بقلم: هشام نفاع
كاد المستر جنرال موشيه يعلون، قائد أركان جيش الاحتلال الاسرائيلي، يفقع وهو يعقّب على اعلان ضباط الطيران الـ 25 رفض تنفيذ أوامر بالقصف والاغتيالات في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأنا كدت أفقع من الضحك.
فها هم بعض الأبناء البررة للنخبة العسكرية السمينة يقدّمون ليعلون وأشكاله صفعة، وقع صداها بردًا وسلامًا على كل أصحاب الضمائر الحية. وها هم مجرمو الحرب يفشلون ثانية في إحكام القبضة على كذبة "وحدة الصفوف" خلف سياستهم الدموية الهوجاء التي لا تشمل مقدار ذرة من عقل وتعقّل.
وللحقيقة فهؤلاء الضباط لم يعلنوا تمردًا تحت لواء أرنستو تشي غيفارا الثائر ولم يشهروا طلاقًا بالثلاث على الحركة الصهيونية، بل أن بينهم من لا يزال يشدد على صهيونيته، الى جانب رفضه. مع ذلك لا يمكن الا التعاطي مع هذه الخطوة في السياق الاسرائيلي الراهن الذي وجدنا فيه، ولمزيد من الأسف، مجتمعًا بأكمله ينساق ويُساق الى حيث حتفه الجسدي والمعنوي. ومن الممكن استشفاف قوة خطوة الضباط من خلال مؤشرات الذهول التي ضربت أنوف كبار جنرالات السياسة والعسكر، من مزكومي الأنوف بسطوة الاستعلاء والعنف المبرمج بأحدث الخطط العسكرية وأرفعها تقنية. فالحديث لا يدور هذه المرة عن "يساريين" من السهل اتهامهم بـ "الخيانة" و "التنصل من أمن اسرائيل". كلا، فهؤلاء الضباط هم رمز حلم المجتمع الاسرائيلي العسكري الذي كثيرًا ما يُفرط في طقوسه الاجماعية، فنجده وقد رمت به النشوة الاستحواذية المُحرجة الى حلقات الترديد والصراخ المنفلت: "نحن أقوى سلاح طيران في العالم.. نحن الجيش الأكثر أخلاقية في العالم.. نحن ضحايا.. نحن ونحن ونحن.. ". كفى. مللنا!
الضباط الرافضون يؤكدون ما يجب قوله لهذا المجتمع الاسرائيلي المرمي بغالبيته خلف جدران الخوف والفصل وانعدام الثقة بنفسه وبأحد. "الاحتلال يدمرنا" يقول رافضو الاغتيالات وقصف المدنيين الفلسطينيين في بيوتهم وحواريهم، فيخرج الساسة وقادة العساكر بأفواه تنضح بالتحريض والكذب والتبجّح الأخلاقوي المقيت الذي تحتاج بضع حبات من الدواء للحفاظ على حصانة معدتك أمامه. فما أخطر فرط وفرفطة وهم الاجماع حول الحرب والاحتلال على طغمة اليمين الاستيطاني الحاكم. كل شيء يجب أن يبقى تحت السيطرة على شاكلته المطلوبة وبالأبيض والأسود فقط: نحن وهم، خير وشر، مُدافع وإرهابي، محبّ للسلام ورافضه، وغيرها من التوليفات التي تخدم التكريس المطلق للوضع بالأدوات المطلقة دون السماح لأي شعاع ضعيف من ألوان الطيف الأخرى بالتسلل وتخريب الصورة الخلابة لخليط الدماء والدمار والدخان – بهجة قلوب الجنرالات وهم في أوج ممارستهم الابداعية..
أحد المعلّقين اعتبر الأمر "هزة أرضية". وهو يعرف عما يتحدث. فخيوط التسريبات الدقيقة الخافتة تنبئنا عن حالات عديدة من "الرفض الهادئ" بين الطيارين لتنفيذ أوامر باقتراف جرائم الحرب. وهناك من يفضلون النجاة من وزر ارتكاب جرائم قتل من علوّ شاهق بالجملة عبر انهاء الموضوع في محادثة مغلقة مع المسؤولين. ومنهم من ستتعاظم لديه الجرأة الآن وقد ينضم علنًا الى المجموعة الصغيرة التي رمت هذه القنبلة الذكية. مسؤولو الجيش يعلمون ربما أن الامور تقف على ظهر قشة هشة بحيث أن خيوط التسريب الدقيقة ستتحول الى الى ما يفوقها. فكيف ستبدو وجوههم الصارمة القيادية الحازمة عندها؟ كيف سيبررون حقيقة أن من سوّقوهم كـ "خيرة شبان اسرائيل" قد ضاقوا ذرعًا بسياسة لا ترى أبعد من المسافة الواصلة بين الإصبع وزناد القتل، ويقولون اليوم كلا، علانية؟
هناك من يشير الى أن الجيش سيسعى الآن الى خنق الظاهرة ومنع الخوض فيها عبر طرد هؤلاء الطيارين، وهو ما أعلن عنه جزئيًا أمس. ولكن يبقى السؤال هو ذلك الذي يتعاطى مع الصورة الأوسع، وهي ليست بسيطة بالمرة. فهناك حالة تراكمية تؤلف بالمجمل بدايات تصدّع جدية في سياسة حكومة اليمين من حيث تماسكها المروَّج له بين الجمهور. وفي الذاكرة تطفو التساؤلات حول "جدوى الاغتيالات" وكيفية الخروج من كل هذا الوضع في ظل حكومة لا تطرح أي بديل سياسي. وفوقها جميعًا تأتي صورة لاقتصاد تعرّض لسياسة اشبه بـ "الأرض المحروقة". وحتى كبار مديري الشركات والأجهزة الاقتصادية خرجوا أمس عبر نتائج استطلاع شامل باستنتاج مفاده: لا يمكن الخروج من الأزمة الاقتصادية دون تسوية سياسية، ولا يمكن انقاذ مجالات الخدمات الاساسية من صحة وتعليم وضمان اجتماعي إلا بتقليص ميزانية وزارة "الأمن"، وهو الامر المرتبط بتقدم سياسي. هذه المعطيات وغيرها هي المؤشر على أن التصدع بدأ بالاتساع. وأمام حكومة تتعنت في المضي في غيّ توسعها واستعلائها ورفضها وهربها كالملدوغة من كل بادرة لتسوية ولو الأكثرها شحوبًا، فهي انما تساهم مشكورة في تقليل أيامها أملا بأن يُقصف عمرها السياسي بأسرع ما يمكن لما هو في مصلحة الجميع (مع الاشارة طبعًا الى ضرورة مرور أحزاب المعارضة الرسمية تحوّلا في مجال الجرأة وعلاجًا في مضمار التأتأة السياسية).
لا يقال هذا من باب التفاؤل مع أن التفاؤل ضروري لمن يريد الخوض في مياه السياسة الباردة. مع ذلك فمن غير المذموم الاحتكام الى التاريخ لمحاولة فك شيء من الطلاسم وتخمين شيء من البشائر. فقد شهدت السنوات الثلاث الأخيرة حالة بشعة من الاصطفاف الاسرائيلي الاجماعي خلف المدافع، والآن بدأت الفواتير تتراكم. هناك ثمن. فالحرب ليست نزهة، وهي تزداد صعوبة اذا كان من يديرها هم أعضاء منتدى اليمين الاستيطاني الأصولي، ممن يعلنون حربًا مزدوجة: واحدة على الفلسطينيين جميعًا، شعبًا وقيادة، والثانية على الاسرائيليين، الفقراء منهم تحديدًا. فالدبابة التي تقصف في جنين تحمل أثرًا ارتداديًا سيصل بلدات وأحياء الفقر التي يفضّل اليمين عليها محبوبة قلبه، "بقرة الأمن" المعلوفة جيدًا من جيوب المستضعفين.
ومن المهم التنويه الى أن استمرار النظر الى الاسرائيليين ككتلة واحدة هو بالضبط ما يخدم سياسة اليمين برئاسة شارون، فهو أيضًا يريدهم كتلة واحدة. والمفارقة أن شارون يريدهم كتلة وراءه، ومن ينظر اليهم بهذا الشكل فانه يضعهم بدوره وراء شارون أيضًا، مع أن الفهم السياسي العقلاني (وليس العصبي!) يلزمنا بتحديد التناقضات التي يخلقها الاحتلال في المجتمع الاسرائيلي وإبرازها والعمل، سياسيًا، على تعميقها. يجب كسره من الداخل أيضًا.