المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

طالب الفلسطينيون مرارا بحماية دولية تصد عنهم عنف واضطهاد جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولكن الإدارة الأميركية رفضت ذلك بإصرار، مفضلة شعارها المحبب بدعوة الطرفين للتفاوض من دون شروط مسبقة (وهذه تعني مباشرة التفاوض حسب الشروط الإسرائيلية). الأوروبيون أدركوا أهمية الطلب الفلسطيني، ليس لأسباب إنسانية، بل في أحيان كثيرة انزعاجا من العمليات الاستشهادية، ومحاولة لحماية إسرائيل منها، فقالوا في محادثات سرية كثيرة مع الأميركيين، إن الوسيلة الوحيدة لإنجاح التفاوض الفلسطيني ـ الإسرائيلي هي في إرسال قوات فصل دولية، بكامل عدتها وسلاحها، تتولى منع العمليات الاستشهادية من طرف الفلسطينيين باعتبارها اسلوب العمل الذي ازعج الإسرائيليين وأقلقهم، كما تتولى منع الجيش الإسرائيلي من مهاجمة الفلسطينيين

اليوم الأول من أيار/ مايو عام 2003 يوم عادي مثل غيره من الأيام، لولا أن عمال العالم يحتفلون فيه بعيدهم. ولكن هذا اليوم ينطوي بالنسبة إلى الفلسطينيين على اشياء أخرى، تسجلها صحيفة «يديعوت أحرونوت» في موقعها على الانترنيت كما يلي:
ـ الجيش الإسرائيلي يتوغل في حي الشجاعية داخل مدينة غزة ويقتل 13 مواطنا فلسطينيا بينهم الطفل «أمير إياد» البالغ من العمر سنتين، أما عدد الجرحى فقد بلغ 65 جريحا.

ـ الجيش الإسرائيلي يهدم منزلين في مدينة رفح قرب الحدود المصرية. ويهدم منزلا آخر في قرية «بيت سيرا» قرب مدينة رام الله في الضفة الغربية.

ـ الجيش الإسرائيلي يعتقل خمسة فلسطينيين في قرية عقربة، وفي رام الله، وداخل مدينة قلقيلية، وفي مخيم عايدة قرب بيت لحم، ثم يعتقل 12 آخرين في أماكن لم تحدد.

الرئيس الأميركي جورج بوش لم يعلن أي موقف استنكار أو إدانة لقتل المدنيين الفلسطينيين، أو لهدم بيوتهم، أو لاعتقالهم من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي. أعلن فقط بلسان الناطق باسم البيت الأبيض موقف استنكار شديد اللهجة للعملية الفدائية في تل أبيب قبل يومين. وحين يصدر الرئيس بوش بيانا (شديد اللهجة) يستنكر قتل المدنيين الفلسطينيين موازيا للبيان الذي يستنكر قتل المدنيين الإسرائيليين، يصبح موقفه مفهوما وتصبح دعوته للسلام قابلة للتصديق. أما إذا واصل موقفه التقليدي والمعلن والقائل بأن ما يفعله آرييل شارون وجيشه هو مقاومة للإرهاب، فإن كل حماسه لخطة «خارطة الطريق»، ولهدف إنشاء دولتين إسرائيلية وفلسطينية في حدود عام 2005 يصبح لغوا غير قابل للتصديق.

لقد أعلن الرئيس بوش أنه يستطيع أن يعمل مع محمود عباس (أبو مازن) لإنجاز خارطة الطريق، لأن أبو مازن «شخص يمكن العمل معه» حسب قوله. ينطوي هذا الكلام على إقرار بأن المشكلة تكمن في المندوب الفلسطيني الذي يتحاور معه الرئيس بوش، فهناك مندوب «لا يمكن العمل معه»، وهناك مندوب «يمكن العمل معه». ولكن هذا الكلام الرئاسي الأميركي ينطوي على مغالطة، فالمشكلة ليست في المندوب الفلسطيني بل في المندوب الأميركي نفسه. المندوب الفلسطيني له مطالب محددة، تم إبلاغها للأميركيين أكثر من مرة، في مفاوضات كامب ديفيد، وفي لقاءات مباشرة مع الرئيس السابق بيل كلينتون، ولكن المندوب الأميركي يرفض دائما الاستماع إلى هذه المطالب. وحين يلتقي الرئيس بوش مع رئيس الوزراء الفلسطيني أبو مازن سيسمع منه المطالب نفسها، ونأمل ألا يكرر الرئيس بوش رفض المطالب الفلسطينية من جديد.

والمطالب الفلسطينية ليست أمرا مستعصيا على الفهم، وهي يمكن أن تتلخص بمطلب واحد هو: تنفيذ قرارات الشرعية الدولية. فهل سيكون الرئيس بوش مستعدا لذلك حين يلتقي مع أبو مازن؟ إن سلفه كلينتون الموصوف بأنه قدم للفلسطينيين الكثير رفض أن يعتبر في كامب ديفيد أن قرارات الشرعية الدولية هي اقتراح الفلسطينيين المضاد للاقتراحات الإسرائيلية، وضغط عليهم كثيرا لكي يقدموا اقتراحات خارج نطاق الشرعية الدولية، وهذا ما رفضه الفلسطينيون، فهل سيكرر الرئيس بوش الفعلة نفسها مع أبو مازن؟ وهل سيقول عن أبو مازن إذا طالب بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية إنه رجل «لا يمكن العمل معه؟».

يمكن صياغة المطالب الفلسطينية بطريقة أخرى، أعلن الرئيس بوش موافقته عليها، وتضمنتها أيضا خطة «خارطة الطريق»، ونعني بها مبادرة الأمير عبد الله ولي العهد السعودي التي أصبحت مبادرة عربية رسمية في القمة العربية في بيروت. إن جوهر هذه الخطة هو الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي التي احتلت عام 1967، مقابل إنجاز سلام إسرائيلي ـ عربي كامل. هل يقبل الرئيس بوش من أبو مازن أن يعرض عليه تنفيذ هذه الخطة وصولا إلى السلام المنشود؟

لقد طورت الدبلوماسية الأميركية «تقنيات» لرفض المطالب الفلسطينية، من دون أن تضع نفسها في موضع الطرف الذي يتحمل تبعات ذلك. ومن أشهر التقنيات القول: نحن لا نمانع بذلك، ولكن تفاوضوا مع الإسرائيليين ونحن سنوافق على كل ما تتوصلون إليه. تعني هذه التقنية أن الولايات المتحدة ترفض المطلب الفلسطيني، وترفض قرارات الشرعية الدولية، وترفض وضع المبادرة السعودية موضع التنفيذ، لأن ترك الموضوع للتفاوض، في ظل الاحتلال، وفي ظل الرعاية الأميركية لحق إسرائيل في الاجتياح والقتل والتدمير، يعني رسالة ضمنية لإسرائيل بأن لا تقبل سوى ما تريد هي أن تقبل، ويفهم الإسرائيليون هذه الرسالة الأميركية «على الطاير»، ويعملون فورا بمقتضاها.

ومن التقنيات الأميركية البارعة أيضا، تلخيص كل ما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتلخيص كل ما يبديه الفلسطينيون من مقاومة للاحتلال، بكلمة واحدة فقط هي «العنف»، ثم مطالبة الطرفين بوقف العنف. ثم تطور هذا الموقف إلى ما هو اسوأ، فأصبح العنف الفلسطيني إرهابا، وأصبح العنف الإسرائيلي عملا مشروعا لحفظ الأمن. وبناء على هذه التقنية يصبح الفلسطينيون ملامين وتصبح إسرائيل نقية وبريئة. ولكن كيف ينفذ الفلسطينيون وقف العنف؟ لقد أقدم شارون بضوء أخضر أميركي على تدمير كل مقرات أجهزة الأمن الفلسطينية، وقتل العديد من رجال الشرطة الفلسطينيين، وتم حرق كل سيارات الأمن الفلسطينية، فهل المطلوب من الفلسطينيين تنفيذ وقف العنف قبل إعادة بناء الأجهزة الأمنية، أم بعد إعادة بنائها؟ إن الإدارة الأميركية لا تسأل من دمر الأجهزة الأمنية، وهي لا تحب أن تدخل في تفاصيل كيفية التنفيذ، إنها تحب إطلاق الشعارات البراقة والغامضة، وليتفاوض بعد ذلك المتفاوضون.

ومن التقنيات الأميركية البارعة أيضا، رفض أي تدخل دولي لإنجاح عملية التفاوض. لقد طالب الفلسطينيون مرارا بحماية دولية تصد عنهم عنف واضطهاد جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولكن الإدارة الأميركية رفضت ذلك بإصرار، مفضلة شعارها المحبب بدعوة الطرفين للتفاوض من دون شروط مسبقة (وهذه تعني مباشرة التفاوض حسب الشروط الإسرائيلية). الأوروبيون أدركوا أهمية الطلب الفلسطيني، ليس لأسباب إنسانية، بل في أحيان كثيرة انزعاجا من العمليات الاستشهادية، ومحاولة لحماية إسرائيل منها، فقالوا في محادثات سرية كثيرة مع الأميركيين (لم تعد الآن سرية وعرف بها الجميع)، إن الوسيلة الوحيدة لإنجاح التفاوض الفلسطيني ـ الإسرائيلي هي في إرسال قوات فصل دولية، بكامل عدتها وسلاحها، تتولى منع العمليات الاستشهادية من طرف الفلسطينيين باعتبارها اسلوب العمل الذي ازعج الإسرائيليين وأقلقهم، كما تتولى منع الجيش الإسرائيلي من مهاجمة الفلسطينيين، وحين يتم تحييد قوة العمليات الاستشهادية، وقوة قمع جيش الاحتلال الإسرائيلي، يمكن دعوة الطرفين للجلوس إلى مائدة المفاوضات، بعد أن تكون السكين الموضوعة على رقبة كل مفاوض قد أزيلت من يد المفاوض الآخر. ولكن الإدارة الأميركية رفضت الطلب الأوروبي والمنطق الأوروبي، لأنها تريد الاستحواذ على ملف الشرق الأوسط ولا تريد شريكا فيه، وكذلك الحكومة الإسرائيلية رفضت الطلب الأوروبي لأن المسألة تطرح عليها سؤالا صعبا: أين الحدود التي ستقف عندها قوات الفصل الدولية؟ حسب القانون ستقف هذه القوات عند حدود يوم الخامس من حزيران/يونيو 1967، وهذا ما لا تريده إسرائيل، لأن ما تريده فعلا هو الاستيلاء على جزء كبير من أراضي الفلسطينيين.

لكل هذا... إذا أراد الرئيس بوش، المرحب بتعيين أبو مازن رئيسا للوزراء، أن يتعامل معه حسب هذه التقنيات، فإننا نقول منذ الآن إنه سيفشل مرة أخرى كما فشل سلفه كلينتون، مع أن هناك من يقول إنه سيصر على هذه التقنيات لأنه لا يريد أصلا لخارطة الطريق أن تنجح، فهو لن يمارس أي ضغط على إسرائيل لإنجاح خطته، لأنه لا يريد إغضاب اللوبي اليهودي في أميركا، ولأنه يريد أن ينجح في انتخابات الرئاسة القادمة، ولأنه لا يريد أن يكرر فشل والده.

... ونتمنى أن نكون مخطئين، وأن يفعل بوش عكس ما نقول.

(الشرق الاوسط، لندن، 4/5)

المصطلحات المستخدمة:

يديعوت أحرونوت

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات