تسعى إسرائيل جاهدة كدولة قومية وشائجية لمواجهة احتمال تحولها إلى دولة تعددية ثقافية، بمعنى الاعتراف بوجود مجموعات ثقافية وسياسية، قومية أو عرقية في الدولة وبحقّها في الحيّز العام وفي الخير العام وبحصّتها في السلطة.
صحيح أن النُخب أقرّت بفشل مشروع "أتون الصهر" بصيغته البن غوريونية إلا أنها لم تتنازل عن رغبتها في دمج كل المجموعات تحت مظلّة هيمنة ما، تقبل التعددية فولكلورًا وأنتروبولوجيا وعددًا ولا تقبلها جوهريًا وسياسيًا.
المهاجرون مطالبون بالاندماج بما في ذلك غير اليهود منهم. والعرب كأقلية وطن مطالبة بذلك. هيمنة ترفض الاعتراف بهويات ثقافية بمعنى الحقوق الجمعية. هناك الدولة اليهودية الديمقراطية، وهذا هو السقف الذي يستظلّ به الجميع. أما اذا انوجدت فروق، وهي موجودة، فينبغي ألاّ تخرج عن هذا السقف. ويعبّر عن هذه الفلسفة ما نشهده من نقاشات ومقترحات في إطار عملية الدسترة الجارية. هيمنة تفترض أن على الثقافات المغايرة القائمة أن تتحوّل وتتشكل وتتغيّر على نحو يمكن للنخب المهيمنة أن تهضمها وتتعايش معها. وهذا ما يجعل لعملية الاندماج ثمنًا تدفعه المجموعات الراغبة في الاندماج أو التي يُفرض عليها ذلك.
وعملية الاندماج، في حال حصولها، تتمّ عند المندمجين على نحو متفاوت ومختلف. فيظلّ أسهل على روسي مسيحي أن يندمج من عربي فلسطيني. حتى العامل الأجنبي، إذا لم يكن من أصل أفريقي أو أصفر، فإنه إذا ما تجنّس يعيش عملية اندماج سهلة قياسًا بعربي مصرّ على عروبته. وهذا لا يعني أن غير اليهودي من غير العرب لا يجد صعوبة في الاندماج لكنه لا يتعرّض للحواجز التي يواجهها العربي هنا لأن تعاطي الدولة والنخب المهيمنة فيها مختلف مع الأفراد المنتمين للمجموعات المختلفة وللمجموعات نفسها. فاندماج الأفراد يختلف عن اندماج المجموعات لا سيّما أن الليبرالية الإسرائيلية تتسّع لمفاهيم حقوق الفرد، المواطن والإنسان (قانون أساس كرامة الإنسان وحريته وحرية الاشتغال) لكنها كما أسلفنا لا تقبل منح حقوق جماعية خارج حدود الثقافة والأحوال الشخصية. ولديها صعوبة في نزعة مجموعات روسية الأصل، يهودية أو غير يهودية، للحفاظ على هويتها الروسية عبر فتح أطر تعليمية بديلة والإتيان بأنشطة فنية وثقافية باللغة الروسية. وعليه، كم بالحريّ في حال كان للمجموعة الفلسطينية هنا رغبة في تعريف نفسها "أقلية وطن" ذات حقوق جمعية تنشد ممارستها وتتطلع إلى ترجمتها. مقابل هذه النزعة تشرئب أعناق النخب اليهودية ويتوقف الدم في الشرايين أو يغلي، على نحو تعود فيه إلى حالة العداء والتمترس أمام خطر داهم!
عرض العضلات الذي تقوم به الدولة ونخبها المهيمنة فيما يتعلق بنا نحن المواطنين العرب (القمع في تشرين الأول 2000، محاولات شطب قوائم انتخابية، محاكمات قياديين، حملات تحريض وإسقاط للشرعية) يؤثر فينا على نحو متفاوت. إلا أنني وبكثير من الحذر أجدني مضطرًا إلى الإقرار بأن من مفاعيل تشديد القبضة والاضطهاد ولادة ما يمكن تسميته "الإسرائيليون الجدد". وهؤلاء ليسوا نوعًا جديدًا من اليهود الإسرائيليين وإنما من "العرب الإسرائيليين".
فهناك انزياح واضح لقطاعات مِنّا نحو مركز القوة الإسرائيلي على نحو يعكس رغبة في الاندماج من خلال قبول شروط النخب الإسرائيلية المهيمنة كالخدمة العسكرية أو ما تعدد من تسميات لها. وهذا الظاهر من الظاهرة، أما المستتر فهو انحراف حاد الرؤية في المواقف والرهان. ويبدو لي من مشاهدات في الحقل ومن مداخلات كتّاب في الصحافة وكلام على المنابر أسمعه أو اقرأه منقولا عبر الصحافة المكتوبة أن هناك قطاعات لا بأس بها في مجتمعنا تسعى إلى دخول "النادي الإسرائيلي" بكل ثمن وعبر كل بوابة مُتاحة ليشكّلوا ظاهرة "الإسرائيليين الجدد". ويبدو لي أن فئات مِنا ذاهبة في هذا الطريق إلى مُنتهاه من خلال تبني الرواية الإسرائيلية للحاضر والمستقبل والانخراط في "قصة النجاح اليهودية" والتحول إلى جزء منها حتى ولو افتراضا.
المسألة ليست فقط بصدد منظومة القهر ومفاعيلها. صحيح أن المقهور يحاول فيما يحاول أن يخرج من دائرة القهر (كمقهور) عبر الانتقال إلى دائرة القاهر، حل التوتر الوجودي والإحباط والقنوط واليأس بتقمصّ الآخر وانتحال حضوره. لكن يبدو لي، أيضًا، أن في التطور الحاصل أبعادًا أخرى منها لعبة الحراك، وهنا الاقتصادي. فالتجربة الإسرائيلية بثقافتها ومواقفها ووجهتها، مهما تناقضت مع كوننا عربًا فلسطينيين فقدوا وطنهم بقيام الدولة اليهودية، إلا أنها تقترح علينا بعض الفرص الاقتصادية أو الكثير منها فنرى البعض مِنا ذاهبًا من باب هذه الفرصة إلى أكثر منها، إلى استنتاج إضافي مفاده أنه لا ضير من الانتقال إلى موقع الآخر والنشاط فيه، كشرطي أو كجندي أو كناشط في الليكود. ولن يكون صدفة أن تجد مِنا مَن يصلون حدود "يسرائيل بيتينو" (إسرائيل بيتنا) أو "هئيحود هليئومي" (الإتحاد الوطني).
ومن الأبعاد الأخرى في هذا التطور هو غياب المرجعية العربية الضابطة، هُنا في الداخل وهناك في الخارج. وهذا يتزامن مع هبوط في منسوب الحالة الفلسطينية عمومًا، ومع غياب مرجعية فكرية أو منظومة ضابطة كما كانت الاشتراكية ومنظومتها لعقود من الزمن.
الشعور بالعجز الجمعي، بقصور في مجموعة الانتماء، في إخفاق مشاريعها، مقابل قصة النجاح الباهر لدولة إسرائيل سياسيًا واقتصاديًا، كما يبدو أو يُخيل للبعض في الراهن، يولّد حركة جذب، من مواقع المنخفضات الانتمائية، من مواقع وهن الهوية الجماعية، نحو مراكز القوّة. وفي حال حصول الحركة، وهي حاصلة فعلاً، تتولد ظواهر "انطعاج"، تقهقر، تريّث، صمت، سكون (وهي حاصلة عندنا) وكذلك ظواهر عبور إلى الضفة الأخرى، وهو حاصل عندنا فيما نسميه "الإسرائيليون الجدد"، وهم مِنا يحاولون دخول خانة الآخر دافعين نقدًا أو بالأقساط كامل الثمن.
حالة يحلو لنا أن نُغفلها حتى لا نتحمّل مسؤوليتها أو مسؤولية التعاطي معها. وفي هذا ضعف آخر يتّصل بسلوكيات الإنكار لدى المقهورين.
ننكر وجود الظاهرة فلا يطالبنا أحد بتحمّل مسؤولياتنا فيها!