انتهت عملية الانسحاب من غزة والتي تعد سابقة لها ما بعدها. لاحظنا في الأشهر الأخيرة تسليط الضوء والتركيز على بضعة آلاف من المستوطنين اليهود هم سكان "غوش قطيف" في قطاع غزة. الإعلام الإسرائيلي بكل أطيافه يُظهر التعاطف الواضح مع المستوطنين ويخرج عن طوره لإظهار وتفهم معاناتهم وألمهم لأنهم "خسروا بيوتهم". في نفس الوقت يقوم الإعلام الإسرائيلي بتغييب الـ 1,4 مليون فلسطيني هم سكان قطاع غزة. هذا الإعلام تنكر لمعاناتهم أيام الاحتلال الإسرائيلي ولا يفكر بمستقبلهم الغامض بعد الانسحاب.
لقد تعودنا على هذا التوجه العنصري للحركة الصهيونية منذ أيامها الأولى. فنذكر مثلا أن وعد بلفور بنصه وروحه قد خاطب اليهود (القادمين الجدد إلى فلسطين) وكان عددهم آنذاك لا يتعدى الـ 11 % من سكان البلاد، ونعت الفلسطينيين سكان البلاد الأصليين والغالبية آنذاك "بغير اليهود".
نعود ونذكّر بذلك لان أحدا لا يفكر بتأثير الانسحاب من غزة على الجماهير العربية في البلاد، وكأن الأمر لا يعنينا أو كأننا نعيش بمعزل عن الأحداث.
الانسحاب من غزة هو جزء من خطة استراتيجية كبرى أعدت للمنطقة في ظل هيمنة دولية أميركية واضحة. وما دامت الولايات المتحدة تتخبط في العراق وتفشل في مخططاتها المنطقية وخاصة "محاربة الارهاب" و"دمقرطة الشرق الاوسط" فإن عليها أن تقدم انجازات في اماكن اخرى من المنطقة. احد هذه الاماكن هو التقدم على المسار الإسرائيلي- الفلسطيني، لذلك فإن الانسحاب من قطاع غزة هو الأول وستعقبه انسحابات أخرى لها تأثيرها على جوهر دولة إسرائيل.
إسرائيل بعد الانسحاب من غزة وامكانية انسحابات أخرى ستكون أكثر يهودية. وما اقرار قانون المواطنة العنصري مؤخرًا، والذي يمنع جمع شمل الفلسطينيين من طرفي الخط الأخضر، الا بداية لتضييق الخناق على الجماهير العربية في إسرائيل.
تعزيز تهويد الدولة اليهودية يتم الحديث عنه هذه الأيام باستعمال مصطلحات ايجابية رنانة وفي رأس هذه المصطلحات تطوير الجليل والنقب.
التجربة، وليست وحدها، اثبتت ان تطوير البلاد بمنظور زعمائها يتم عبر تهويدها. المخططات المقترحة للنقب والممارسة على ارض الواقع من اقامة مستوطنات يهودية جديدة واقامة عشرات المزارع الفردية اليهودية تأخذنا الى الاستنتاج ان تطوير إسرائيل سيكون على حساب السكان العرب في هذه البلاد.
من جهة اخرى تمت في هذه الأيام وعبر وسائل الإعلام عملية تذويت جماعية للرأي العام الإسرائيلي عن طريق استعمال مصطلحات أخرى لوصف الانسحاب من غزة. ان الاستعمال الشائع لمصطلح فك الارتباط او خطة الانفصال الأحادية الجانب سيسهل تمرير مخططات جهنمية يكون هدفها المواطنين العرب في هذه البلاد.
هناك مخططان خطيران يجب التحذير منهما:
الاول هجوم واسع على أراضي عرب النقب وتضييق الخناق عليهم، بحجة ان الحكومة قد قررت وان اليهود (في غوش قطيف) قد تنازلوا فلماذا لا يتنازل عرب النقب عن اراضيهم من اجل تطوير النقب لكل سكانه؟
عرب النقب هم خط الدفاع الأول للجماهير العربية كلها، الدفاع عن عرب النقب هو مصلحة لكل الجماهير العربية وصمود لنا جميعا. سقوط خط الدفاع هذا يفسح المجال امام مخططات ترانسفيرية مستقبلية.
تحد آخر ليس اقل خطورة يواجه جماهيرنا العربية اليوم هو "فك الارتباط" من ام الفحم ومنطقتها. ان مخطط نقل منطقة وادي عارة ولربما المثلث كله الى مناطق السلطة الفلسطينية هو مخطط قائم وحقيقي. وباعتقادي انه سيكون من السهل تمرير هذا المخطط ليس داخل الرأي العام الإسرائيلي فقط وانما ايضا في أوساط واسعة من الرأي العام العالمي.
انسحابات إسرائيلية (بدون التطرق من أين) تستقبل بالترحاب عالميا واقل عرب في الدولة اليهودية يحصل على اجماع صهيوني محليا. ولنتذكر ان الفكر الترانسفيري في إسرائيل يتغلغل في اوساط المركز واليسار الصهيوني وبشكل دائم.
ان نقل مدينة ام الفحم ومنطقة وادي عارة إلى السلطة الفلسطينية فكرة ليست جديدة. حكومات اسرائيل (بحزبيها الليكود والعمل) تنتظر الفرصة التاريخية لتنفيذ ذلك. وما دام الحديث يدور اليوم عن حدود إسرائيل النهائية فما المانع من تعديلها تعديلاً أحادي الجانب يضمن التفوق الديمغرافي اليهودي في دولة إسرائيل؟
كذلك فإن هناك بعض المحللين السياسيين والاجتماعيين الإسرائيليين الذين يبحثون عن سبل لتعويض اليمين الإسرائيلي عن فقدان مستوطنات "غوش قطيف". ثم هل يعتقد احد أن البيت الأبيض سيقف ضد هذه الخطة مثلا مقابل انسحاب شبه كامل من الضفة الغربية؟
من الممكن ان يظن البعض ان هذا السيناريو خيالي ولا يمكن اخراجه الى حيز التنفيذ. لهؤلاء نقول ان يافطات ليبرمان التي تملأ شوارع المدن الكبرى في البلاد هي المقدمة الأولى لذلك. كذلك فإن استمرار سياسة الإقصاء وتهميش الجماهير العربية في البلاد ونزع الشرعية عنها كلها تصب في اتجاه تنفيذ مخططات جهنمية ترانسفيرية.
يجب الانتباه الى رد فعل رئيس حكومة إسرائيل اريئيل شارون الذي سُئل عن الموضوع نفسه حيث قال "اننا سوف لا نفعل ذلك بالقوة". لم يرفض الفكرة ولم يستنكرها وانما اكتفى بالوعد انه سوف لا يستعمل القوة. وهل تغيير حدود إسرائيل المعترف بها دوليا يتطلب استعمال القوة؟
إزاء ذلك يتعين على الأحزاب والمؤسسات العربية في الداخل وعلى رأسها لجنة المتابعة الدعوة إلى مؤتمر عام للتصدي لمخططات ما بعد "فك الارتباط" من غزة. إن غرس الرؤوس في الرمال والقول إن هذا سوف لا يحدث، لا يجدي نفعا، والعمل محليا ودوليا من أجل إجهاض هذا الفكر الترانسفيري بكل ألوانه هو الحل.
(*) الكاتب محاضر في جامعة "بن غوريون"- بئر السبع.