المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

داخل سيل لا ينقطع من المقالات والتحليلات خصّص "مركز يافه للدراسات الإستراتيجية" في جامعة تل أبيب "النشرة الإستراتيجية" الأخيرة الصادرة عنه (عدد آب 2005) لموضوع ما بعد خطة فك الارتباط، التي يشارف تنفيذها على الانتهاء في ختام الأسبوع الجاري.

واحتوت النشرة على ست مقاربات (تصدر ترجمتها العربية قريبًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار). تتناول المقاربات، في التحصيل الأخير، خيارات إسرائيل المقبلة وتأثير الخطة على السياسة والمجتمع الفلسطينيين وعلى المجتمع الإسرائيلي وقوة الردع الإسرائيلية، وكذلك على مستقبل العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية.

ولعل أكثر ما يعنينا أنه يكاد يكون ثمة إجماع بين أصحاب هذه المقاربات الست، وهم من أبرز الباحثين في المركز، على أن الفترة القريبة القادمة لن تشهد أية تطورات جوهرية تذكر، منِ شأنها أن تشي بوجهة سياسية إسرائيلية معينة، ليس لأن قباطنة الدولة الإٍسرائيلية، بمن فيهم أريئيل شارون نفسه، لا يملكون أجندة سياسية محدّدة، وإنما لأن هذه الفترة كافتها ستكون برسم الانتخابات البرلمانية التي ستجري، سواء في إسرائيل أو في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، علمًا بأن هذه الانتخابات ستتأثر إلى حدّ بعيد بخطة "فك الارتباط".

في هذا الصدد يكتب الجنرال في الاحتياط شلومو غازيت، في المقاربة التي تبدو لنا الأشد أهمية، أن إخلاء المستوطنات في قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، لن يحظى بأي امتداد في غضون الفترة القريبة المنظورة، لأن الجميع يفترضون بأنه بعد الانتهاء من تنفيذ الانسحاب ستدخل الحلبة السياسية الإسرائيلية بكل زخمها مرحلة الاستعداد للانتخابات العامة، التي ستجري على ما يبدو في 2006. وبالتالي فلن تكون هذه الفترة سانحة لأية تحركات ذات طابع سياسي غير مألوف. لكن ذلك لا يعني، في حال من الأحوال، أن هذه الانتخابات ستطوي صفحة الانسحاب المذكور، وإنما على العكس ستتأثر نتائجها، بصورة أكيدة، بالسجال السياسي والعمومي الذي تواتر في السنة الأخيرة حول فك الارتباط، من جهة وبما خلفه هذا السجال من "انقسام عميق" في أوساط السكان اليهود في إسرائيل، من جهة أخرى.

وبصرف النظر عن النتائج، التي ستسفر عنها الانتخابات العامة في إسرائيل، فإن الموضوع الأساسي والأكثر أهمية الذي يتوقع أن يكون ماثلاً أمام الإسرائيليين عمومًا في خضم المعركة الانتخابية يتمثل، برأي غازيت، في الحاجة السياسية والوجودية إلى حسم ما يسميه بـ"الخيار الصعب". وضمن ذلك سيتعين عليهم الاختيار بين الخط الذي انتهج حتى الآن وفي صلبه الحفاظ على استمرار الوجود الإسرائيلي (الاحتلالي) في الضفة الغربية، وبين تبني سياسة تواصل خطوات رئيس الوزراء الرامية إلى الانفصال عن الفلسطينيين، حتى وإن كانت خطوات أحادية الجانب كما هي الحال بالنسبة للخطوات التي تم اتخاذها بخصوص قطاع غزة، والتي تنطوي من حيث "الجوهر" على مفهوم يتضاد مع الخط الراسخ المشار إليه.

قبل أن نعرض إلى المزيد مما يقوله نشير إلى أن شلومو غازيت هذا هو نفسه الذي رفض "بكلّ إباء"، في سياق تقرير ظهر أخيرًا في "هآرتس"، التحدث عن نشاط "الوحدة السرية" الإسرائيلية في قطاع غزة الذي تمحور حول غاية إخلاء القطاع من سكانه الفلسطينيين بعد احتلال 1967 على رغم أنه أشغل وقتئذٍ منصب المعاون الخاص لوزير الدفاع وكان على دراية بهذا النشاط. وليس هذا فحسب، بل إنه عاب على غيره الحديث في الأمر مؤكدًا عيانًا بيانًا في تسويغ هذا الرفض أنه "يجب شنق من يتحدث عن ذلك... فإسرائيل ما زالت في صراع مع العالم العربي ومع الفلسطينيين"، معرباً عن اعتقاده أن الوقت لم يحن بعد للحديث عما كان يحدث في قطاع غزة، "نظراً لحساسية الأمر"، حسب تعبيره. وعلى الأصح درءًا لما قد يحيل حديث كهذا إليه، من فشل ذريع للمخططات الإسرائيلية المتعلقة بقطاع غزة التي لا تسقط الحاجة إلى عدم طيّ صفحتها بمجرّد انسحاب الاحتلال العسكري والاستيطاني منه.

ما الذي يستدعي هذه الملاحظة الأخيرة، في سياق حديث عن قراءة لما بعد فك الارتباط؟.

لا يواري غازيت، في مقاربته ضمن نشرة "مركز يافه" المذكورة، أن النوايا المعلنة لشارون من وراء الخطة إياها، والتي تصب جميعها في مصب "حماية مستقبل الدولة اليهودية" من الخطر الديمغرافي العربي الداهم، تشكّل أرضية كافية يمكن الركون إليها لتزكية الخطة، من طرفه.

في الوقت ذاته من شأن الملاحظة المستحضرة من نطاق آخر أن تؤشر إلى ما يواريه الكاتب من دوافع أخرى كامنة خلف الخطة، ليس أبسطها أن أية خطوات أحادية الجانب لا يمكنها أن لا تتأثر بما حصل ويحصل لدى الطرف الآخر، المقابل، وعلى المستويين الإقليمي والعالمي. وإن عدم النظر إليها يعني، ببسيط العبارة، التسليم بالدوافع الإسرائيلية فقط.

مع ذلك يبقى السؤال المطروح: ماذا بعد فك الارتباط؟

إذا عنا إلى مقاربة غازيت فإنه ستقف في مركز السياسة الإسرائيلية في المدى القصير، وفق قراءته، الرغبة العارمة في عدم إلحاق شروخ إضافية بالنسيج الاجتماعي الإسرائيلي، الذي تخلخل كثيرًا "تحت وطأة الانسحاب من غزة، وإخلاء المستوطنات في القطاع وشمال الضفة الغربية". ولذا فمن المتوقع أن تنتهج إسرائيل، ما بعد فك الارتباط، سياسة عامة غايتها أن تمتنع بوضوح عن اتخاذ أية خطوات انفصال إضافية عن الضفة الغربية. وستكون الأعمدة الرئيسية لهذه السياسة هي: استكمال بناء الجدار الأمني، الذي سيستحيل إلى جدار فاصل وإلى خط حدودي غير مباشر. وفي موازاة ذلك تتواصل أعمال الاستيطان في غالبية المناطق الواقعة خلف الجدار.

غير أن من شأن سياسة كهذه أن تترتب عليها في العموم ثلاثة أمور بارزة:

(*) الأول- هذه السياسة ستجرّ، عاجلاً أم آجلاً، إلى تجدّد الكفاح العنيف من جانب الفلسطينيين.

(*) الثاني- ستعيد هذه السياسة إسرائيل إلى مكانتها الدولية المهتزة، التي كانت واستشرت قبل قبل إطلاق خطة فك الارتباط، من قبل رئيس الوزراء أريئيل شارون.

(*) الثالث- يتطلب إتباع هذه السياسة أثمانًا باهظة، سياسية واقتصادية. وهذه الأثمان تتعلق، أساسًا، بتعزيز الاستيطان وضمان أمنه.

وهكذا فإن ما يقوله غازيت، في العمق، أن الأحادية ليست وصفة مضمونة لأي شيء. وهي بكل تأكيد ليست وصفة مضمونة لسهولة الطريق أمام المخططات الإسرائيلية.

وإذا أخذنا "خطة فك الارتباط عن غزة" كنموذج، فإن أكثر ما يسترعي الاهتمام في المقاربة هو اعتراف غازيت بأن نجاحها غير متوقف فقط على خطوات إسرائيل الأحادية الجانب، وإنما هو منوط أساسًا بإنجاز أمرين متصلين، يوجزهما على النحو التالي:

(*) الأول- أن يحمل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع طابع الانسحاب الكامل والتام إلى خطوط 4 حزيران 1967.

(*) الثاني- أن يسفر هذا الانسحاب عن الإنهاء المطلق لسيادة إسرائيل على هذه المناطق.

ومع أن الكاتب يشدّد على أن خطوط الرابع من حزيران من وجهة النظر الإسرائيلية ليست موضع خلاف فيما يختص بقطاع غزة، خلافًا لما هي الحال عليه بالنسبة للضفة الغربية، فإنه لا يمكن في الوقت نفسه، وهذا برأينا نحن، استمرار التنكر لوجود "لاعبين" آخرين في الحلبة- هؤلاء يشكلون أيضًا أطرافًا معنية بأية خطوات مستقبلية، حتى لو جزمنا بأنها ستمضي قدمًا في منحى الأحادية، على ما يؤكد غازيت وغيره من الساسة والمحللين الإسرائيليين.

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات