في عام 1999 سنحت لي فرصة تقديم محاضرة أمام مجموعة من اليهود الأميركيين في نيويورك حول الواقع المَعِيش في المكان الذي قدمتُ منه.
في ذلك الوقت، كما هي عليه الحال اليوم، لم يشكل الواقع إطراء لدولة إسرائيل. وفي نهاية المحاضرة، التي لاقت آذانًا صاغية، وإن كانت مشدوهةً، توجّه إليّ أحد الحاضرين، وهو رجل أعمال ناجح في أواخر الأربعينيّات من عمره، وسألني عن مسألة لم أطرحْها في محاضرتي، غير أنّها ذات شأن بالنسبة إليه بشكلٍ شخصيّ. لقد سألني حول رأيي في موضوع عدم اعتراف دولة إسرائيل بالتيّار الإصلاحيّ في اليهوديّة. وكان جوابي التّعبير عن الدّهشة من السّهولة التي يقوم بها الشّخص بمنح صلاحيّة لموظّف حكوميّ في دولة أجنبيّة ليحدّد له هويّته. بدا الرجل متفاجئًا من إجابتي، وابتسم لي بدماثةٍ. كان واضحًا لي أنّ المنطق الكامن في إجابتي لا يقنع ذلك الشخص الذي ترعرع، على ما يبدو، على مقولة قاضي المحكمة العليا الأميركي لويس براندايس (شغل كرسي القاضي فيها بين السنوات 1916 – 1939)، الذي قال إنّ "التّجربة العمليّة والتأمّل في الحياة أقنعاني بأنّه بغية أن نكون أميركيين أفضل، علينا أن نكون يهودًا أفضل، وكي نكون يهودًا أفضل يجب أن نكون صهيونيين".
ثمّة شكّ كبير في ما إذا كان الواقع هنا قبل عام 1948، خلال هذا العام، أو بعده، قد شوهد من الولايات المتحدة الأميركية، أو في ما إذا كانت ثمّة رغبة ما في النظر إليه. على أيّة حال، في العامين 1963 و1964 زار إسرائيل بروفيسور جورج فريدمان، وهو عالم اجتماع يهوديّ فرنسيّ يحظى بشهرة عالميّة ومؤيّد لإسرائيل. وبعد مرور عام على زيارته الأخيرة لإسرائيل كتب كتابًا يحلّل فيه المجتمع الذي صادفه. لم يلحظ عالم الاجتماع الفرنسي وجود الحكم العسكري المفروض على السكّان الأصلانيين، الأقليّة العربية الفلسطينية. لكنه استخلص في كتابه أن شعبًا جديدًا يتشكّل كلّ يومٍ في إسرائيل، وهو ليس الشّعب اليهودي، إنّما الأمّة الإسرائيلية، وذلك قبل أن يُنشر كتابا كلّ من بنديكت أندرسون وأريك هوبسباوم حول صيرورة الشّعوب.
شكّل كتاب عالم الاجتماع الفرنسيّ مرجعا رئيسيا للسيد طمارين عند توجّهه إلى المحكمة العليا، من أجل إلزام السّلطات بتسجيل قوميّته في بطاقة الهوية كقوميّة إسرائيلية لا كقوميّة يهودية. رئيس المحكمة العليا، حينها، شمعون أغراناط، الذي ولد وترعرع في شيكاغو الأميركية، ردّ طلب طمارين بمنهجيّة من خلال تأكيده على وجود شعب يهودي وعدم وجود أمّة إسرائيليّة. وقد استخدم وثيقة استقلال دولة إسرائيل كأداةَ إثبات جيّدة في ما يتعلق بغائيّة دولة الشعب اليهودي وماهيتها، عندما أجرى مقارنة بين المنادين بالإسرائيلية والانفصاليين في جنوب الولايات المتّحدة الأميركية زمن الحرب الأهليّة هناك. وممّا ذكره أغراناط، أيضًا:
"وعليه، إذا كان في البلاد اليوم- بعد مرور 23 سنة على قيام الدولة فقط- طُغمة من النّاس- أو حتى أكثر من ذلك- يُطالبون بالانفصال عن الشّعب اليهودي وإكساب أنفسهم مكانة أمّة إسرائيلية منفردة، عندها يجب ألاّ يُرى هذا التوجّه الانفصاليّ توجّهًا شَرعيًّا ويجب منع الاعتراف به، أما مبدأ الحقّ القومي في تقرير المصير فلا يمكن أن يكون مبرّرًا له".
قرار الحكم الصّادر عن أغراناط في ما عرف باسم "قضيّة طمارين" يحدث صدعا في مواقف متنوّرة تنتقد الصهيونية. من وجهة نظر أغراناط، هناك شعب يهوديّ فقط، في إسرائيل والعالم، ولا وجود لشيء اسمه إسرائيليّة. المميّز الأساسيّ لهذا الشعب هو التضامن الذي يشعر به أبناء هذا الشعب كلّ إلى الآخر. هو في جوهره، إذًا، ليس نفيًا للمهجر، إنّما هو نفي للإسرائيلية. ينفي أغراناط مجرّد وضع مواليد البلاد اليهود - الصبّار- في مركز التشكّل القومي اليهودي، ذلك بخلاف ما رآه عالم الاجتماع الفرنسيّ في أعقاب زياراته.
ومع ذلك، موقف أغراناط هذا يضعه في مكان مختلف عن المكان الذي وضعه فيه التيّار المركزي في التربية القانونية في إسرائيل، كفارس حقوق المواطن في المحكمة العليا، ذلك الذي نصّ قرار الحكم الأسطوريّ في قضيّة "كول هعام" سنة 1953. ينفي أغراناط فهم الفرد لهويّته، لمشاعره، لصيرورته. كان في إمكان أغراناط أن ينصّ قرار حكم يردّ طلب طمارين، أساسه أوامر القانون، مثلما فعل القاضي كوهن، إلا أنّه فضّل ترسيخ مواقفه المبدئيّة، ومضمونها فهمه للمسألة القوميّة، في أوراق قرار حكم صادر عن المحكمة العليا، ليكون بهذا شريكًا فاعلاً في عمليّة تشكيل الأمّة بيد مؤسّسات الدّولة الرسميّة.
تحصل يهودية المهجر على اعتراف آخر في قرار الحكم الصادر عن المحكمة العليا (11 قاضيًا) من يوم 31.3.2005 في مسألة "تهويد القفزة". كان السؤال المطروح هو هل من يمكث في إسرائيل مكوثًا قانونيًّا، وكان قد تهوّد خارج البلاد بيد جالية يهودية معترف بها، يُعدّ يهوديًّا في ما يتعلّق بقانون العودة. ردّ القاضي باراك بالإيجاب. كذلك كان رأي الأغلبيّة. واختلفت تسويغات القضاة الأربعة الذين شكلوا أقلية في هذا القرار: أعربت القاضية بروكتشيا عن موقف يرى أنّه من المبكّر جدًّا تنشيط الرقابة القانونية، فيجب تمكين السّلطة المخوّلة من الاستعداد لموضوع الاعتراف بالتهويد الذي تمّ بيد جالية يهودية معترف بها في خارج البلاد؛ ذكر القاضي غرونيس أن الاعتراف بالتّهويد السالف الذكر سيفتح الباب أمام جهات مشكوك في أمرها بالحصول على المواطنة بسهولة؛ أما القاضيان المتديّنان طيركل وليفي فقد أكّدا على الأهمية الدينية للموضوع، وعلى ضرورة أن تمتنع المحكمة عن مناقشة مسألة التهويد والحسم فيها.
يكشف قرار الحكم هذا مرّة أخرى حقيقة وجود مفهومين للمواطنة في إسرائيل. ينفي قانون العودة مقولة رئيس المحكمة العليا السّابق، مئير شمغار، الذي رأى أنّ "وجود دولة إسرائيل كدولة الشعب اليهودي لا ينفي طابعها الديمقراطي، مثلما أن فرنسيّة فرنسا لا تنفي طابعها الديمقراطي". الفرق بين نظامي حكم الدولتين واضح من تلقاء نفسه. فالفرنسية غير منوطة بشكل بنيويّ ومتأصّل بديانة ما، مثلما تُنيط دولة إسرائيل ذاتها بالدّيانة اليهوديّة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن فرنسا تعرب عن رغبتها الدائمة في علمنة مؤسّساتها الرسمية، وهي، على أي حال، لا تتخيّل شعبًا يتواجد في كل أنحاء المعمورة، لا يطمح لشيء إلا العودة إلى حدود وطن لا تاريخي. أي أن مفهوم المواطنة يختلف في فرنسا جذريا عن نظيره الإسرائيلي، بحيث يتم تأسيس المفهوم الفرنسي للمواطنة على الجغرافيا، أما إسرائيليا فالدين هو العامل المركزي في تحديد المواطنة وجودتها.
يمنح قانونُ العودة اليهوديَّ مواطنةً آلية، أيًّا كان مكان مكوثه، في اللحظة التي يرغب فيها بهذه المواطنة. كما أنّ الدول تستثمر، أيضًا، موارد ملموسة من أجل تنمية مثل تلك الرغبة بين اليهود مواطني الدول الأخرى. يحدّد قانون المواطنة إجراءً تدريجيًّا، يكون في أحيان متقاربة متصلّبًا جدًّا، للحصول على المواطنة. تستثمر الدولة موارد مادّية ورمزية في سبيل تقليص إمكانية توطين من هم ليسوا بيهود. الجهد الأبرز في السنوات الأخيرة في هذا الاتجاه هو تعديل قانون المواطنة (2003) الذي ينفي إمكانية لمّ الشمل بين فلسطينيين من إسرائيل وفلسطينيين من المناطق المحتلة عام 1967. لا تزال محكمة العدل العليا تماطل في الحسم في مسألة دستورية تعديل القانون هذا، وهي تقوم، عمليًّا، بإضفاء شرعية على الاستمرار في إخلال واضح وملموس لحق إنسان أساسيّ، هو الحق في العائلة.
موضوع قرار الحكم في قضية "تهويد القفزة" لم يكن لمّ شمل العائلات، لمواطن/ة مع زوجته/ زوجها غير المواطنين. إنّما كان الحديث عن الرّغبة في الاعتراف بأفراد كيهود وفقا لقانون العودة. أي أن الرّغبة هي في التوطن حسب المسار الرئيسي نحو دولة اليهود، من خلال تجاوز احتكار التيار اليهودي الأرثوذكسي، الذي يسيطر على إجراء تحديد من هو اليهودي في إسرائيل. لم يُدّع أمام محكمة العدل العليا أن الملتمسين موجودون في ضائقة حقيقيّة، من قبيل منع السلطات مكوث الزّوجين داخل الدولة. كما أنّ قرار محكمة العدل العليا، أيضًا، لم يتطرّق إلى هذه القضية. يُستنتج أن ما مَثُل أمام المحكمة لم يكن إخلالاً لحق إنسان ملموس، إنما كانت المسألة عامّة أكثر، تلازمها تبعات جماهيرية ودينية في غاية الأهمية. لم يُدّع أمام محكمة العدل العليا، أيضًا، أن أمام الملتمسين إمكانية واحدة، فقط، ليكونوا مواطنين في إسرائيل، وذلك حسب قانون العودة. علمًا أن الملتمسين كانوا قادرين، لو أرادوا ذلك، على التوطّن وفق المسار الطويل والمضني الخاصّ بقانون المواطنة، مع الفارق بين هذا والمسار المباشر الخاصّ بقانون العودة. لا مناص، عمليًّا، من استخلاص الاستنتاج أن هذا الالتماس شكّل تحدّيًا لهيمنة التيار الأرثوذكسي في اليهودية، المسيطر في قضايا الدين في إسرائيل.
في مقابل أغراناط في "قضيّة طمارين"، الذي حاول وضع الأسس لقوميّة يهوديّة استنادًا إلى نظريات علمية، وحتى من منطلق ليبراليّ حيث يقتبس في هذا السياق بروفيسور بنيامين إكتسين، يتبع القاضي أهارون باراك خطابا قومجياّ يسير بدقّة إثر خلاصيّة بن غوريون بشأن قانون العودة الذي أسّس دولة اليهود، وليس العكس. ويستغرب باراك لعدم إتاحة موقف الدولة الإمكانية أمام من تهوّد إمكانية الانضمام إلى الشعب اليهودي في أرض إسرائيل، إلى الشّعب ذاته الذي يسكن أرض صهيون:
"ولماذا نمنع الاعتراف بتهويد تمّ لدى جالية يهودية معترف بها إذا كان المتهوّد يطلب الانضمام إلى الشّعب اليهودي الذي يسكن أرض إسرائيل؟ وبالأحرى، لماذا يُمنع الاعتراف عمّن يسكن في إسرائيل حسب القانون، وكلّ ما يريده هو ضمان الاعتراف بانضمامه إلى الشّعب اليهودي السّاكن في أرض صهيون؟".
يكمل القاضي حيشين، عبر ابدائه رأيا مقتضبا، الأيديولوجيا البنغوريونيّة الكامنة في صلب رأي القاضي أهارون باراك. صحيح أن حيشين يجري ملاءَمة طفيفة في تسجيل التاريخ الرسمي، حيث يلاحظ، هنيهةً، معاناة لاجئي الحرب العالميّة الثانية، وواقع مجمعات اليهود الشرقيين في بداية سنوات الخمسين من القرن الماضي، إلا أنه سرعان ما يعود إلى اتّجاه المسار الرسمي، فينفي الغنى الثقافي، واختلاف، وتاريخ الجاليات اليهودية في العالم، ويُخضعهم إلى قاعدة تاريخية واحدة ووحيدة، تميّزهم عن الآخرين، وهي الحنين إلى الأرض التي تنطف حليبًا وعسلاً، أرض إسرائيل:
"القضيّة ليست بسيطة وسهلة؛ ذلك لأن المتهوّد لا ينضمّ إلى الديانة اليهودية، فحسب، كمن كان بروتستانتيًّا وأصبح كاثوليكيًّا. يقوم المتهوّد بالانضمام إلى شعب، إلى أمة، إلى تاريخ، إلى ثقافة عمرها آلاف السنين لشعب سكن في الماضي أرضه؛ شعب غالبيته الساحقة سكنت آلاف السنين في غير أرضها وإنما في "المهجر"؛ والآن يُجمع شتاته ويعود هو إلى أرضه التاريخية. ليس الانضمام إلى الشعب اليهودي أمرا مفروغا منه. وحتى إن أصبح المتهوّد قائمًا بواجباته الدينية، فليس من السهل أن يمتزج في الثقافة الواعية وغير الواعية للشعب اليهودي، في اللغة، في الأعياد، في المسلك الفكريّ".
نعم، مركزية أرض إسرائيل غير قابلة للطعن، وهي تحتمل صلة واحدة بها، الانضمام إلى الشعب اليهودي، ذلك الشعب الذي سكن أرض صهيون. ليست المواطنة هي التي تُحدث الصلة بالمكان، كما ليس الوجود الفعليّ فيه. حيث إنه في هذه الحال لا يكون الحديث عن أرض إسرائيل ولا صهيون، إنما عن حيز آخر تمامًا، مفرغ من الشحنات الدينية والأيديولوجية لمُحيي أرض يباب. وزن هذا الحيز خفيف خفّة الريشة، إلا أنه محمول في أفئدة أناس كثيرين لم تُمحَ بعدُ ذاكرتهم عن مكان مولدهم، نشأتهم، عشقهم، وطردهم.
(*) محام في "عدالة"- المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل