 22.07.2002، والتي أودت بحياة 14 فلسطينياً خلال عملية اغتيال قيادي "حماس"، صلاح شحادة.

من جهة أخرى تقدم يوم 07.12.2005 كل من رائد محمد إبراهيم مطر ومحمد صبحي الهويتي ومروان الزينو بقضية تعويضات فريدة من نوعها ضد رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلية السابق آبراهام ديختر الموجود حاليا في الولايات المتحدة، وذلك أمام المحكمة المركزية في جنوب نيويورك، والتي طالبوا من خلالها بتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم جراء الغارة الجوية بقيادة ديختر.

من الجدير بالذكر أن طائرة إف 16 إسرائيلية ألقت في هذه العملية قنبلة وزنها طن على بيت سكني مأهول ومكوّن من ثلاثة طوابق ما أدى إلى قتل 15 شخصا، ثمانية منهم من الأطفال، وجرح 150 آخرين.

لقد طال هذه العملية العسكرية استنكار واسع النطاق من المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان العالمية وأيضاً من قبل السلطات الأميركية. وعليه، يطالب المدعون بتعويضهم ماديا عن الأضرار المباشرة التي لحقت بهم، إضافة إلى مطلبهم بفرض تعويضات عقابية على ديختر.

تسرد الدعوى قصة إنسانية مفزعة لحالة الدمار التي خلفتها هذه العملية الإجرامية- أشك إن كانت أقل فظاعة من المشهد الذي حفز بيكاسو على رسم الجيرنيكا- حيث أنها أدت إلى مقتل المرحومة إيمان إبراهيم حسن مطر زوجة محمد مطر وكل من أولادهما: أيمن ابن السنة والنصف ومحمد ابن الثلاثة أعوام وداليا ابنة الخمس سنوات، إضافة إلى أخت المدعي آلاء ولها من العمر عشرة أعوام، وابنة أخيه دينا ابنة الشهرين، وجدة المدعي إيمان مريم إبراهيم مطر، إضافة لذلك فقد تم تدمير بيت عائلتهم كاملا.

أما دعوى محمد صبحي الهويتي فتتحدث عن مقتل زوجته منى، وأولادهما: صبحي ابن الأربع سنوات ونصف ومحمد ابن الخمس سنوات ونصف إضافة إلى إصابة أبنائه: جهاد (11 عاما) وطارق (12 عاما) وخميس (8 أعوام) وأختهم إيمان (15 عاما).

أما مروان الزينو (ابن 32 عاما) فقد أبقته هذه الفاجعة مقعداً ومشلولا بجميع أطرافه جراء إصابته في العامود الفقري.

يدعي المدعون في دعواهم أن المدعى عليه مسؤول عن جريمة حرب محظورة بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الأميركي لحظر التعذيب ومعاهدات حقوق الإنسان.

لقد شرعت إسرائيل منذ اندلاع انتفاضة الأقصى بتنفيذ عمليات اغتيال وتصفية فردية لمن كانت تعتبرهم بمثابة متهمي إرهاب، وذلك دون اللجوء لأي إجراء قضائي ودون تقديم ضحاياها لمحاكم جنائية مدّعية أنها موجودة في حالة حرب مع الفلسطينيين ومن حقها الدفاع عن مواطنيها ومطاردة عناصر الإرهاب وقتلهم حتى لو تسبّب الأمر بقتل "بعض الأبرياء".

من الجدير ذكره أن هذه الجريمة الفظيعة ارتكبت في ساعات منتصف الليل في حي الدرج، من الأحياء ذات الكثافة السكانية الأعلى في العالم حيث يسكن زهاء 3000 مواطن في كل كلم مربع، وأن القنبلة التي ألقيت من طائرة 16 F ألقيت على عمارة مكوّنة من ثلاثة طوابق. وقد ادعى الجيش الإسرائيلي حينها، أن هذه الغارة كانت تستهدف اغتيال أحد قياديي "حماس"، صالح شحادة.

ليس سراً أن جهاز الأمن العام يقوم بتزويد الطيران بالمعلومات الجغرافية والمخابراتية عن تحركات المطاردين والمطالبين وأماكن سكناهم ولا يكترث للمخاطر المحيطة بحياة المدنيين الذين يسكنون في نفس المباني والأحياء المجاورة.

وتأتي هذه الدعوى الحقوقية أثناء وجود ديختر في أميركا ضمن برنامج دراسي مما يعطي المحكمة الأميركية صلاحية النظر في الدعوى، وهى جزء من تحرك عالمي لنشطاء حقوق الإنسان من قطاع غزة وأميركا وأوروبا، الذين يقومون باتخاذ تدابير قضائية وحقوقية لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين.

لقد ضربت إسرائيل خلال 58 عاماً عرض الحائط بكل قرارات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وتنكرت لالتزاماتها المترتبة على كافة المعاهدات الدولية وقواعد القانون الإنساني المتعلق بحماية المدنيين.

بعد حرب عام 1967 وقعت الضفة الغربية وقطاع غزة تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية فتغير وضعها إلى "أرض محتلة"، وبذلك أصبح سكانها أشخاصاً محميين بموجب القانون الدولي الإنساني. ويرمي القانون الدولي الإنساني إلى حماية المدنيين من معاناة إسقاطات الحرب والأعمال العسكرية، ويكفل لهم الحماية من آثار العمليات العدائية.

إن مسألة المدنيين تحكمها بشكل رئيسي اتفاقية جنيف الرابعة لحماية الأشخاص المدنيين لعام 1949، حيث أن الغرض الرئيسي منها تأمين حد أدنى من الحماية الإنسانية لسكان الأراضي المحتلة، فتضمن حظر الإجراءات الانتقامية والعقوبات الجماعية ضد السكان المدنيين في الأراضي المحتلة والتعذيب وغير ذلك من المعاملة اللا إنسانية أو المهينة والإبعاد والاستيلاء على الأملاك.

تم في الأعوام المنصرمة تقديم بعض الدعاوى الحقوقية والجنائية ضد قيادات سياسية وأمنية إسرائيلية في بعض العواصم الغربية منها قضية في بلجيكا ضد أريئيل شارون لمسؤوليته عن مجزرة صبرا وشاتيلا وأخرى ضد الجنرال زئيف ألموج في انجلترا لمسؤوليته عن تجريف البيوت في مسار فيلادلفي وترحيل المئات من سكان مدينة رفح مما اضطره إلى عدم مغادرة الطائرة الإسرائيلية الجاثمة في مطار هيثرو بضع ساعات إلى حين عودته إلى البلاد فاراً من العدالة البريطانية.

وها هي دعوى أخرى تقدم ضد رئيس الجهاز الأمني في معقل "الحرب على الإرهاب" مستخدمة القانون الأميركي الداخلي والذي يعتبر القانون الدولي جزءاً من القانون الوضعي المعمول به في أميركا.

السؤال المطروح: ماذا ستفعل أميركا في هكذا دعوى وكيف سيتم التعامل معها سيما وأن الجريمة المنسوبة لديختر لا يمكن اعتبارها بغير مسماها "جريمة حرب" لفظاعتها ولنتائجها التي أودت بحياة أناس عزل ليس لهم أي خطيئة سوى كونهم جيراناً لصلاح شحادة!

وطالما أن الحديث يدور عن أميركا، نود أن نلفت نظر القراء لقرار قضائي صدر مؤخراً عن محكمة مدنية أميركية يقضي بفرض تعويضات مالية كبيرة على الكولونيل السلفادوري السابق بيكولاس كارانزا لمسؤوليته عن تعذيب أربعة مواطنين في السلفادور منذ عشرين عاماً عندما كان يشغل منصب قائد القوات الأمنية، حيث اعتبرته المحكمة مسؤولاً عن الأضرار التي لحقت بضحايا التعذيب لمجرد عدم اتخاذ إجراءات لحظر ومنع هذه الممارسات.

هذا وقد فرضت المحكمة على المدعى عليه تعويض كل ضحية بنصف مليون دولار إضافة لأربعة ملايين أخرى كتعويضات عقابية.

أميركا هي أميركا، تأمر ولا تؤمر، تعاقِب ولا تعاقب، تطلب من العالم الانصياع لأوامرها مستندة أحياناً إلى إرادة المجتمع الدولي وأحياناً إلى حجة الدفاع عن النفس ومحاربة الشر. هكذا فعلت عندما خاضت حرب دمار شامل على أفغانستان وهكذا فعلت عندما بادرت إلى حرب الخليج الثانية وأخذت تقترف كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة جرائم ضد الإنسانية دون أن تحسب حساباً لقانون أو شريعة أو معاهدة دولية مرتكزةً في ذلك على قوتها ونفوذها.

تأكيداً على موقفها أن العالم ساحة مفتوحة لجنودها ولأساطيلها، قامت أميركا باعتقال واختطاف مواطنين عرب ومسلمين ونقلتهم بطائرات وكالة المخابرات الأميركية عبر مطارات أوروبية وشرق أوسطية إلى سجون في شرق أوروبا وبعض الدول العربية لتعذيبهم دون الخضوع إلى قوانين أميركا الوضعية بل ارتكازاً إلى قوانين الغاب المحلية في تلك الدول.

عند تشكيل محكمة روما الجنائية الدولية صيف 2002 لم توقع كل من أميركا وإسرائيل على المعاهدة حيث طلبتا استثناء جنود كليهما من صلاحيات المحكمة ومن سريان المعاهدة عليهما.

وبعد تقديم الدعوى ضد شارون في بلجيكا تم اغتيال إيلي حبيقة الذي بدأ يتحدث عن ضلوع إسرائيل في ارتكاب الجريمة ومن جهة أخرى قامت إسرائيل بالضغط على حكومة بلجيكا لتغيير القانون الوضعي هناك.

أما بعد هروب الجنرال ألموج من لندن فقد بادرت الحكومة الإسرائيلية إلى إرسال وفد رفيع المستوى مكوّن من مندوبي وزارات الدفاع والخارجية والعدلية الإسرائيلية إلى لندن للتفاوض مع بريطانيا حول عقد اتفاقية ثنائية تقضي بإعفاء جنودها من سريان معاهدات الملاحقة الجنائية.

إذا السلوك والممارسة واحدة، فإسرائيل وأميركا تعتبران نفسيهما فوق القانون الدولي وتستحقان إعفاءً من سريان قواعده ومبادئه عليهما. أما عندما يحلو لهما الأمر فهو بمثابة أداة طيعة يمكن استخدامها لشن حروب على الأشرار ولقلب أنظمة حكم ومطاردة أعدائهما وقتلهم وتعذيبهم.

قد يتساءل البعض ما الفائدة إذا من هذه الإجراءات التي تتخذ بحق رجال أمن وسياسيين إسرائيليين في دول مختلفة، طالما أنها لم توصل إلى نتيجة فعلية حتى الآن؟ والجواب على ذلك يكمن في ضرورة تكثيف الجهود لمقارعة مجرمي الحرب وملاحقتهم على كافة الأصعدة وبكافة الوسائل المتاحة والمتوفرة، وما هذا التنامي العالمي المناصر لضحايا التعذيب وجرائم الحرب إلا بمثابة دليل قاطع على وجود وعي وتململ عالمي على مستوى نشطاء حقوق الإنسان لمحاصرة المجرمين وملاحقتهم.

إن هذه التحركات العالمية لمقاضاة مجرمي الحرب الإسرائيليين في محاكم أجنبية أصبحت ضرورية وذلك على أثر التعديلات الأخيرة التي جرت في القانون الوضعي في إسرائيل، والتي تحرم المتضررين الفلسطينيين من حقهم في التوجه إلى القضاء الإسرائيلي لمقاضاة جنود الاحتلال والجيش الإسرائيلي، بادعاء أن إسرائيل تواجه منذ اندلاع انتفاضة الأقصى حالة "مواجهة"، كصيغة من صيغ الحرب مع الفلسطينيين، وعليه فإنه ليس من مسؤوليتها تعويض ضحايا الحرب من الجانب الفلسطيني، وعلى كل طرف تحمل أعباء متضرريه.

إن محاولة مطاردة مجرمي الحرب هؤلاء ما هي إلا جزء يسير من العقاب المستحق عن جرائمهم بحق الضحايا والإنسانية جمعاء.

علّ هذه الساعات الطوال، التي مرت على ألموج وهو حبيس الطائرة، غير قادرٍ على مغادرتها للقيام بمهمة "إنسانية"، ألا وهي جمع التبرعات للأطفال التوحّديين (أوتيست)، لخوفه من تنفيذ أمر الاعتقال الصادر بحقه من محكمة بريطانية... علّ هذا يدخل قليلا من الفرحة أو مشاعر السداد والإنجاز في قلوب مئات ضحايا الاعتداءات الإسرائيلية....

___________________________________________

(*) الكاتب محام ويشغل منصب رئيس إدارة "اتجاه"- إتحاد جمعيات أهلية عربية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات