حين رفع مندوب الولايات المتحدة الأميركية يده في مجلس الأمن، مصوتا ضد مشروع القرار الذي يدين اغتيال الشيخ أحمد ياسين، إنما كان يرفع يده ضد العالم العربي وضد العالم الإسلامي كله. لقد قدم المندوب الأميركي بتصويته هذا نموذجا للديمقراطية التي يبشر بها. إنها ديمقراطية القتل والاغتيال، وهي ديمقراطية حماية الاحتلال العسكري، وهي ديمقراطية اجتثاث الآخر ورأيه.
هذه الديمقراطية تريد أن تساوي بين الإرهاب وبين مقاومة الاحتلال، تريد أن تساوي بين الجريمة وبين حركات التحرر الوطني، وتريد أن تجعل الاستسلام لسياستها أو لسياسة إسرائيل النموذج المطلوب لحل المشكلات سلميا. وحين يتولد عن هذه الديمقراطية كراهية متصاعدة للولايات المتحدة وإسرائيل على امتداد العالم، يقول القادة الأميركيون إنهم يكرهون تقدمنا، ويقول القادة الإسرائيليون إنهم يكرهوننا بسبب اللاسامية.
يرتكب شارون للمرة المائة جريمة قتل موصوفة، ثم يضع نفسه في صف واحد مع الولايات المتحدة قائلا إنه يقاوم الإرهاب. ويدين العالم كله شارون باعتباره خارجا على القانون الدولي، وتقدم له الولايات المتحدة الحماية والرعاية رافعة شعار حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. إنها «غابة» النظام العالمي الجديد الذي يريدون للفلسطينيين والعرب والمسلمين أن يعيشوا فيه.
إن هذا التناغم الأميركي ـ الإسرائيلي لا ينبع من فراغ. إن له جذوره العميقة في السياسة الأميركية نفسها، فهذه السياسة هي التي فتحت الباب أمام شارون لكي يفعل ما يفعل، وحين توفر له الولايات المتحدة الحماية والرعاية فلأنها تجد فيه المنفذ الأمين لسياستها المرسومة.
ينبع هذا التناغم من منبعين: خطاب «رؤيا بوش»، وخطة بناء «الشرق الأوسط الكبير».
«رؤيا بوش» برزت في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي يوم 24/6/2004. كان عنوانها الإعلامي البراق أنها رؤيا ترتكز على إنشاء دولتين، ولكن جوهرها الحقيقي كان يسير في اتجاه معاكس، بلوره الخطاب بلورة واضحة. كان جوهر الخطاب مشدودا إلى طلب عملية تغيير شاملة تجري داخل السلطة الفلسطينية وداخل المجتمع الفلسطيني، من أجل أن تنشأ سلطة جديدة، وقيادات جديدة، تلغي مرحلة كاملة من التاريخ النضالي الفلسطيني، وتنسجم مع المنحى الأميركي الجديد للسيطرة الامبراطورية على العالم. كان خطاب بوش يضع الحركة الوطنية الفلسطينية كلها في سياق الإرهاب، ويضع إسرائيل في موضع الحليف الذي يتشارك مع أميركا في الحرب الشاملة ضد الإرهاب.
ـ يقول الخطاب إنه أمر غير مقبول أن يعيش الشعب الإسرائيلي في خوف. إن المواطنين الإسرائيليين يستمرون في أن يكونوا ضحية إرهابيين، وهكذا فإن إسرائيل تستمر في الدفاع عن نفسها. وليست هناك طريقة لتحقيق السلام إلا أن تحارب جميع الأطراف الإرهاب.
ـ ويدعو الخطاب إلى ضرورة التخلص من القيادة الفلسطينية القائمة، واستحضار قيادة فلسطينية جديدة، وهذه مسؤولية ملقاة على عاتق الشعب الفلسطيني من أجل أن يتخلص من قيادته القائمة.
ـ وتوضح الخطة أن السلطات الفلسطينية تشجب الإرهاب ولا تحاربه، وهذا غير مقبول، والولايات المتحدة لن تؤيد إنشاء دولة فلسطينية إلى أن يشارك قادتها في كفاح متواصل ضد الإرهابيين.
لقد تلقفت القيادة الإسرائيلية خطاب بوش وأدركت أنه يعطيها الضوء الأخضر لتفعل ما تريد، فأقدمت على استعمال كل أساليب العنف المتاحة للقضاء على الانتفاضة وصولا إلى الاغتيال المنظم للقادة. ولذلك فإن كل عملية اغتيال إسرائيلية تحمل بصمة أميركية. تحمل اسم «رؤيا بوش».
ثم جاءت بعد ذلك خطة الولايات المتحدة لبناء «الشرق الأوسط الكبير»، فكانت المنبع الأميركي الثاني للسياسة الإسرائيلية. لقد قرأ شارون الخطة بعناية، واستنتج منها أن الولايات المتحدة أصبحت معنية بالسيطرة على قطاع واسع من الدول العربية والإسلامية، وهي ليست معنية بالتالي بإيجاد حل للصراع العربي ـ الإسرائيلي. لقد أصبحت الولايات المتحدة تعمل حسب قاعدة تقول: لنعمل في إطار هذه الدول كلها من أجل الديمقراطية ومن أجل التنمية المشتركة، ثم ستحل بالتالي كل الخلافات الداخلية تلقائيا، ومن ضمن ذلك الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
انطلاقا من هذه الخطة الأميركية، بادر شارون للإعلان عن خطته بفك الارتباط، فما دامت الولايات المتحدة غير معنية بمفاوضات جديدة، ولا باتفاقات جديدة لإنهاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فلتبادر إسرائيل إذا إلى فرض خطتها الخاصة لحل هذا الصراع، وهكذا ولد مشروع دولة شارون الفلسطينية المؤقتة التي تقوم على 42% من أرض الضفة الغربية، بينما تستولي إسرائيل على 58% من الأرض، وولد مشروع الانسحاب من غزة للتخلص من عبئها النضالي ومن خطرها الديمغرافي.
ولكن كيف يتم الانسحاب؟
إذا لم يكن الانسحاب كاملا فإن المقاومة الفلسطينية ستتواصل. وإسرائيل تريد الاحتفاظ بأربع مستوطنات، وبشريط جغرافي يعزل غزة عن مصر، وبالسيطرة على المعبر الحدودي بين البلدين.
إذا لم تقم مصر بحماية الحدود من جانبها، فسيكون هناك تهريب للسلاح من سيناء إلى غزة، وستزداد قدرة الفلسطينيين على المقاومة. وأعلنت مصر أنها لا تستطيع حراسة الحدود إلا إذا تم تعديل اتفاقات كامب ديفيد. وهذا ما لا تريده إسرائيل.
وإذا انسحبت إسرائيل من دون اتفاق مع السلطة الفلسطينية، فإن السلطة الفلسطينية ستعود لتحكم غزة وهي حرة من أي قيد، وبذلك تبقى الانتفاضة مستمرة في إطار حكمها.
وبسبب هذه العوامل الثلاثة، برز المخطط القائل بضرورة ضرب القيادات الفلسطينية الفاعلة، لـ «تنظيف» القطاع من المقاومين قبل الانسحاب منه. وتم في هذا السياق اغتيال الكثيرين، ثم تم اغتيال الشيخ أحمد ياسين. وسيلي ذلك (إذا تم الانسحاب) منع السلطة الفلسطينية من الوصول إلى غزة، لخلق حالة فراغ تدفع باتجاه بروز قيادة فلسطينية من النوع المرغوب فيه، حسب الخطة الأميركية، وسيتم تشجيع هذه القيادة لكي تتولى عملية قمع قاسية ومديدة، تحت شعار مقاومة الإرهاب.
وتوجد داخل الإطار العام لهذه الخطة الإسرائيلية هموم وهواجس داخلية، أبرزها أن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة سيبدو وكأنه هزيمة للجيش الإسرائيلي، تكرر الهزيمة التي لحقت به في جنوب لبنان. ولا تريد إسرائيل أن تعترف بهزيمتها، لا في جنوب لبنان ولا في قطاع غزة. تريد أن تقول إنها انسحبت وهي قوية وبقرار منها. ومن أجل إشاعة هذا الانطباع، تريد أن تقتل وأن تضرب وأن تدمر في قطاع غزة، حتى يفهم الكل أنها تنسحب وهي مسيطرة وقوية، وقد جاء اغتيال الشيخ أحمد ياسين ليكون علامة بارزة على هذا الفهم للأمور. ثم إن شارون يواجه معارضة داخلية قوية لخطته في فك الارتباط، وهو حين يظهر دمويا وقويا من خلال عمليات الاغتيال، يأمل بأن يغير المناخ الحكومي لصالحه، ولذلك بادر فور عملية الاغتيال إلى عقد اجتماع لنواب حزبه، ليناقشهم في خطة فك الارتباط في أجواء الاحتفال الاسرائيلي بارتكاب الجريمة.
إن هذه العوامل الداخلية الصغيرة تتلاقى وتنسجم مع العوامل الخارجية الكبيرة التي تتمثل في سياسة الولايات المتحدة الأميركية. وبالرغم من ذلك، فإن الوقائع العنيدة على الأرض، تقول بأن السياسة الأميركية تواجه ممانعة عالمية واسعة تمتد من أوروبا إلى العراق. وأن السياسة الإسرائيلية تواجه حقائق دامغة، أبرزها أن الجيش الإسرائيلي سينسحب مهزوما من قطاع غزة، مهما بالغ في القتل والتدمير قبل انسحابه. ألم تمارس الولايات المتحدة السياسة نفسها قبل هربها من فيتنام، حين شنت سلسلة طويلة من الغارات بهدف إتلاف الأرض الفيتنامية وجعلها غير صالحة للزراعة على مدى ربع قرن؟ ولكن العالم كله يعرف أن الولايات المتحدة القوية خرجت مهزومة من فيتنام.