المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يلخص العنوان الرئيسي الذي ظهر في صحيفة "هآرتس" يوم الاثنين 19/9/2005 الدلالة العميقة، التي ينطوي عليها قرار وحدة التحقيقات مع أفراد الشرطة في وزارة القضاء الإسرائيلية ("ماحش")، إلى ناحية تبرئة الشرطة بِشأن ما حصل من اعتداء على المواطنين العرب في أثناء هبّة أكتوبر 2000، والذي أسفر عن مقتل ثلاثة عشر منهم برصاص أفراد هذه الشرطة.

فقد جاء في هذا العنوان ما يلي: "بعد خمس سنوات، أغلق ملف أحداث أكتوبر". بكلمات أخرى أغلق هذا الملف من ناحية إسرائيل. أما مسألة بقائه مفتوحًا من جانب الأقلية العربية فهي تخصّ في أقصى تعديل أبناء هذه الأقلية، أولاً ودائمًا.

وقد ارتأينا أن نتوقف عند الموضوع لا من زاوية ما يعنيه من باب التعامل مع المواطنين العرب فحسب، وإنما أساسًًا من ناحية جوهر إسرائيل في العمق.

في معالجة قديمة لهذا الجوهر أشرنا إلى أن إسرائيل تدأب، في الآونة الأخيرة، على الظهور في مظهر المبادر إلى خطوات ترمي من ورائها إما إلى الحؤول دون قوننة العنصرية أو إلى عدم إخضاع وجود العنصرية الشّاطة وأحكامها في الواقع إلى اختبار القانون. وعلى ما قد يبدو من تنافر بين الأمرين فإنهما موجهان في الأساس إلى عدم المساس بواقع بنيوي على الطريقة الإسرائيلية أصبحت العنصرية في ظله جزءًا لا يتجزأ منه دون الحاجة إلى "مظاهر محرجة" قد تستدعيها لحظات المجاهرة بهذه العنصرية.

ويسعف هذا الدأب في تقديم تفسير خاص للقرار الصادر عن "ماحش" على رغم تضاده مع تقرير "لجنة أور"، وهو ما أشير إليه في أكثر من تعليق بما لا نحتاج معه إلى عناء التكرار.

في الواقع الذي كان سائدًا في أكتوبر 2000 والمستمر حتى يومنا هذا لا يمكن مقاربة موقف "ماحش"، الذي هو موقف الحكومة الإسرائيلية، في معزل عن "تاريخيته"، المحددة أساسًا بوضعية الانزياح العام نحو اليمين. وهذه الوضعية لا تنفك تغلب على إسرائيل حاليًا.

مع ذلك فإن حصر التسويغ لموقف الحكومة في تخوم هذه الوضعية هو أقرب إلى التفسير التبسيطي، لكون ذلك يفارق العامل الأهم والأبعد مدى، وهو مبلغ انغراز العنصرية في العمق لدى الغالبية الساحقة من الرأي العام الإسرائيلي، المؤدلجة بالفكر الصهيوني.

ولن يكون من السهل في المستقبل ملاحظة أن بعض التعقيبات الصحافية على هذه القضية ستطوّر "وسائل دفاع" عن فكرة العنصرية وضرورتها لإسرائيل، الآن وهنا، في سبيل الإقناع بها، من جهة وفي سبيل توكيد أهمية قوننتها دون مواربة أو تحرّج، من جهة أخرى، وذلك عبر الاستعانة بالحجج عينها التي تردّ كذلك على عوامل توحيد خطاب المركز السياسي. فهذا ما يحدث عادة عندما تكون إسرائيل عرضة للنقد على خلفية مواقف عنصرية تبدر عنها عيانًا بيانًا، كما هي الحال في قرار "ماحش".

ومن هذه الوسائل المقولة الإطلاقية الذاهبة إلى أن "اليهود ليسوا عنصريين"، التي يؤكد أصحابها أنها تكفيهم مؤونة الاستغراق في مزيد من التفاصيل.

هذا الدفاع، الذي يبدو للوهلة الأولى أنه ينمّ عن خفة لا تحتمل، يحمل في ثناياه عدة "أفكار" تعكس العنصرية المغروزة في العمق. لعل أهمها فكرة "المحورية القومية" في أحد أكثر أشكالها بدائية. ومن هذه الفكرة فإن الطريق قصيرة جدًا نحو شرعنة العنصرية دون أية غضاضة.

في دلالة طريقها هذه احتلت الفكرة السالفة، تاريخيًا، حيّزًا مركزيًا جدًا في التفكير والتخطيط الصهيونيين. ولا تنفك تنتج أسانيد لها، ليست وليد تباعد الجماعتين بمقدار ما هي وليد العلاقات التي تجمعهما.

داخل هذه الأسانيد لا يزال ثمة موقع بارز لسند التضليل، الذي يعتمد قلب الحقائق رأسًا على عقب، حسبما يتبدى الأمر في التلويح بخطر اختلال الميزان الديمغرافي لصالح الفلسطينيين (وخصوصًا فيما هو متعلق بالوضع داخل "الخط الأخضر")، والذي تدحضه حتى الإحصاءات الإسرائيلية الرسمية الأخيرة حول عدد السكان.

قبل فترة قصيرة أثيرت، في نطاق التداول حول عنصرية إسرائيل، ضجة بشأن "تخصيص الأراضي العمومية"، وذلك على خلفية اتخاذ الحكومة الإسرائيلية قرارًا يقضي بدعم مشروع قانون طرح في الكنيست وينص جهارًا على عدم تخصيص هذه الأراضي لغير اليهود، أي للعرب، وذلك لكبح جماح قرار صدر عن المحكمة العليا ونصّ على وجوب عدم التمييز (العنصري) في هذا الشأن. لكن الحكومة سرعان ما تراجعت عن دعمها. وحسبنا أن نشير إلى تصريح المستشار القضائي للحكومة آنئذ، إلياكيم روبنشطاين، الذي ذكر أن مشروع القانون المذكور "غير ضروري بصورة جوهرية"، في إلماح صافٍ إلى كون الواقع في إسرائيل، الذي يضبط نطاق الأشياء كلها على إيقاع العنصرية المقنعة، كفيلاً كفايته بممارسة التمييز على أساس عنصري بشكل تسقط معه الحاجة لتشريع قوانين خاصة في هذا المجال من شأن تشريعها أن يسيء، كذلك، إلى سمعة إسرائيل ومكانتها الدولية.

في كتابه الصادر مؤخرًا باللغة العربية تحت عنوان "المكانة القانونية للعرب في إسرائيل" يعيد البروفيسور دافيد كريتشمر، أستاذ الحقوق المعروف، التذكير بأن قرار المحكمة الإسرائيلية العليا بشأن تخصيص الأراضي لا يعني التأثير على ترتيبات بعيدة الأمد بشأن سياسة محاصصة الأراضي التي كانت تمييزية ضد العرب، كما لا يمكن اعتباره قرارًا جارفًا يجعل جميع التقييدات الخاصة المفروضة على أراضي الدولة غير شرعية، ولا يعني أن التمييز على أساس الديانة أو الانتماء للمجموعة القومية- العرقية سيكون غير مشروع دائمًا. ولفت أنه بموجب "مبدأ المساواة" فإنه يمكن الطعن في مثل هذا التمييز، لكن المجال مفتوح لإثبات أنه ضروري "في ظروف خاصة لقضية محددة". وإذا قدم مثل هذا الدليل فإن اللجوء إلى مثل هذا التمييز لن يعتبر خرقًا لـ"مبدأ المساواة".

من ناحية أخرى، موازية ومكملة، لا يوجد في إسرائيل ذاتها انكشاف عالمي واسع النطاق على التقاليد التي تحتقر العرقية، وتحث على المساواة المدنية، وتعرض جدول أعمال للأقلية القومية العربية الفلسطينية أيضًا يتناسب مع تطلعات هذه الأقلية. حتى اليسار الإسرائيلي (وكذا اليمين الديمقراطي المعتدل) لم يتجرأ أبدًا على الإعراب عن مواقف كفاحية في سبيل المساواة المدنية في كل مجالات الحياة بين اليهود والعرب.

لماذا؟.

هذا ما سأله أخيرًا المعلق الصحفي الإسرائيلي نير برعام (صحيفة "معاريف"). وأجاب: قبل كل شيء لأنهم هم أيضا (اليسار واليمين الديمقراطي المعتدل) مصابون بالتفكير العرقي. وفضلا عن ذلك، فإن الدفاع عن العرب يعتبر في إسرائيل نزعة راديكالية خطيرة لا يمكن أن يقربها ذلك اليسار، فما بالك باليمين!. أما الحاخامون، الذين يتصدرون عادة الحملات العنصرية، كما بشكل عام وفي الآونة الأخيرة خصوصًا بالارتباط مع خطة الانفصال الأحادي الجانب عن غزة وأجزاء من شمال الضفة الغربية، لا على سبيل الحصر، فإنهم لا يُصدمون أبدًا من جراء فعلتهم الفاسقة هذه، كونهم جميعًا يعرفون بأن العنصرية في إسرائيل هي ظاهرة تقطع الأحزاب (الصهيونية) ناهيك عن أنها تكمن عميقا في السلطة الحاكمة نفسها.

وفي رأي برعام فإنه يجدر بالإسرائيليين أن يقرأوا الترجمة العبرية الصادرة أخيرًا لكتاب "الحربة والإبرة" (مختارات من النصوص الفرنسية ضد اليمين المتطرف) كي يفهموا كيف "يتم خلق تقاليد قتال عنيد ضد اليمين المتطرف، تماما لأن مواقفه التبسيطية تتغلغل في عقول الجماهير وتكتسب العطف". فإن الشكل الذي حرص فيه مفكرون مختلفون من تيارات سياسية متنوعة (في فترات مختلفة) على توحيد القوى في الصراع ضد اليمين المتطرف، لا يمكنه أن يثير الكراهية لدى أولئك الذين لا يزالون يؤمنون بأن إسرائيل يمكنها أن تكون أكثر بقليل من "مجرد ساحة لعب" لعنصريي مجلس "ييشع" (مجلس المستوطنات الكولونيالية في الضفة الغربية وقطاع غزة)، ولكارهي العرب من "شاس" (الذين في أصلهم هم أنفسهم يهود- عرب)، ومعهم غيرهم (يهود- عرب أيضًا) يصرخون "الموت للعرب" في مباريات كرة القدم، على حدّ ما يؤكد.

لكن قبل السؤال عن احتمالات توحيد القوى في الصراع ضد اليمين الإسرائيلي المتطرف ربما يتعيّن أن نسأل: أين هي هذه القوى؟ وما هو نطاق تأثيرها على مجريات الأمور في إسرائيل؟.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات