المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات وأراء عربية
  • 1049

عندما يتجوهر الاعلام الاسرائيلي في تغطية العدوان على العراق على قاعدة الانفصام بين السيد الابيض والعبد الاسود. لا تلاقي بين الاثنين. بل طلاق مؤبد. هكذا يتحوّل افراز القتل والدمار الى حالة مفهومة ومرغوبة

انها ثنائية الذات والآخر. والذات، هنا، هي الذات الامريكية، الانسان الابيض، الذات "المتنوّرة" و"المتفوّقة" انسانيا وحضاريا وثقافيا على الآخر العربي، الانسان الاسود، المتخلف غير الانساني. هكذا يكون الاغراق الادراكي القادم من واشنطن. وهي محاولة لاستعمار الشعوب والعقول بموازاة استعمار الارض والثروات والموارد.
منطق الفكر في هذه الاحكام هو التالي: قوى الخير مقابل قوى الشر. اذن لا بأس من ان تقوم سيكولوجية الاعلام على خلق حالة ادراكية جديدة فعلا، من خلال محاولة صناعة الواقع الراهن بما يتناسب مع السياسة الاستعمارية الانجلو امريكية. فالحديث يتجوهر على قاعدة الانفصام بين السيد الابيض والعبد الاسود. لا تلاقي بين الاثنين، بل طلاق مؤبد. الابيض هو الابيض. والعبد هو العبد.

لا وجود للاستعمار او للامبريالية. فهذه لغة قديمة مهترئة يبدو للبعض احيانا انها غير قادرة على التعبير عن الواقع في زمن غياب – او بالأصح تغييب – الايديولوجيات. انه الزمن الامريكي وتنصيب الذات الامريكية في موقع شرطي العالم. انه زمن "الديمقراطية" و"الحريات" و"مكافحة الارهاب" على الطريقة الامريكية.

باختصار، لا يجوز للعربي العراقي، او الفلسطيني او السوري او المصري، ان يكون انسانيا وحضاريا. فهو ممنوع من ذلك. وأصلا هو غير قادر على ان يكون ما يكون الامريكي. هذا هو موجز الفكر العنصري الذي له من العمر عمر أدلجة التفوّق العرقي والتفرقة والتمييز.

نجزم ان هذه المقولة الايديولوجية، مقولة الذات والآخر والصراع بينهما، ومجموعة المفاهيم التي ترتبط بها ارتباطا عضويا، هي التي تتحكم بالتغطية الاعلامية التي تتموج على رقصات الموت الامريكية البريطانية في العراق. فما معنى الحديث الامريكي عن غياب المفاهيم والسلوكيات والتقاليد الانسانية عن العراق في ظل ذبح الاطفال والشيوخ والنساء بالصواريخ والقنابل و"أم القنابل"؟. وما معنى تغييب هذا المشهد المروع الذي ظهر فيه ذلك الانفجار في رأس الطفل العراقي، او المشهد الآخر لطفل آخر يحمل امعائه، عن شاشات التلفزة الامريكية وتلك التي تحتكم بالتعليمات الامريكية، ومن ضمنها الاعلام الاسرائيلي؟.

اذن القتل جائز في حالتنا. فصورة العراقي، والعربي بشكل عام، جرى تشويهها لخدمة تكييف العالم للموافقة على القتل الجماعي. فالعراقي هو وحش مفترس، غير انساني، كامنة فيه طاقات الارهاب. وهو متخلف ويهدد امن العالم بالخطر. فاما قتله الآن، او تهديد العالم بعد حين. والعالم، بطبيعة الحال والموقف، هو امريكا التي خرجت "للدفاع عن امنها القومي" في العراق.

قوة السيطرة الامريكية على بعض وسائل الاعلام اخرجت كل شيء خارج دائرة المعقول: استيعاب القتل والدمار والخراب وفهمه وتفهمه وتبريره. وهذا اخطر ما نلحظه الآن. فلا قيمة لحياة الطفل، ما دامت ماكنة الاعلام الامريكي تقول عنه انه سيكون ارهابيا عندما يكبر. وهي لا تقول فقط. بل تشيع وتضبط وتقنن هذه المقولة وتفرزها الى مرغوب يعزز حالة القبول بالقتل الراهن لانقاذ العالم مستقبلا.

لو عدنا الى اسرائيل الرسمية لوجدنا هذه الصورة الامريكية بقالبها المصغر. ففي الاعلام الاسرائيلي هناك تحمس غير منضبط للحرب. والمعلقون اصبحوا انصاف او اشباه معلقين، لا اكثر ولا اقل. وشبكات التلفزة والاذاعات والجرائد باتت بوقا للدعاية الاستعمارية الانجلو امريكية. فالجندي الامريكي لا يظهر الا وهو يحمل طفلا عراقيا في محاولة لانقاذه وحمايته. وهكذا تجري أنسنة هذا الجندي. ونحن هنا لا نتحدث عن الفرد. انما عن المجموع. فالجندي الامريكي، كمجموع، هو جندي يرتكب مجازر ومذابح في العراق ضد المدنيين. وهو مجرم حرب حسب مفهومنا بعيدا عن المفاهيم التي تحاول امريكا ان تشيعها في العالم. وفي الوقت ذاته فان الاعلام الاسرائيلي، منذ بدء العدوان، يصر على تغييب اية صورة او مشهد للقتلى والجرحى والمصابين من المدنيين العراقيين او للدمار الذي يخلفه العدوان، ذلك ان الامريكي الابيض لا يمكن له ان يقتل ويدمر، واذا فعل فهذا نتيجة خطأ انساني.

لننتبه الى هذه اللغة، الى هذه المحاولة من التزاوج بين الاضداد. القتل وتطيير رأس طفل هو نتيجة "خطأ انساني". وفي ذات السياق يجوز التهجم على العراقيين الذين لا يستقبلون الجنود الامريكيين بالورود والارز، رغم ان الجندي الامريكي يخاطر في نفسه وحياته لانقاذ الشعب العراقي. هكذا يجري تصوير الأمر. وهكذا يتحول العراقي، حتى وهو يموت، الى انسان متخلف لا يستحق الحياة لانه، ببساطة، لا يريد احتضان الجندي الامريكي، وبالتالي فان العراقي لم يمنح الجنود الغزاة اية امكانية سوى قتله.

لنترك اصول العمل الاعلامي جانبا. فما يجري في الاعلام الاسرائيلي يفتقد الى الحد الادنى من الاخلاق. ولا غرابة في ذلك. فالاسرائيلي هو الابيض ايضا، يحمل ذات المفاهيم العنصرية الاستعلائية عن العربي العراقي او العربي في اية دولة اخرى. والاسرائيلي يمارس ذات الحرب على الشعب الفلسطيني. انه يقتل هنا ويدمر ويقصف ويغتال ويجوّع ويحاصر ويحتل. واسرائيل الرسمية راضية تماما الآن. فها هي امريكا تمارس ذات البشاعة التي تمارسها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. ونحن هنا، في هذا القول، لا نحاول ان نحلل. بل نعتمد على ما يقوله الاعلام الاسرائيلي الذي راح يقارن بالصور بين جنين والبصرة، بين رام الله وبغداد. فقد وضعوا صور الاسرى وصور القتلى وصور الجرحى وصور الدمار، هنا وهناك، وقارنوا وحللوا وخرجوا بنتيجة مفادها ان ما تفعله اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني من جرائم تفعله امريكا وبريطانيا بحق الشعب العراقي.

لو كان الامر بقصد الفضح ورفع الصوت ضد الحرب لكنا قبلنا بتلك المقارنة. لكن هدف الاعلام الاسرائيلي الرسمي هو هدف آخر، ذلك انه خرج باستنتاج مفاده ان امريكا، بعد ما ارتكبته وترتكبه في العراق، لا حق لها في انتقاد اسرائيل على ما ترتكبه بحق الشعب الفلسطيني.

هذه هي الانسانية الاسرائيلية الرسمية بعينها. ولا عجب. فمصدر هذه الانسانية هو امريكا. وانسانية امريكا تفوح رائحتها من القتلى والجرحى والدمار الشامل في العراق. انسانية امريكا تتجلى عبر امعاء ذلك الطفل العراقي الذي شاهدناه على شاشات التلفزة في مشاهد تعجز الكلمات عن وصفها.

لا نستعجل بالحكم. ولسنا بحاجة الى براهين للتورط الاسرائيلي الرسمي في هذه الحرب القذرة، بشكل مباشر او غير مباشر. فهذا ما ستكشفه الايام. لكن لعل الزيارة "المفاجئة" للجنرال الامريكي، جي غارنر، الذي يدور الحديث انه سيكون الحاكم العسكري في العراق في حال نجاح العدوان في تحقيق مبتغاه – لعل زيارته "المفاجئة" الى اسرائيل تقول اشياء كثيرة.

لقد نشرت صحيفة "هآرتس" ان هذا الجنرال زار اسرائيل يوم الثلاثاء (25 آذار 2003). واضافت الصحيفة ان غارنر يقول ان الولايات المتحدة بحاجة الى اسرائيل للدفاع عن قواتها في الشرق الاوسط، مستذكرة ان الجنرال ذاته كان قام في اكتوبر 2001 بالتوقيع على وثيقة تتهم الفلسطينيين "بالتسبب باندلاع العنف" بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية، وانه يقول ان اسرائيل قوية هي ذخر امني مهم للولايات المتحدة (صحيفة هآرتس الاسرائيلية – 26 آذار 2003).

واحد هو هذا المنطق المعادي للعرب وللمصالح العربية، تلتقي فيه اسرائيل الرسمية مع الاستعمار الامريكي الجديد – القديم على المنطقة العربية في مبتغى محموم لاعادة ترسيم الشرق الاوسط. واحد في استخفافه بشعب العراق وبالشعوب العربية واعلائه الفكر الاستعماري والفكر العنصري حتى التقديس.

ماذا قال محمود درويش؟.

حاصر حصارك بالجنون وبالجنون. فاما ان تكون او لا تكون!. هكذا هي حال الدنيا ما دامت خارج دائرة المعقول.

كاتب وصحافي يقيم في الناصرة. الناطق بلسان بلدية الناصرة

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات