المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات وأراء عربية
  • 892

بعدما تناولت حلقة الأمس التأويلات المتضاربة للمسائل المطروحة، هنا التتمة:

يبقى السؤال الأهم هو أين وكيف ستقام هذه الدولة؟ وكيف لها ان تكون قادرة على البقاء اذا لم يتوفر لأراضيها التواصل الجغرافي؟ ان الضفة الغربية الآن مقسومة الى ثلاثة بانتوستانات ينقسم كل منها الى ما بين 60 الى 70 جيبا تفصلها عن بعضها البعض المستوطنات اليهودية والطرق الالتفافية ونقاط التفتيش. كما ان هناك جدار الفصل العنصري الذي يستمر العمل عليه الآن في شمال غرب وشرق الضفة الغربية، الذي سيعزل المزارعين الفلسطينيين عن أراضيهم ويفاقم من التطهير العرقي المتواصل للفلسطينيين والفصل ما بين المناطق. فوق كل هذا لا وجود في القانون الدولي لتعبير "الحدود الموقتة".

 

فاما أن يكون للدولة حدود تحت سيطرتها، لتكون بذلك دولة مستقلة، أو لا يكون لها حدود أو سيطرة وبالتالي فهي كيان خاضع للسيطرة. وهناك في عملية أوسلو مفهوم "الأمن الخارجي" الخاص باسرائيل، الذي أصبح معناه سيطرتها على أراضي وحدود وأجواء ومياه ما يسمى مناطق الحكم الذاتي. ولن تقبل اسرائيل باقل من ذلك في مرحلة ما بعد أوسلو. هكذا فان هذه الـ"دولة" الفلسطينية المتصورة، في أفضل تقدير، لن تكون مستقلة، ولن تتجاوز مساحتها 42 في المئة من الضفة الغربية، وهو بالضبط الحل الذي تصوره شارون في الثمانينات. كما ان تعبير "صفات سيادية" (بدل "السيادة") لا يتعدى ان يكون هراء ديبلوماسيا يواصل صيغات تحايلية سابقة مثل "السيادة المشتركة" أو "نوع من السيادة" أو "السيادة المزدوجة".

ويفترض للمرحلة الثالثة ان تشهد بداية المفاوضات بمساعدة مؤتمر دولي يهدف الى "اتفاق على وضع دائم، من ضمنه الحدود والقدس واللاجئين والمستوطنات"، وصولا في 2005 الى انهاء الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. لكن ربما كان انهاء الاحتلال بدل انهاء الصراع المهمة الأكثر الحاحا، خصوصا اذا أصدر مجلس الأمن قرارا بهذا المعنى بدل عقد مؤتمر دولي هزيل يفتقر - بفضل العراقيل التي تضعها أميركا - الى أي آلية للتنفيذ. ان لهذا ان يكون أكثر توافقا مع المقطع الذي يقول: "سيتم التفاوض بين الأطراف على التسوية بناء على قرارات مجلس الأمن 242 و338 و1397 التي تنهي الاحتلال الذي بدأ في 1967". ولا نجد في أي جزء من خارطة الطريق ضرورة تفكيك وازالة المستوطنات الغير شرعية. أي أن وضع المستوطنات، عكس مواقع الاستيطان "الطليعية" التي يفترض ازالتها، سيكون مجرد التجميد لدى بدء العمل بالخريطة - اذا بدأ العمل بها أبدا.

تشمل المرحلة الثالثة أيضا "حلا متفقا عليه ومنصفا وواقعيا لقضية اللاجئين وحلاّ تفاوضيا في ما يخص وضع القدس يراعي المصالح السياسية والدينية للطرفين ويحمي المواقع ذات الأهمية الدينية لليهود والمسيحيين والمسلمين في انحاء العالم، ويلبي رؤية الدولتين، اسرائيل ودولة فلسطين الديموقراطية المستقلة ذات السيادة والقادرة على البقاء، المتعايشتين جنبا الى جنب بسلام وأمان". وسيدعم المؤتمر أيضا "التقدم نحو تسوية شرق أوسطية شاملة بين اسرائيل ولبنان واسرائيل وسورية".

ونجد هنا، مثلما في أوسلو، أن التفاوض على قضايا "الوضع النهائي" سيدور خارج اطار الوفاق الدولي والشرعية الدولية. ذلك ان قرارات مجلس الأمن 242 و338 و1397 لم تعد كافية، بعدما اعلنت اسرائيل عدم انطباق القرار 242 على الضفة الغربية. اضافة الى ذلك فان كل هذه القرارات لا تشمل التأكيد على الحقوق الأساسية للفلسطينيين المتجسدة في ما لا حصر له من قرارات الأمم المتحدة وغيرها من الآليات الدولية (القرارات 2535، 2649، 2672، 2787، 2792 - التي تعتبر الفلسطينيين شعبا خاضعا للكولونيالية وله الحق في الاستقلال اضافة الى حقوقه الثابتة الأخرى - أو القرار 3236 الذي يكرر التأكيد على حقوقهم في تقرير المصير والاستقلال الوطني والسيادة).

أما "الحل الواقعي لقضية اللاجئين" فلا يستند على القرار 194 أو المادة 13 من شرعة حقوق الانسان أو ميثاق الحقوق المدنية والسياسية. بل الواقع أن شارون قال لاذاعة الجيش الاسرائيلي في السنوية الـ 55 لاقامة الدولة أن تنازل الفلسطينيين عن حق العودة "هو ما تصر عليه اسرائيل وتعتبره شرطا للاستمرار في العملية". ويعني هذا ان العملية نفسها ترتهن بهذا التنازل. كما لا يشمل "الحل التفاوضي على وضع القدس" القرار 194 (التدويل) أو القرار 2253 الصادر في 4 تموز (يوليو) 1967 الذي يدعو اسرائيل الى "الغاء كل الاجراءات المتخذة (و) التوقف الفوري عن اتخاذ أي خطوة تغير من وضع القدس". واذا وضعنا في الاعتبار ان قضايا الوضع النهائي هذه تشكل جوهر القضية الفلسطينية فان محاولة حلها خارج الاطار الدولي لن يقل صعوبة، في أفضل تقدير، عن المحاولتين السابقتين، أي كامب ديفيد وطابا. بل المرجح الآن، بعدما نجحت الولايات المتحدة واسرائيل في إمالة التوافق الدولي لصالحهما اثر احتلال العراق واعادت ترسيم "الطريق" الى التسوية النهائية تبعا لذلك، أن الصفقتين مدار التفاوض في كامب ديفيد وطابا لن تكونا على الطاولة في المفاوضات المزمعة.

ان حرب الهيمنة التي تخوضها أميركا أدت، آنياً على الأقل، الى وضع في الشرق الأوسط يطابق مقولة بوش الأب قبل 12 سنة، "ما نقوله سيحصل". فالتهديدات لسورية، اضافة الى التصريحات العدوانية من قبل المحافظين الجدد تجعل المنطقة وقضاياها، من المنظور الأميركي، قابلة لاعادة التشكيل أميركيا، من ضمن ذلك قضايا الحرب والسلام. هكذا رأينا ذلك الصلف "الامبراطوري" من وزير الخارجية كولن باول في زيارته الى دمشق بعد غزو العراق، وما أصدره من شروط وتحذيرات ومتطلبات. وربما كان التلخيص الأفضل لموقف باول عنوان وكالة "اسوشييتد برس" لتقريرها عن زيارته: "باول: سورية واضحة حول توقعاتنا". وقال باول لبرنامج "واجه الصحافة" التلفزيوني: "ليس في ذهنه (الرئيس بشار الأسد) أي أوهام عما نريده من سورية". وعبّر عن العنجهية نفسها على برنامج "هذا الاسبوع" عندما قال: "ما قلته له اننا سنراقب ونقيّم الاداء عبر فترة من الزمن لنرى اذا كانت سورية الآن مستعدة للتحرك في اتجاه جديد على ضوء تغير الظروف". ولم تترك كلمات باول أي هامش للتعابير والمواقف الديبلوماسية الملطفة بل ركزت على تعليقات مهينة مثل أن الولايات تهتهم بالاعمال وليس بالتأكيدات والوعود، وانها ستواصل اجراءاتها لرصد كل تحرك. ومثلما هو الحال مع توقعات أميركا من الفلسطينيين حسب "خريطة الطريق" فالشروط هي من وضع أميركا دون غيرها. وعلى "الاداء" السوري التماشي مع أوضاع ما بعد الغزو. ووصف باول تغيرات المنطقة بأنها "هائلة"، ولنا ان نفترض انه يقصد انها لم تقتصر على تغيير النظام في العراق بل في فلسطين أيضا. ولم يعزز "انتصار" أميركا العسكري سيطرتها الاقليمية فحسب، بل يفترض انه أوصل مكانتها كقوة عظمى الى درجة تلغي تطلعات الدول الكبرى مثل روسيا وفرنسا وألمانيا الى دور مستقل على مسرح العالم، ومن هنا نجد هذه الاحادية الأميركية المطلقة حاليا في الشرق الأوسط.

ما هي اذاً متضمنات خريطة الطريق، كعملية لحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، بالنسبة للسياقين الاقليمي والعالمي؟

تشير الخريطة بوضوح الى "تسوية شاملة في الشرق الأوسط بين اسرائيل ولبنان واسرائيل وسورية". وقال باول انه طلب من الرئيس الأسد انهاء وجود ما اعتبره منظمات فلسطينية ارهابية في سورية، وهو شرط لبّاه الأسد فعلا. وليس هناك شك يذكر في أن نجاح أو فشل خريطة الطريق سيعتمد في النهاية على قرار الولايات المتحدة تمكين محمود عباس من أن يقدم الى ذلك الجزء الصغير من الشعب الفلسطيني المحاصر متنفسا من القمع الاسرائيلي على شكل "دولة مستقلة قابلة للبقاء". وكذلك ان تسهل أميركا التوصل الى اتفاق ذي مصداقية فيما يخص القسم الأكبر من الفلسطينيين - اي اللاجئين والمنفيين - في شكل يمنع تحولهم الى سلاح ديموغرافي ضد الطابع اليهودي لاسرائيل. ولكي يحصل هذا علينا ان ننظر الى اثنين من السيناريوات الممكنة - أولهما متفائل، فيما قد يكون الثاني أكثر واقعية.

السيناريو الأول يقوم على افتراض ان نتيجة غزو العراق تمكن بوش من الادعاء بزوال التهديد العراقي لاسرائيل والولايات المتحدة، ولذا فقد حان الوقت للتوصل الى الاستقرار في المنطقة - برعاية أميركا وحسب مصالحها طبعا. ان تحركا كهذا سيكون مشابها لسياسة بوش الأب الفاشلة قبل 12 سنة، ولن يقوم به الابن الا اذا اقتنع بأنه لن يواجه مقاومة من مساندي اسرائيل في الولايات المتحدة لن يقاموا بوش الابن، خصوصا بعدما برهن على أنه أكثر الرؤساء الأميركيين تحمسا لاسرائيل. لكن بوش في كل الأحوال لن يريد المخاطرة بخسارة الصوت اليهودي في انتخابات السنة المقبلة، مثلما حصل لوالده في انتخابات 1992 . ولذا عليه أن يوجه اكثر ضغوطه الى محمود عباس وليس شارون. السيناريو الثاني هو أن خريطة الطريق لن تكون سوى الأخيرة من بين سلسلة من الخطط الأميركية الفاشلة منذ 1969. وقد يراهن بوش وشارون على الفشل المتوقع لمحمود عباس، ومن هنا العراقيل المتضمنة في الخارطة، التي ستحتم ذلك الفشل. انها بالتالي استراتيجية أصبحت جزءا لا يتجزأ من موقف اسرائيل تجاه أية تسوية تفاوضية، وكان اسحق شامير أول من اعترف بها علنا عندما قال قبل 12 سنة ان مشاركته في مؤتمر مدريد ستفتتح مرحلة من المفاوضات تمتد عشر سنوات دون التوصل الى نتيجة. ثم قدمت عملية أوسلو النموذج الأفضل لهذا النوع من التفاوض، عندما قامت اسرائيل باعادة التفاوض مرارا وتكرارا على قضايا تم التفاوض عليها اصلا، وذلك مسايرة للموقف الاسرائيلي السائد القائل بأن لا مكان سوى لدولة سيادية واحدة في الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط. وقد اصبح هذا النوع من التفاوض الاستراتيجية المفضلة من قبل اسرائيل، فقد مكنتها من الاستيلاء على المزيد من الأرض والموارد في "زمن السلام"، متآينا مع مواصلة اتهام القيادة الفلسطينية بالتحجر وانها لا تستحق الجلوس الى طاولة التفاوض قبل ان تقضي على "الارهاب".

السيناريو الثاني، كما ذكرنا، هو الأرجح، لأنه يتماشى أكثر مع الواقع على الأرض بعد الغزو وأيضا مع سجل أميركا الديبلوماسي في المنطقة منذ 1967. واذا اخذنا في الاعتبار ان توقعات خطيرة مثل ثورة في الشارع العربي لم تتحقق، وان احتمالات مقاومة عراقية طويلة الأمد لا تبدو واردة الآن، وهو ما يثير اشد الارتياح في أوساط المحافظين الجدد في واشنطن، فيبقى السؤال ما اذا كان لمبادرة ديبلوماسية أميركية للشرق الأوسط أي أولوية حقيقية بالنسبة لادارة بوش.

• أكاديمي فلسطيني مقيم في الولايات المتحدة.

الحياة 2003/05/18

المصطلحات المستخدمة:

حق العودة, مؤتمر مدريد

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات