المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات وأراء عربية
  • 1005

قراءة في وثائق إسرائيلية ووثائق الأمم المتحدة

لسنا بصدد دراسة شاملة ومستفيضة لما آلت إليه أملاك الطائفة الأرثوذكسية في فلسطين، إلا أن الأحداث الأخيرة تفرض علينا بعض الإضاءات على صفحات، ربما تكون مظلمة.

 

وفي كل الأحوال فهي صفحات سوداء في تاريخ البطريركية اليونانية الأرثوذكسية، ولا أقول الطائفة أو الكنيسة لأن الكنيسة هي الطائفة والطائفة عربية. وإن يكن لدي انتقادات لسلوكيات اجتماعية صدرت وما تزال تصدر عن أبناء الطائفة، وخاصة ممن يرون بأنفسهم مسؤولين، ساهمت وتساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في الوصول إلى ما نحن فيه، إلا أن هذه السلوكيات تعود بالأساس إلى كونهم جزءا من هذا المجتمع العربي بكل سلوكياته وموبقاته، وآمل أن تسنح الفرصة لمناقشتها هي أيضًا.

 

شملت الأوقاف الأرثوذكسية بعد إقامة إسرائيل أموالا منقولة وأخرى غير منقولة. وكانت عبارة عن ودائع وأمانات في بنك باركليس في لندن مسجلة باسم البطريرك اليوناني تيموثاوس أو باسم البطريركية اليونانية أو أحد المطارنة اليونانيين وكيلا عن البطريرك. بالإضافة إلى أملاك غير منقولة من مقدسات ومؤسسات خيرية وتعليمية وأبنية وأراض واسعة خاصة في منطقة القدس الجديدة.

 

ومما جاء في الوثائق الإسرائيلية ووثائق الأمم المتحدة لعام 1952 فقد سجلت الأملاك غير المنقولة بأربعة أشكال: باسم البطريرك بصفته التمثيلية، باسم البطريركية، باسم الطائفة عامة وباسم الطوائف المحلية كلا على حدة. والملفت للانتباه أن المقدسات المسجلة باسم البطريرك في الجليل، حسب تقرير ممثل البطريركية يوم الثامن من أيلول عام 1948، لا تتعدى 14 موقعا وهي موزعة بين الناصرة وجبل الطور وكفر كنا ويافة الجليل وطبريا وكفر ناحوم وبيسان ومعلول وطرعان والشجرة وعيلبون. وما عدا ذلك فهو مسجل باسم الطوائف المحلية أو موقوف وهو غير مسجل بعد.

لقد أصدر بنك باركليس في لندن بيانا (على ما يبدو في العام 1949) بالمبالغ الكبيرة لديه، وبعث به إلى البطريركية اليونانية في القدس يقول فيه: إن الودائع والأمانات حولت لصالح حارس أملاك الغائبين الإسرائيلي، وعليه لا يستطيع البنك إعطاء أي معلومات عن هذه الودائع ولا يستطيع حتى تحويلها إلى فرع البنك في القدس القديمة، هذا مع علم إدارة البنك أن مفاوضات تجري بين البطريركية وحارس أملاك الغائبين للتوصل إلى تسوية.

 

اعترض ممثل البطريركية أمام السلطات الإسرائيلية والبريطانية على تحويل الودائع إلى سلطة حارس أملاك الغائبين وطالب بتحريرها. وبعد مداولات مستفيضة مع وزارة الأديان الإسرائيلية والحكومة البريطانية، وافقت السلطات الإسرائيلية على تحرير الودائع والأملاك الموجودة داخل إسرائيل من حيث المبدأ الاسمي، ونقلوا تطبيق ذلك إلى لجنة وزارية مشتركة. وفي تشرين الأول عام 1949 قررت اللجنة الوزارية هذه تحرير عائدات الودائع والأملاك دون تحرير الأملاك نفسها، والسبب في هذا الإجراء، بموجب وزير المالية آنذاك، هو "وجود هذه الأملاك في أماكن مركزية في القدس الجديدة، وتتمتع بأهمية مصيرية في عملية تطوير المدينة وجعلها عاصمة لإسرائيل". بناء على ذلك، وبإذن الحكومة البريطانية، وافق البنك المذكور في 17/11/1950 على تحويل الودائع إلى فرعه في القدس الجديدة (وليس القديمة) لتبقى تحت السيطرة الإسرائيلية. ومع بداية العام 1951 بدأ حارس أملاك الغائبين بتحرير مبلغ 1500 جنيه استرليني شهريا لحساب البطريركية المقدسية.

بالمقابل بدأ التفاوض ما بين البطريركية اليونانية في القدس والحكومة الإسرائيلية لتأجير الأملاك غير المنقولة في القدس الجديدة إلى دولة إسرائيل لأمد بعيد، والذي يعني بموجب القانون بيعها.

شارك في مفاوضات البيع أو التأجير لأمد بعيد، بالإضافة إلى مندوب البطريركية، مندوب الحكومة اليونانية في القدس. ويقول موظفو وزارة الخارجية الإسرائيلية إنه تفاخر أمامهم بدوره في إقناع البطريرك في قبول الصفقات المقترحة. وأعطت إسرائيل ممثل البطريرك حرية الانتقال عبر بوابة مندلباوم متى شاء وحرية الحركة في القدس الجديدة دون حواجز. إضافة إلى ذلك، أرسلت وزارة الخارجية اليونانية في منتصف عام 1951 مستشارا ماليا إلى البطريرك "لمساعدته في إدارة الشؤون المالية للبطريركية وللخروج من أزمتها المادية". كان ذلك المستشار هو وزير الطيران اليوناني السابق، انسطاسيوس بيكالبسيس، والذي تفاخر أمام القنصل الإسرائيلي في أثينا، بموجب التقارير الإسرائيلية، بالتقدير الذي يكنه لليهود وبأنه سمح للطائرات الإسرائيلية بالتحليق في الأجواء اليونانية خلال حرب 1948.

 

في تقرير بعث به إلى وزارة الخارجية اليونانية أشار بيكالبسيس على البطريرك، على حدّ قول القنصل الإسرائيلي، أن يوافق على بيع أراضي الطالبية إلى حكومة إسرائيل، معللا بأن "المطلب الإسرائيلي عادل وطبيعي، وان الحكومة تستطيع مصادرة الأرض المذكورة بحق". إلا أن البطريركية بقيت خائفة من ردود الفعل العربية، إن كان من جهة الملك عبد الله أو من جهة رجال المفتي في البلدة القديمة، دون أن يحسب للطائفة العربية الأرثوذكسية حساب يذكر. وبالطبع لم تحاول البطريركية تجنيد أي من هذه الجهات إلى صفها للحفاظ على سرية المفاوضات. ولمعرفة موقف الملك عبد الله من صفقة الطالبية سافر بيكالبسيس لمقابلة الملك فعاد يحمل مباركته للصفقة، ومع ذلك لم يطمئن البطريرك فبعث إلى الملك بوفد خاص من رجال الدين عنده، لكي يستمعوا إلى رأي الملك مباشرة ودون وسيط، فعادوا إليه بالرأي نفسه الذي جاء به بيكالبسيس. وفي 18 تموز 1951 بعثت وزارة الخارجية اليونانية ببرقية إلى البطريرك تشجعه فيها على قبول الصفقة. ومع كل ذلك لم يجرؤ على تنفيذها خوفا من رجال المفتي في القدس ومن بعض المعارضين داخل البطريركية، على حد قوله.

 

أحست الحكومة الإسرائيلية أن كل الضغوطات السياسية لم تجد نفعا، وان الحالة المادية الناتجة عن تحرير مبلغ 1500 جنيه استرليني في الشهر لحساب البطريركية، يخفف من فاعلية الضغط عليها، وعليه فقد اقترح موئيسس (القنصل الإسرائيلي في أثينا) تجميد الصرف المالي واشتراط ذلك بموافقة البطريركية على بيع أملاكها في القدس الجديدة، ولكن الإسرائيليين كانوا يخشون دائما من قيام البطريرك بتقديم استقالته احتجاجا على الضغوطات التي تمارس ضده لبيع الأملاك، أو نتيجة مصادرة أملاك البطريركية بالقوة في قلب مدينة القدس، مما قد يخلق لإسرائيل أزمة مع أوروبا المسيحية وربما العالم المسيحي عامة خاصة وان الجمعية العمومية للأمم المتحدة كانت عشية انعقادها، وخوفا من تدخل الدول العظمى لإعادة طرح مشروع تدويل القدس، بالإضافة إلى خوف المسؤولين من انفضاح الأمر فيجلب ردود فعل عنيفة من أبناء الطائفة العربية الأرثوذكسية عشية الانتخابات البرلمانية، واحتمال استخدام الحزب الشيوعي لهذا الموضوع في حملته الانتخابية.

 

في هذه الظروف تقدمت البطريركية بطلب عاجل إلى وزارة الخارجية اليونانية لتلقي مساعدة مالية ولكن طلبها رفض، فقبل البطريرك بالصفقة مشترطا أن "تخصص الأرض، ولو ظاهريا، لحاجات يهودية دينية لكي يسهل عليه تفسير الأمر لمنتقديه، خاصة في ظل التهديدات من طرف رجال المفتي في القدس القديمة". وهكذا تم بيع (تأجير لأمد طويل) الطالبية إلى الكيرن كاييمت ووقع على الاتفاقية بالإضافة إلى طرفي المالك والمشتري، القنصل اليوناني العام في القدس الذي أضاف الختم إلى توقيعه. وكان السمسار الوحيد الذي قبض ثمن عمله رسميا يدعى بلومنفلد. كانت هذه الصفقة بمثابة انهيار للسد الكبير وكسر لحاجز الخوف الذي أبداه البطريرك، لتتبعها صفقات أخرى مع الكيرن كاييمت ومؤسسات إسرائيلية مختلفة.

 

وفي السنة الأولى من اعتلاء المطران بنيدكتوس كرسي البطريركية عام 1957 قام بتأجير/ بيع مساحات أخرى من الأراضي في القدس الجديدة إلى مؤسسات إسرائيلية، بعد أن كان وكيلا لتيموثاوس في صفقة الطالبية، الأمر الذي منحه نفوذا ماليا داخل البطريركية وسهل عليه الوصول إلى كرسي البطريرك. كل ذلك لم يكف الحكومة الإسرائيلية لأنها، كعادتها، تريد كل شيء ولا تكتفي بالقليل ما دامت الإمكانية موجودة.

 

(*) صحفي وناشط في مجال حقوق الإنسان

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات