المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات وأراء عربية
  • 1002

خمس سنوات مرت على الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، وذهبت سدى كثرة من التحليلات التي أفرطت في التشاؤم أو التفاؤل على حد سواء. فالانسحاب الإسرائيلي لم يقد إلى حرب شاملة مع كل من لبنان وسوريا مثلما لم يقد إلى إبرام اتفاقيات سلام. ورغم أن العديد من أوجه التوتر على جانبي الحدود زالت ولم يبق لها من أثر، إلا أن واقع العداء لم يتغيّر، بل إنه لا أحد يتصور بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه الى وقت طويل. وكثيرون يرون أن الواقع القائم الآن هو حالة انتقالية تمهّد إما لسلام أو لحرب وفق معطيات الظروف الإقليمية لا اللبنانية وحسب.

 

ومع ذلك فإن السجالات في إسرائيل حول لبنان والانسحاب العسكري منه بعد غزوه لم تتوقف.

ورغم أن أغلبية المعارضين للانسحاب قبل تنفيذه تراجعوا عن هذه المعارضة، فإن قلة منهم ما زالت ترى في الانسحاب من الجنوب اللبناني إشارة سيئة لإسرائيل. وفي نظر هؤلاء فإن الانسحاب مثّل تجسيداً لفكرة التراجع التي يجب دفع العرب إلى عدم التفكير أبدا بقابلية إسرائيل على تنفيذها.

غير أن الجانب الأهم في السجال الذي ما زال متواصلاً هو ذلك المتعلق بأثر الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني على نشوب الانتفاضة الفلسطينية الثانية. ويرى أصحاب هذا الرأي أن القيادة الفلسطينية، فضلاً عن الجمهور الفلسطيني، اقتنعوا بإمكانية دفع إسرائيل للتراجع عن طريق استخدام القوة ضدها، وأنه لو لم تقم قيادة "انهزامية" كقيادة إيهود باراك، الذي كان رئيسا للحكومة، لما نشبت الانتفاضة. وكان من أصحاب هذا الرأي أريئيل شارون نفسه، الذي أقحم إسرائيل في حرب "سلامة الجليل" التي بدلاً من أن تستمر ثماني وأربعين ساعة تواصلت ثماني عشرة سنة.

ولكن شارون، المعترض على "انهزامية" إيهود باراك، أدرك متأخرا أن نتائج العمل السياسي في الشرق العربي لا تقاس فقط بمعيار الأبيض والأسود، وأن بالإمكان أحيانا الاكتفاء بشيء من اللون الأبيض للإعلان عن تحقيق النصر. وهذا ما دفع الكثيرين من مؤيدي الانسحاب في ذلك الحين إلى المطالبة بنوع من "توجيه ضربة قوية للبنان نعلن بعدها عن الانتصار الكبير ونقوم بالانسحاب".
وهكذا فإن الحديث عن أثر الانسحاب على الوضع في فلسطين لا ينحصر فقط في أثر ذلك على الانتفاضة وإنما يتعداها للحديث عن الوضع داخل إسرائيل نفسها. فقد مهّد الانسحاب "من طرف واحد" من لبنان لخطة شارون حول الانسحاب "من طرف واحد" من قطاع غزة. كما أن التأييد الواسع لخطة الفصل في صفوف اليسار والجمهور الإسرائيلي يعود في جزء كبير إلى التأييد الذي رافق الانسحاب من لبنان.

ومن الجائز أن المفارقة الكبرى تكمن في أثر الانسحاب من لبنان على أريئيل شارون شخصيا، الذي كان صاحب الفكرة الكبرى باستخدام لبنان بوابة لإعادة صياغة الشرق العربي بأسره. ولكن هذه المفارقة لم تدفع شارون حتى الآن إلى الإيمان بأن استخدام القوة غير مجد، إذ لا يزال على قناعته بأن القوة وحدها هي الطريق الأفضل للتعامل مع العرب، ولذلك فإن خطة الفصل، في نظره، توفر لإسرائيل عوامل قوة إضافية. والحقيقة أن هذا كان أيضا مبرر إيهود باراك الذي كان يرى أن إسرائيل خارج الأراضي اللبنانية تكون أقوى وتستطيع توجيه ضربات شديدة للبنان إذا ما تعرضت أراضيها ومواطنوها لأية مخاطر من لبنان.

غير أنه بقدر ما كان الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عامل إلهام في فلسطين، لم ينحصر في الدافع لاستخدام القوة، وإنما كذلك في انتهاج الأساليب التي ذكرت الإسرائيليين بالجنوب اللبناني. فهناك العبوات الناسفة والصواريخ التي حاولت بلورة قدرة ردعية فلسطينية لمنع الاعتداءات الإسرائيلية، وذلك وفق الصيغة التي انتهجها حزب الله.

وفي هذا السياق يمكن النظر إلى حقيقة أن الانسحاب من لبنان وفر اختباراً ليس فقط لمحاولات الفعل في قطاع غزة بعد الانسحاب وفق خطة الفصل. وهذا ما يشير إليه العديد من القادة والمعلقين العسكريين الإسرائيليين، وخصوصا لجهة استخدام الصواريخ وتشكيل قدرة درعية. فهناك إلى جانب ذلك مسألة لا تقل أهمية وهي طبيعة المعادلة التي يمكن خلقها في ظل استمرار المقاومة ووجودها.

وقد أفلحت المقاومة اللبنانية في الإبقاء على نفسها كقوة ردع في مواجهة عمليات التسلل والاختراق والردع الإسرائيلية. ورأينا ذلك في الرد على الطلعات التجسسية الجوية، وفي الرد على عمليات الاغتيال أو قصف المناطق الحدودية. وهناك من يؤمن بأن الهدوء القائم على جانبي الحدود، عدا مزارع شبعا، يعود أصلاً إلى توازن الرعب الذي خلقته المقاومة.

ومن الملاحظ أن توازن الرعب هذا أتاح للمرة الأولى في تاريخ العلاقات الإسرائيلية العربية لحكومة مثل حكومة شارون أن "تضبط" نفسها في كثير من الحالات التي تعرضت فيها "أراضيها" أو مواطنوها لعمليات عدائية. وكلنا يذكر أن العلاقات الجيدة بين النظام الهاشمي وإسرائيل لم تمنع في الخمسينيات والستينيات القوات الإسرائيلية، وبعضها قيادة شارون، من ارتكاب مجازر في قبية والظاهرية.

وفي كل الأحوال ليس ثمة ريب في أن الانسحاب الإسرائيلي من لبنان لم يتم إلا بفضل الفعل المقاوم ودماء الشهداء وصمود الجمهور، وهذا ما تحاول فصائل المقاومة والجمهور الفلسطيني فعله مع خطة الفصل في غزة.

المصطلحات المستخدمة:

باراك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات