المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ركّزت "النشرة الإستراتيجية" الأخيرة الصادرة عن معهد "يافه" للأبحاث الإستراتيجية في جامعة تل أبيب (عدد كانون الأول 2004) على موضوعين رئيسيين: الأول "الخطر النووي الإيراني" والثاني "خطة الانفصال" الشارونية عن قطاع غزة وشمالي الضفة الغربية، فيما يفترض إعتباره واقفًا في صلب الهواجس الإسرائيلية الإستراتيجية الراهنة.

وتطرق المقال الافتتاحي للنشرة إلى ما يسميه بـ"إنتهاء عصر عرفات في السياسة الفلسطينية" من خلال التنويه بـ"الفرص الجديدة" لإعادة إحياء عملية السلام الإسرائيلية- الفلسطينية. غير أنه خلافًا للأجواء العامة السائدة حيال هذه "الفرص"، التي اتسمت بالتفاؤل المفرط، كما عكست ذلك خطابات مختلف المسؤولين الإسرائيليين السياسيين والعسكريين في "مؤتمر هرتسليا الخامس" أخيراً، يلتزم هذا المقال الافتتاحي جانب الحذر مشيراً إلى أن رحيل ياسر عرفات "يخلّف الساحة الفلسطينية والساحة الإقليمية برمتها في وضعية من عدم اليقين شبه الكامل، ما يجعل أي تقييم بشأن التطورات المستقبلية الممكنة يستند إلى أساس ضيق للغاية".

أ. في الموضوع الإيراني تناول كاتب المقالة، إفرايم كام، إحتمالات نجاح "الخيار العسكري" الإسرائيلي في "لجم الخطر النووي الإيراني". ويعتقد كام أن هذا الخيار غير مستبعد في ضوء "القناعة" بأن إعلان إيران مؤخراً عن إرجاء نشاطها في ميدان تخصيب اليورانيوم هو "إرجاء مؤقت تحت وطأة الضغط الأوروبي الشديد، ولا يعكس قراراً إستراتيجيًا من لدنها بالكف عن السعي لامتلاك سلاح نووي". وهو في رأيه "خطوة تكتيكية من جانب إيران غايتها أن ترجىء الضغط الشديد الوطأة عليها وأن تدق إسفينًا بين الحكومات الأوروبية والإدارة الأميركية في هذا الموضوع". ويتابع: في حالة تبين صحة هذا الإفتراض فمن شأن الأزمة في الموضوع النووي الإيراني أن تصل، مرة أخرى، إلى مفترق طرق في المستقبل غير البعيد. كما يرى الكاتب أن الخيار العسكري ضد إيران قد يعرض للدراسة في إسرائيل (إذا لم يكن قد عرض أصلاً) فضلاً عن دراسته في أروقة الإدارة الأميركية الحالية. ويشير في هذا الصدد إلى أن التصريحات الرسمية في إسرائيل بهذا الخصوص أشد وضوحًا وصفاءً من التصريحات الأميركية الرسمية. "فلقد أعلن قادة الدولة ورؤساء الجهاز الأمني في إسرائيل، في الأشهر الأخيرة، أنهم ينتظرون نتائج الضغط الدولي على إيران، لكن إذا لم يكن ذلك كافيًا فستضطر إسرائيل إلى الاعتماد على ذاتها وإلى اتخاذ خطوات للدفاع عن نفسها".

يدعو كام، من ناحيته، إلى عدم الاستهانة بالخطر النووي الإيراني. لكنه يشير إلى ثلاثة أسباب جوهرية ترجّح الشك في احتمال لجوء إيران إلى استعمال قدرتها النووية ضد إسرائيل، على رغم نزعتها الأساسية الرافضة لوجود هذا الكيان أساسًا. وهذه الأسباب هي:

1. أن دوافع إيران الكامنة خلف سعيها المحموم لامتلاك سلاح نووي هي دوافع دفاعية- ردعية أكثر من كونها دوافع هجومية.

2. قوة الردع الأميركي وفاعليته.

3. التطورات الداخلية التي تمر بها إيران خلال الفترة القليلة المنصرمة، وفي صلبها ازدياد المطالبة بالإصلاح والحريات، ما يعزز التقدير بأنه "سيتطور في إيران، خلال فترة زمنية يصعب توقعها، نظام أكثر إعتدالا يكون جاهزاً أيضًا لمباحثات مهمة مع الولايات المتحدة وربما مع إسرائيل كذلك".

بيد أن كام يؤكد أن هذه الأسباب، على وجاهتها، غير كافية لأن تجعل إسرائيل تدير ظهرها للخطر النووي القادم من جهة إيران. وفي ضوء تسليمه التأليبي نوعًا ما بأن مواجهة إسرائيل لهذا "الخطر" لا يمكن أن تكون إلا من خلال الخيار العسكري فإنه ينتقل إلى دراسة إحتمالات هذا الخيار مقابل الأخطار المنوطة به. وفي هذا الشأن يؤكد، بصورة لا تقبل التأويل، أن كفة الأخطار أكثر رجوحًا من كفة الاحتمالات، بما يستدعي "أن تدع إسرائيل المنظومة الدولية تستنفد جميع الإجراءات الكامنة في الجهود الدبلوماسية وأن تبقي اللجوء إلى الخطوة العسكرية كوسيلة أخيرة فقط".

إلى ذلك يؤكد الكاتب أنه لا يعني، في الأحوال جميعًا، أن تتخلى إسرائيل عن اللجوء إلى الخيار العسكري، باعتباره وسيلة لا مهرب منها لإيقاف سعي إيران لامتلاك سلاح نووي، مشيرًا إلى أن وجود خيار كهذا "يمكن في الوقت نفسه أن يكون مهمًا من أجل تشديد وطأة الضغط السياسي على إيران". ولذا فإنه يقترح تلبية مجموعة من الشروط من أجل إحراز غايات العملية العسكرية. وهذه الشروط هي:

· بلورة تقييم استخباري دقيق حول وضعية البرنامج النووي الإيراني، عبر الاستفادة مما يسميه "إخفاق استخبارات الدول الغربية عشية الحرب على العراق" (في تقدير مدى إمتلاكه لأسلحة الدمار الشامل).

· تركيز معلومات إستخبارية دقيقة ليس فقط حول المنشآت المعروفة وإنما أساسًا حول إمكانية وجود منشآت غير معروفة للقاصي والداني. وذلك بهدف القضاء على البرنامج النووي الإيراني مرة واحدة وأخيرة.

· تقييم عال لاحتمالات نجاح العملية العسكرية.

· القيام بتنسيق مسبق مع الولايات المتحدة.

· نشوء ظروف دولية تساعد في تبرير العملية العسكرية، مثلاً في أعقاب إعلان إيران عن إلغاء توقيعها على معاهدة حظر نشر السلاح النووي، أو عقب الكشف عن تفاصيل جديدة مثيرة في برنامجها النووي.

أخيرًا يقترح كام أن تكون إسرائيل مستعدة لسيناريو يفيد بأن إيران تمتلك منذ الآن سلاحًا نوويًا على رغم الجهود المتواترة لكبح جماح برنامجها. سيناريو كهذا يستوجب، في رأيه، أن تدرس إسرائيل من جديد مفهومها الأمني وبضمن ذلك أن تدرس سياستها الضبابية بشأن مقدرتها النووية. كما يستوجب الوصول إلى إتفاق مع الإدارة الأميركية تعلن هذه الأخيرة بموجبه أن أي هجوم نووي إيراني على إسرائيل أو على سائر حلفائها سيعتبر هجوما على الولايات المتحدة نفسها وسيحظى برد مناسب تبعًا لذلك. ومن المفضل أن يشمل هذا الاتفاق تحذيرًا حتى من مغبة أي تهديد بهجوم نووي على حلفائها أيضًا.

ب. المقالة الخاصة بخطة الإنفصال الشارونية كتبها يعقوب عميدرور. وإن منطلقه الرئيسي فيها هو أن الخطة المذكورة هي لا أكثر ولا أقل من إنسحاب أحادي الجانب، وهو ما يراه "خطرًا أمنياً بمعيار تاريخي".

يشير عميدرور إلى أن هناك صعوبة في مقايسة الانسحاب الأحادي الجانب المقرّر من غزة وشمالي الضفة الغربية مع الانسحاب المماثل من جنوب لبنان، وذلك في ضوء ما يسميه "خروج مصر من الصورة". ويضيف في هذا الشأن: "بدا لفترة معينة أن ثمة إحتمالاً بإدخال مصر إلى الصورة. لكن اتضح أن ذلك كان مجرد وهم ناجم عن عدم معرفة بسياسة مصر. ويظهر اليوم أن مصر ستوافق، في أكثر تقدير، على أن تحسن قليلا جهودها، التي كانت ضئيلة حتى الآن، في منع تهريب السلاح إلى غزة وستساعد في تدريب قوات الأمن الفلسطينية. خروج مصر من الصورة لا يتيح بناء تقدير على أساس النموذج اللبناني". ويتابع: "إن من يحفظ التوازن الهشّ في لبنان الآن ويحول دون التدهور- الذي تنبأ به البعض منّا بخصوص استمرار قتال حزب الله بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي- هو سوريا، التي تخشى أن تدفع ثمن الحرب في الشمال. وفي ظل غياب مصر عن ساحة غزة لا يبدو أن هناك قوة ترى من جهة أن ثمة خطرًا إسرائيليًا ولديها من جهة أخرى المقدرة بأن تفرض على الفلسطينيين وقف الإرهاب".

في رأي الكاتب أن هناك أساسًا قويًا للافتراض بحدوث التطورات التالية إرتباطًا بهذا الانسحاب:

1. خروج قوات الجيش الإسرائيلي من غزة سيكون خطوة حبلى بالكوارث من ناحية تكتيكية، حيث أنها ستجلب صواريخ القسام الحالية إلى قلب عسقلان، التي سيصبح مصيرها مثل مصير سديروت. وفي حالة ازدياد مدى الصواريخ ستدخل بلدات إسرائيلية أخرى في نطاقها.

2. ليس معروفًا بعد ما هو مدلول الإنسحاب من شمالي الضفة، وهل سينجم عنه خطر إطلاق صواريخ على مركز دولة إسرائيل. سيبقى الأمر منوطًا بنطاق حرية نشاط الجيش الإسرائيلي في ذلك الحيّز.

3. سيؤدي الإنفصال إلى تقلص كبير في مقدرة إسرائيل على أن ترد ميدانيا- في غزة كما في شمالي الضفة- على تطورات من صنف إطلاق صواريخ. وهذا التقلص سينجم بالضرورة عن الانخفاض المرتقب في مستوى الاستخبارات وزيادة على ذلك الانخفاض في حرية تفعيل القوة التنفيذية. وسيفقد الجيش الإسرائيلي قدرته على محاربة خط الإنتاج وعمليات إطلاق صواريخ القسام.

4. سيكون من الأصعب الدفاع عن خط السياج في غزة عندما لا تكون في طرفه الآخر قوة إسرائيلية يمكن أن تشكل حاجزًا أمامه.

5. إذا ما وهنت، بمرور الوقت، السيطرة الإسرائيلية على محور "فيلادلفي"، أو إذا ما أقيم ميناء بحري في غزة، أو إذا ما تجدّد الطيران إلى المطار الذي أقيم هناك في الماضي، حسبما جرى الوعد في اتفاق أوسلو، عندها ستهرّب إلى المنطقة صواريخ تقع في مداها كريات جات ومشارف أشدود الجنوبية وستهرّب كذلك صواريخ مضادة للطيران ستمنع حرية نشاط سلاح الجو فوق غزة بل وفوق سماء دولة إسرائيل المجاورة للسياج.

إجمالاً- يؤكد عميدرور- توشك إسرائيل على أن تقيم في غزة دولة ستكون لـ"حماس" حرية نشاط فيها، دولة ستكون مرتبطة من حبل سرّتها مع حزب الله. في اليوم الذي ستفقد فيه إسرائيل مراقبتها الصارمة على حدود القطاع من البحر والجو سيتم هناك تشييد خطر على شاكلة الخطر في لبنان- صواريخ تهدد بلدات إسرائيل في مدى عشرات الكيلومترات. وستفقد إسرائيل قدرتها بالرد على الإرهاب الذي سيخرج من غزة، مثلما أنها لا تحارب الآن الإرهاب الخارج من لبنان (80 بالمئة من عمليات الإرهاب التي تخرج من الضفة الغربية يتم تنفيذها على أيدي منظمات تتلقى المساعدة والتمويل من حزب الله، وإسرائيل لا تفعل شيئًا للقضاء على هذه الظاهرة عقب خشيتها من إطلاق صواريخ من جانب حزب الله).

وفي رأي عميدرور أن الأخطر من كل ما تقدم ذكره يكمن في ما سيلحقه الانسحاب الأحادي الجانب من مسّ في مفهوم الردع الذي تبذل إسرائيل (والعالم الديمقراطي) أقصى الجهود لبنائه في مواجهة "موجة الإرهاب العالمي". وبانسحابها تثبت إسرائيل على رؤوس الأشهاد أن الإرهاب هنا منتصر لا محالة وبذا فإنها تمنح دفعًا لاستمرار الإرهاب هنا وفي العالم.

يمكن إيجاز خلاصة ما يقوله عميدرور في ما يلي:

الإنسحاب الأحادي الجانب ينطوي على أخطار إستراتيجية وسياسية وعسكرية حددّتها عناصر أمنية إسرائيلية بالعبارة التالية: "دفع الهواء في أشرعة الإرهاب". ولهذا التحديد دلالة ليس فقط بالمفهوم التبسيطي، أي مفهوم إطلاق الصواريخ على عسقلان، وإنما أيضًا بالمفهوم الأوسع والأعمق للمصطلح، أي بمفهوم الخنوع التاريخي لموجة الإرهاب الإسلامي. إسبانيا هربت من العراق عقب الإرهاب في مدريد. وسينظر إلى الإسرائيليين كمن هربوا من غزة للسبب نفسه. ما كان سهلاً علينا رؤيته وتفسيره في سياق إسبانيا نؤثر عدم فهمه في السياق الفلسطيني. الهرب من أمام الإرهاب، حتى لو أسمي "انسحابًا أحادي الجانب"، يظل هربًا ونتائجه حبلى بالكوارث. ينبغي على إسرائيل أن تنسحب بل وأن تتخذ قرارات صعبة لكن جسورة بشأن السيطرة من جديد على مناطق إضافية في قطاع غزة في سبيل الإجهاز على قدرة إطلاق صواريخ نحو سديروت. ولهذا الغرض يوجد "جيش الدفاع الإسرائيلي". وعندما ينوجد في الطرف الثاني من نتكلم معه يكون إخلاء المستوطنات وإخلاء الجيش بمثابة أوراق في المفاوضات. هذه الأوراق تنازلت عنها إسرائيل دون مقابل. وستحصل في مقابل ذلك فقط على المزيد من الإرهاب. لقد سبق لأريئيل شارون أن أجاد توصيف ذلك لدى ظهوره أمام مؤتمر الليكود حين كان عضو كنيست عادي بقوله: "يريد المعراخ أن يسلم قطاع غزة، وتسمع عندنا أصوات تدعو إلى ذلك أيضًا... يبدو أن اليهود نسوا لماذا حررناه مرتين في 1956 و1976 من ربقة المحتل المصري (وكانت هناك محاولة سابقة في نهاية حرب 1948 كدنا أن نفلح فيها). لماذا دفعنا الثمن ثلاث مرات؟ لأن قطاع غزة شكل خطرًا علينا عندما لم يكن في حوزتنا. ما يجري إقتراحه هو إهدار لأمن عسقلان وكريات جات وسديروت ونتيفوت وعشرات الكيبوتسات والموشافات".

وفي استحصال عميدرور فقد أجاد شارون في تحليل الخطر التكتيكي الناجم عن الانفصال، أما الخطر الإستراتيجي فإنه يظلّ الأشدّ منه والأدهى. ولذا ارتأى أن تكون وجهة مقالته نحو توضيحه.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات